انسحاب اسرائيل من الارياف الفلسطينية وفتح الممر الامن هما المقياس

بقلم ممدوح نوفل في 25/12/1996

بعد اربعة شهور من المفاوضات شبه اليومية السرية والعلنية، وعلى اعلى المستويات الفلسطينية والاسرائيلية، الرسمية وغير الرسمية، لم يتمكن الطرفان حتى الان من التوصل الى اتفاق بروتوكول لتنفيذ القضايا التي لم يتم تنفيذها من الاتفاقات السابقة الموقعة بين الطرفين، ومن ضمنها الانسحاب من مدينة الخليل. والواضح ان التقدم المحدود الذي احرز حول الترتيبات الامنية والمدنية المتعلقة بوضع مدينة الخليل ، وهلل له البعض، ما زال غير كاف لاتمام مراسم التوقيع. ولسفر نتنياهو وابوعمار الى واشنطن للقاء الرئيس كلينتون. وتبين المفاوضات ان خلافات عميقة مازالت بين الطرفين حول تنفيذ اتفاق اوسلو وملحقاته.
والمعلومات المتوفرة عن سير المفاوضات تبين ان نتنياهو قد تراجع عن بعض مطالبه غير المنطقية التي تمس نصوص واسس الاتفاقات الموقعة بين الطرفين. فقد اوقف مطالبته بالقيام بالمطاردة الساخنة داخل مناطق السلطة الفلسطينية، وكف عن الحديث عن تسليم المطلوبين. وسحب شروطه حول كميات وانواع اسلحة الشرطة الفلسطينية، وتراجع عن بعض شروطه حول فتح شارع الشهداء. ووافق على تشغيل مطار غزة وميناءها في وقت لاحق. وامام الضغط الامريكي والعربي والدولي الذي واجههة اضطر الى تأجل الشروع في بناء حي سكني في ضاحية رأس العامود في القدس، وتأجيل مشروع بناء آخر في جبل ابو غنيم. وسحب الكرافانات التي نصبها المستوطنون قرب مستوطنة بيت ايل. ووافق على تحديد موعد للانسحاب من المناطق السكنية في الارياف الفلسطينية، وعلى اطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين بعد اسابيع قليلة من توقيع الاتفاق بمن فيهم الشيخ احمد ياسين الزعيم الروحي لحركة حماس في الضفة والقطاع.
وفي ضوء تراجعات نتنياهو يمكن لمن يريد من المتفائلين، فلسطينيين وعرب ودوليين، رؤية النصف الممتلئ من الكأس فقط، والقول بان عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي بخير وان المفاوضات تسير في الاتجاه الصحيح، دون الخوف من الاتهام بالافراط في التفاءل واحلال الرغبات الذاتية كبديل للوقائع. ويمكنهم ايضا الاشادة بدور الوسيط الامريكي، والتبشير ايضا بقرب التوصل الى اتفاق حول الموضوع. الا ان كل من يدقق في القضايا التي ما زالت موضع خلاف وبخاصة الانسحاب من الارض في ريف الضفة الغربية، وفتح الممر الامن بين الضفة والقطاع، والترتيبات الامنية داخل وحول الحرم الابراهيمي الشريف، بامكانه رؤية القسم الفارغ من الكأس. ويمكنه القول ايضا بأن المفاوضات ما زلت في حالة الخطر الشديد ولم تخرج من غرفة الانعاش دون ان يتهم ايضا بالافراط في التشائم. فالقضايا العالقة رغم قلة عددها هي الاساس. والحكم على حالة المفاوضات ومصيرها قبل التوصل الى اتفاق حولها فيه الكثير من التسرع. فالانسحاب من الارض الفلسطينية “وليس مسطحات البلدات والقرى والخرب فقط ” في منطقتي b وc وتسليمها للسلطة الفلسطينية، وفتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع، هما الامتحان الحقيقي لمدى نجاح المفاوض الفلسطيني في انتزاع الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها الاتفاقات التي تم توقيعها بين الطرفين. وهما الامتحان ايضا لمواقف نتنياهو ونواياه اتجاه اتفاق اوسلو وملحقاته واتجاه كل عملية السلام. لاسيما وان أطراف الائتلاف الحاكم تحاول حصر المفاوضات في الترتيبات الامنية والمدنية المتعلقة بمدينة الخليل فقط. ويرفض بعض اقطاب الليكود “شارون وبني بيغن” وعدد آخر من الوزراء بشدة تحديد جدول زمني لتنفيذ هاتين المسألتين الرئيسيتين في الوقت الذي تتضمن الاتفاقات نصوصا صريحة بذلك. ويعتبرهما الطرف الفلسطيني مفصليتين في كل المفاوضات الجارية واللاحقة.
فالاتفاق حول الشروع في تشغيل الممر الامن بين الضفة والقطاع يعني فقدان الجانب الاسرائيلي لعدد من اوراق الضغط الامنية والاقتصادية والاجتماعية التي يستخدمها ضد الفلسطينيين سلطة وشعب. ويقود الى توحيد اقتصاد السوق الفلسطيني. وينهي الكثير من عذابات المواطنيين الفلسطينيين. ويحسن موقع السلطة في صفوف قطاعات واسعة من الناس العاديين وبخاصة ابناء القطاع المحرومين من الوصول الى الضفة الغربية ومن اللقاء مع اهلهم ومن الدراسة والعلاج والتجارة في الضفة الغربية. وأظن ان انجاز هذه المسألة تخلص المفاوض الفلسطيني والقيادة الفلسطينية من تهمة الغزاويين بنسيان قضاياهم مقابل اقل من 400 بطاقة v I p منحت من السلطات الاسرائيلية لقيادة وافراد السلطة الفلسطينية. والاهم من ذلك كله فهي تعني موافقة الليكود على الوحدة الجغرافية للضفة والقطاع التي نص عليها اتفاق اوسلو في البند الاول من المادة 11 المتعلق بالارض والتي تقول ” ينظر الجانبان للضفة الغربية وقطاع غزة على انهما وحدة اقليمية واحدة، وسيتم المحافظة على وضعها ووحدة اراضيها خلال المرحلة الانتقالية “.
اما تنفيذ خطوة اعادة الانتشار والانسحاب من منطقتي b و c فسيؤدي الى الجلاء الاسرائيلي عن قرابة 80% من ارض الضفة والقطاع وتحرير قرابة 900 الف مواطن فلسطيني بقوا تحت الاحتلال حتى الان. وانجاز هاتين المسألتين “الانسحاب والممر الآمن” يعني من الناحية الاستراتيجية وقوع تغير نوعي في ميزان القوى في الضفة الغربية لصالح السلطة الفلسطينية. ويعزز مواقعها في المفاوضات اللاحقة. وينهي مشروع الحكم الذاتي كسقف للحل النهائي، سواء اكان بالمفهوم الليكودي او بمفهوم حزب العمل. ويوجه ضربة صميمية لعقيدة الليكود وكل الاحزاب الدينية الاخرى. وينهي فكرة ارض الميعاد ويشطب تعريفهما بيهودا والسامرا من القاموس السياسي الاسرائيلي. ولعل تمسك الجانب الفلسطيني بانجاز اتفاق حولهما قبل التوقيع على اي اتفاق بشأن الوضع في مدينة الخليل، وما يقابله من رفض يميني اسرائيلي لاي اتفاق حولهما خير شاهد على ذلك، ودليل على القيمة الكبرى المادية والمعنوية لهاتين المسألتين عند الطرفين. ودليل على مركزية موقعهما في المفاوضات الجارية واللاحقة، وفي تقرير مصير عملية السلام طيلة عهد حكومة نتنياهو.
لقد رفض نتنياهو الاخذ بنصيحة عدد من قادة اجهزة مخابراته الذين اقترحوا ترحيل المستوطنيين من مدينة الخليل الى مستوطنة كريات اربع. وبدلا عن ذلك حاول في المفاوضات تطبيق مقولته الشهيرة بان الفلسطينيين والعرب يقبلون غدا ما يرفضونه اليوم، الا انه لم ينجح حتى الان. وما زال يحاول دون ان يجد قوة دولية تردعه. ناسيا او متناسيا ان حالة الفلسطينيين وموازين القوى بعد اوسلو تختلف نوعيا عنها قبله. وان ما كان يصح على مواقف القيادة الفلسطينية وهي في الشتات ليس بالضرورة ان يصح وهي على ارضها وتعيش وجها لوجه مع شعبها وتحت رقابته. وبينت المفاوضات أن ليس سهلا على الطرف الاسرائيلي املاء مفهومه على الطرف الفلسطيني أو جعله المفهوم المرسم دوليا. كما بينت ايضا ان نتنياهو لا يتمتع بالصلابة الايدلوجية والسياسية التي تمتع بها شامير، وانه غير قادر على تحمل ضغوط دولية امريكية واوروبية اقل نسبيا من تلك التي تعرض لها شامير. ولا يستطيع اي مراقب موضوعي حتى لو كان معارضا لاتفاق اوسلو انكار التحسن النوعي الذي وقع في ادارة الجانب الفلسطيني للمفاوضات الجارية، وبخاصة صموده امام الضغوط الامريكية والاسرائيلية الهائلة التي تعرض لها، وحسن استغلاله للتطورات المتلاحقة على الارض وعلى صعيد العلاقات مع الاسرائيلين بما في ذلك نصف المجزة التي ارتكبت مؤخرا في الخليل والمصادمات العنيفة التي وقعت في ايلول بعد فتح النفق تحت مدينة القدس القديمة
والموضوعية ذاتها تفرض ان يسجل بالمقابل للمفاوض الليكودي نجاحه في التمويه على مواقفه المخالفة لكل القوانين والاعراف التي تفرض احترام الاتفاقات الدولية وتعطيها حصانة معينة. وفي هدر فترة زمنية طويلة ثمينة من عمر شعوب المنطقة، وايضا في اثارة تشويش دولي حول الموقف المصري الحريص على صنع سلام حقيقي دائم وعادل في المنطقة، وحول المطالب والمواقف الفلسطيني العادلة واتهام القيادة الفلسطينية بانها تضيف مطالب جديدة كلما اقترب الطرفان من الاتفاق. ويسجل له انه نجح الى حد كبير في تمييع موقف الراعي الامريكي وتحويله الى شاهد زور وراعي ليس أمين وغير عادل. والموضوعية ذاتها تفرض تسجيل ان هذا النجاح الليكودي اضعف الثقة بعملية السلام، واطال من عمر الصراع في المنطقة. وان التباهي به سوف يجلب المزيد من الكوارث والدمار لكل شعوبها ومن ضمنهم شعب اسرائيل. واعتقد انه ما لم يطرأ تغييرجوهري في مواقف احد الطرفين او في دور الراعي الامريكي فان المفاوضات سوف ستطول والاتفاق سوف يتأخر. ومن حق الفلسطينيين وكل الحريصين على صنع السلام والاستقرار في المنطقة التساؤل هل سيمر تنفيذ ما سيتم التوقيع عليه بيسر ودون عراقيل يضعها المتضررون في الطريق ؟ ومن حقهم التساؤل هل من اتفاقات جديدة بعد هذا الاتفاق؟ والقول ايضا اذا كانت المفاوضات حول تنفيذ اتفاق الخليل قد استغرقت اكثر من اربع شهور حتى الان فكم من الوقت ستستغرق المفوضات حول قضايا الحل النهائي؟
ومن جدير ذكره ان المفاوضات بينت هشاشة دور الراعي الامريكي وانحيازه للموقف الاسرائيلي. ويورد المفاوضون الفلسطينيون امثلة كثيرة على هذا الانحياز. ولا يخفون امتعاظهم من دور الوسيط الامريكي، ويعلن بعضهم عن امنياته باستبداله بوسيط آخر اكثر انصافا. ويعتقدون ان وزيرة الخارجية الامريكية اولبرايت المعروفة بمواقفها المتشددة والمساندة لاسرائيل قد تكون ارحم من دينس روس. ويرددون مقولة خلاصتها “المفاوضات وجها لوجه مع نتنياهو اسهل منها مع المبعوث الامريكي دينس روس”. وأظن ان دينس روس غير منزعج من هذه الصورة وتلك الاقوال، لاسيما وانها تخدم تكتيكه التفاوضي الذي يقوم على عدم تقديم اية مقترحات امريكية، وترك الطرفين يستخلصان قاوسهما المشتركة حول القضايا المختلف حوله. ولا نذيع سرا اذا قلنا ان تكتيك روس يشجع بعض الاوساط الفلسطينية قصيرة النفس على التمسك باعتبار العلاقة الثنائية الفلسطينية الاسرائيلية هي المدخل للحل وهي المخرج الوحيد للخروج من المأزق وانقاذ عملية السلام.