عمليةالسلام بعد دخولها دهاليز نفق القدس المظلم..الى اين؟ القسم الاول

بقلم ممدوح نوفل في 08/10/1996

الدروس والنتائج السياسية والعسكرية المستخلصة من معركة النفق
جولة في آفاق معركة النفق واجتماعات ايرتز
بعد الصدامات الدامية التي وقعت بين الطرفين اواخر ايلول الماضي، استئنفت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، وعقدت لجنة التوجيه الفلسطينية الاسرائيلية اجتماعها الاول يوم 6/10/1996، بمشارك دنيس روس المنسق الامريكي لشؤون عملية السلام في الشرق الاوسطن، وذلك بناء على اتفاق الطرفين في قمة واشنطن على استئناف مفاوضاتهماالمباشرة لمعالجة كل القضايا والمواضيع القديمة والمستجدة. والواضح ان قمة واشنطن فشلت في تحديد جدول اعمال هذه المفاوضات تماما كما فشلت في معالجة المواضيع الجوهرية التي من اجلها انعقدت. ولهذا دخل الطرفان غرف المفاوضات في ايرتز وفي جعبة كل منهما اجندته الخاصة. وفي ذهنه اولويات تختلف جوهريا عن اولويات الطرف الاخر. وفي سياق التحضير لهذا الاجتماع ظهر ان الجانب الاسرائيلي لم يحبذ دخول المندوب الامريكي الى غرف المفاوضات كشريك وشاهد دائم الحضور. الا ان اصرار الجانب الفلسطيني على المشاركة الامريكية ساهم في معالجة هذه المسألة الاجرائية الهامة وتمكن دينس روس من الحضور. ومن غير الواضح حتى الان فيما اذا كان الطرف الاسرائيلي سيوافق بصورة رسمية على ان تصبح المفاوضات على المسار الفلسطيني ثلاثية اعتبارا من هذه الجلسة. لاسيما وان موافقته على المشاركة الامريكية المباشرة تمت على مضض. وما زال يعتبرت مستشارا ويرفض بشدة مشاركة ممثل للسوق الاوروبية المشتركة .
لا شك ان لقاء لجنة التوجية المشتركة هذه المرة يختلف تماما عن اللقاء اليتيم الذي عقدة الطرفان في عهد نتنياهو يوم 9/9/1996. فالوفدان يلتقيان وهما متوترين. واعصاب جميع اعضائهما مشدودة الى ابعد حد. فكلاهما يدرك انه يدخل الاجتماعات وهناك من يراقبه وينتظر ما سيخرج عنها. بدء من الاسر التي فقدت ابنائها في الاشتباكات وانتهاء بزعماء الول الكبرى وعلى راسهم الرئيس كلينتون. ويدور الان في اوساط قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجة الكثير من التساؤلات. منها هل ستتمكن مفاوضات ايرتز من تحقيق ما عجز كلينتون وياسر عرفات ونتنياهو والملك حسين عن تحقيقه؟ وهل سيتمكن الوفدان من انقاذ عملية السلام بعدما دخلت في غيبوبة كاملة وصار ميؤس انقاذها؟ وهل ستتمكن مفاوضات ايرتز من امتصاص حالة التوتر الشديدة التي يعيشها الشارع الفلسطيني والاسرائيلي وبالتالي تعطيل انفجار الصراع الدموي من جديد والعودة الى لغة الحوار بعيدا عن الرصاص؟ واذا فشل الوفدان فما هي النتيجة وباي اتجاه ستتحرك رياح المنطقة وبخاصة على صعيد العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية..الخ من الاسئلة الكبرى .
اعتقد ان الاجابة الصحيحة عن هذه الاسئلة الهامة يتطلب اجراء مراجعة ودراسة وافية لمواقف الطرفين قبل الصدام الذي سبق هذا اللقاء ولاولويات كل منهما. واستعراض نتائج الاتصالات والتحركات الواسعة والشاملة التي شهدتها المنطقة قبل وخلال اشتباكات الاسبوع الاخير من ايلول الماضي. وكذلك التوقف مطولا امام المعركة القاسية التي خاضها الطرفان ضد بعضهما البعض والتدقيق في النتائج التي اسفرت عنها تلك المعركة. واثر ذلك على مواقف الطرفين، وعلى المفاوضات الجارية في ايرتز، وعلى القضية الوطنية الفلسطينية. وهذه الدراسة هي محاولة تتضمن قراءة واقعية في احداث معركة النفق ومسبباتها. وبحث في النتائج والدروس المستخلصة والعبر المستفادة منها. وفيها محاولة سريعة لتحديد الافاق المستقبلية لعمية السلام واتجاهات العمل المفترضة على الصعيد العربي والفلسطيني وهذه مطروحة على الجميع .
اظن ان لا خلاف فلسطيني داخلي ولا اسرائيلي داخلي ولا فلسطيني اسرائيلي على ان الاحداث الدموية التي شهدتها مدن الضفة الغربية وقطاع غزة في الاسبوع الاخير من شهر ايلول الماضي هي حدث نوعي طرأ على العلاقة بين الطرفين وهذا الحدث وقع مباشرة بعد قيام نتنياهو باعطاء الاوامر لرئيس بلدية القدس “ايهود اولمرت” بفتح النفق التاريخي المحفور تحت المدينة المقدسة. وبصرف النظر عن حجم الخسائر البشرية والاقتصادية التي لحقت بالطرفين الفلسطيني والاسرائيلي ابان تلك الاحداث، او المكاسب السياسية التي جناها كل منهما منها، فما حصل هو معركة سياسية بين السلطة الفلسطينية وبين حكومة نتنياهو، استخدمت فيها بعض الامكانات المتوفرة لدى الطرفين وليس كلها. ومهما كانت المطالب والشعارات التي رفعها الفلسطينييون في ذلك الصدام العنيف، فاني اعتقد انه بالامكان اطلاق اسم “معركة النفق” على الهبة الجماهيرية التي شاركت فيها السلطة الوطنية الفلسطينية. ومؤسساتها التنفيذية والتشريعة، واجهزة الامن الفلسطينية. وان هذه المعركة تستحق التدوين والتوثيق. وتستحق التأريخ باعتبارها محطة رئيسية في العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية، لها موقعها المفصلي في الصراع الفلسطيني والعربي الاسرائيلي وسوف يكون لها ما بعدها من نتائج وآثار على اوضاع المنطقة. وسوف يكون لها دورا مهما في تفعيل هذا الصراع المزمن باشكال مختلفة، وتحريكه من جديد. فهو اشتباك دموي عنيف استخدمت فيه الاسلحة لاول مرة، بين السلطة الفلسطينية وحكومة اسرائيل على الارض الفلسطينية بعد توقيع الاتفاقات بين الطرفين. وهو ايضا اول تحرك شعبي فلسطيني شامل منذ قيام السلطة الفلسطينية على ارض فلسطين.
ومهما كانت آراء المحليين السياسيين والعسكريين في معركة النفق اوهبة ايلول فهي وبما نتج عنها سياسيا وعسكريا وجماهيريا، وبما سيترتب عليها مستقبلا على صعيد العلاقات بين الطرفين سوف تفرض نفسها على المؤرخيين المهتمين بتأريخ الصراع الفسطيني الاسرائيلي. مثلها مثل كل الاحداث والمعارك الكبرى الاخرى التي وقعت بينهما ابان صراعهما الدموي الطويل. بدءا من هبة البراق عام 1929، مرورا بمعركة الكرامة عام 1968 وسواها من المعارك الاخرى، وانتهاء بحرب بيروت عام 1982. وبما انها من هذا المستوى تستحق ان يتوقف البحاثة والمحليين السياسيين والعسكرين الفلسطينيين والعرب امامها وان يتعمقوا في تحليلها ودراسة انعكاسات نتائجها على الوضع الفلسطيني والعربي. وعلى اوضاع ومستقبل عملية السلام في عهد حكومة الليكود. وان يستخلصوا الدروس والعبر المفيدة منها. فوقائعها ومجرياتها ومدلولاتها وتفاعلاتها الاولية كافية لاستخلاص الكثير من دروسها الهامة للشعب الفلسطيني ولقيادته السياسية، حتى ولو كانت هذه الاستخلاصات اولية وناقصة. فمعركة النفق هدأت الان لكنها لم تتوقف. وهدوئها سيبقى مؤقتا طالما لم يحقق أي من الطرفين كل او بعض اهدافه الاساسية التي توخى تحقيقها منها. ونتائجها على الجيش الاسرائيلي سوف تعجل اشتعال نيرانها من جديد .
ومن تابع مواقف وتصريحات الرسميين الاسرائيلية خلال الايام الثلاث الدامية وبعدها، يستطيع فهم موقع “معركة النفق” في الفكر والتحليل السياسي العسكري الاسرائيلي. فرئيس دولة اسرائيل عازر وايزمن، وزعماء المعارضة الاسرائيلية، ووزراء في حكومة نتنياهو اجمعوا على اعتبارها نقطة تحول في مسيرة السلام الفلسطينية الاسرائيلية، وفي العلاقة مع السلطة الفلسطينية. وطبعا لكل اتجاه من الاتجاهين قناعته الخاصة ومفهومه المختلف لهذا التحول. فوايزمن وزعماء المعارضة حذروا من تحول هذه المعركة الى شرارة تحرق كل الاوراق والاتفاقات التي وقع عليها الطرفان. وتنسف الاسس التي قامت عليها عملية السلام. وتجرف الجهود الدولية والاقليمية الكبيرة التي بذلت على مدى خمس سنوات كاملة. وتعيد اوضاع المنطقة الى حالة الكراهية والعداء، وتشعل الحروب المدمرة من جديد. ولعل المؤتمر الصحفي الذي عقدة نتنياهو في اليوم الثالث من المعركة 27/9/1996 بحضور اركانه السياسيين والامنيين والعسكريين يبين فحوى فهم اليمين الاسرائيلي للمعركة. ويظهر الاهمية الكبيرة التي اولتها وتوليها لها القيادة السياسية العسكرية الاسرائيلية ويكفي القول بانه كان المؤتمر الصحفي الاول الذي يعقد في تاريخ اسرائيل بهذا الشكل الجماعي، وعلى هذا المستوى السياسي العسكري الامني الرفيع. واذا كان لنتنياهو اهدافه الداخلية من عقده بالشكل الذي انعقد فيه، وتحديدا اشراك اركان حكومته في تحمل المسؤولية عن التطورات الكبيرة التي وقعت في العلاقة مع السلطة الفلسطينية، فهو يعكس ايضا نظرة القيادة الاسرائيلية لخطورة الاوضاع الجديدة التي اشعلتها الشرارة الحارقة التي خرجت من نفق القدس.
تباين في الرؤيا الفلسطينية
اما الرؤيا والموقف الفلسطيني الرسمي والشعبي لما حصل ايام 25و26و27 ايلول الماضي، ولما قد يحصل لاحقا، فيمكن توضيحها من خلال تشخيص الحالة التي عاشتها الساحة الفلسطينية قبل المعركة، وسرد الاراء المتباينة حول الموضوع. والتدقيق في بعض المواقف والاراء التي طرحت وما زالت تطرح في الاوساط القيادية والكادرية الفلسطينية حتى الان. ولا نذيع سرا اذا قلنا انه كان ومازال هناك تباينا جوهريا على اعلى المستويات الفلسطينية حول تقدير الموقف. وحول تشخيص اسباب اشتعال معركة النفق. وايضا حول نتائجها المباشرة وآفاقها اللاحقة القريبة والبعيدة وحول كيفية استثمارها. حيث يطرح امام القيادة السياسية والعسكرية الفلسطينية رأيين متناقضين تماما : الاول، اقلي ضعيف الحجة. ينتمي اصحابه للاتجاه الداعي الى الاستمرار في العمل الثنائي الفلسطيني الاسرائيلي. وكأن شيئا لم يكن ولم يقع. ويطالبون بعدم التورط في شباك الوضع العربي ودهاليزه. ويعتقد اصحابه: ان ما حصل هو مصيدة اسرائيلية نصبت للفسطينيين. ومخطط اسرائيلي مدروس وضعه بعض اركان حكومة الليكود. وان فتح النفق وما رافقه من اثارة واستفزاز اسرائيلي للشارع الفلسطيني ولمشاعره الدينية كان مقصودا، وهدفه استدراج الطرف الفلسطيني لمعركة محسوبة، وتحميله مسؤولية تفجير الاوضاع. ويعتقد المنتمون لهذا الاتجاه ان نتنياهو واركانه الاساسيين نجحوا في استدراج السلطة الفلسطينية وقيادة م ت ف للدخول في معركة سياسية عسكرية مباشرة “وعلى المكشوف”. بهدف اضعاف سلطة السلطة الفلسطينية. والتهرب من دفع الاستحقاقات المطلوبة وفقا للاتفاقات الموقعة بين الطرفين. ولتعطيل تنفيذها واعادة فتحها من جديد لاعادة النظر فيها، وبخاصة تلك التي تعطي للسلطة الفلسطينية بعض اشكال السيادة. وخلق الظروف السياسية والامنية المواتية، ولقتل اتفاق اوسلو، وصولا الى دفن بقايا عملية السلام الى الابد. وفرض الحل الليكودي للصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ويعتقدون ان قادة حزب العمل ساهموا في تضليل الفلسطينيين لاغراض تتعلق بصراعاتهم مع الليكود، وشجعوهم على التصدي لسياسة نتنياهو والانجرار الى ساحة المعركة التي فتحها.
ويطالب اصحاب وجهة النظر هذه بان تسارع السلطة وكل الفصائل الفلسطينية الى الانسحاب السريع من المعركة المفتوحة قبل ان تتطور. والخروج منها باقل الخسائر الممكنة قبل ان تكبر. ويدعون السلطة بالعمل على تهدئة الاوضاع، وضبط سلوك العناصر والكوادر الجماهيرية والعسكرية الفلسطينية. وضبط حركة الشارع والسيطرة عليها وعدم التساهل معها او الانجرار ورائها. واغلاق الطريق امام المعارضة ومنعها من استغلالها لصالح الترويج لمواقفها المتطرفة. وتغيير منحى الخط التعبوي والاعلامي الفلسطيني الذي يخدم المتشددين الفلسطينيين.. واعتماد قناة المفاوضات كقناة وحيدة لتحصيل ما يمكن تحصيلة ومتابعة المفاوضات مع الحكومة الاسرائيلية دون تدخل من احد. ويضيفون ان نتنياهو وشارون وايتان وزئيفي لن يقدموا للفلسطينيين أي شيء تحت الضغط الفلسطيني او العربي والدولي. ويستشهدون بفشل قمة واشنطن. وعدم قدرة الرئيس كلينتون على الضغط على اسرائيل. ويطالبون بضبط النفس والتحلي بالصبر وعدم الوقوع في الكمين الذي نصبه الليكود للسلطة ولعملية السلام. ويقولون انه بالامكان في ظل الاوضاع الاسرائيلية الداخلية والاوضاع الاقليمية والدولية تحقيق مزيد من المكاسب عبر فقط مزيد من المفاوضات الثنائية المباشرة. ومن خلال اقناع قيادة الليكود وشركائه في الحكومة بان السلطة الفلسطينية واجهزتها الامنية حريصة على امن اسرائيل والاسرائيليين، وقادرة على ضبط الامن في المناطق الخاضعة لسيطرتها. ويبشر اصحاب هذا الراي بموقوع ما لا يحمد عقباه اذا تجدد الصدام بين الطرفين وتجددت التحركات الشعبية ورافقها استخدام السلاح مرة اخرى.
الحقوق في خطر والدفاع عنها واجب الجميع
اما الرأي الاخر فيرى اصحابه في الصدام الذي وقع بين السلطة الفلسطينية ممثلة بقطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني المقيم على ارض الوطن وبين حكومة اسرائيل ممثلة بالجيش والمستوطنيين بانه نتاج طبيعي لانسداد مجرى عملية السلام في عهد الليكود. ولصعود القوى المتطرفة الى سدة الحكم في اسرائيل، ولتمسكها بمواقفها الايدلوجية وتوجهاتها السياسية الرافضة لاتفاق اوسلو وما نتج عنه. ولشروعها العملي في تنفيذ هذه التوجهات، وبخاصة اضعاف السلطة، وتجويع الناس، ومصادرة الاراضي والتوسع في الاستيطان. ويرون في معركة النفق على انها نتاج طبيعي لتمسك الشعب الفلسطيني وقيادته الوطنية بالاهداف الكبرى التي من اجلها ناضلوا سنين طويلة، ومن اجلها دخلوا في عملية السلام التي انطلقت من مدريد عام 1991. ونتيجة طبيعية لاستشعارهم بالمخاطر الجدية الكبرى التي بدأت تحيط بقضيتهم في عهد حكومة الليكود. ويعتقدون ان استمرار الصمت على سياسة نتنياهو وحكومته يقود الى هدر الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها قرارات الشرعية الدولية. ويمّكن قوى الائتلاف الحاكم من نسف الاتفاقات التي وقعت بين الطرفين. ومن تنفيذ برامجهم ومخططاتهم التي اعلنوها قبل وبعد الانتخابات. الرامية الى قتل عملية السلام ودفنها نهائيا. ويرون ان من الطبيعي ان تتولى السلطة وقيادة م ت ف قيادة دفة الصراع مع حكومة نتنياهو. وان تزج فيها الامكانات والطاقاتها المطلوبة وبصورة مدروسة. وان من حق وواجب الشرطة الفلسطينية ان تقوم بالدفاع عن نفسها وعن مواقعها وعن شعبها. فغير ذلك يقودها الى التخلف عن حركة الشارع الفلسطيني ولاحقا الى التصادم معه، والدخول في حرب اهلية. لاسيما وان الحكومة الاسرائيلية لا تتعامل مع القيادة الفلسطينية باعتبارها شريك يجب احترام وتقدير مصالحه ورأيه، ولو بالحدود الدنيا المتعارف عليها سياسيا ودبلوماسيا. وان الاغلبية الساحقة من الجماهير الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية وخارج الوطن، ومن كوادر وقواعد السلطة تعتقد ان فتح النفق جاء في سياق سياسة تهويد مدينة القدس وتغيير معالمها التاريخية التي تشهد على عروبتها. وذات الشيء يجري في مدينة الخليل. وان تمريرهذه الخطوات الاسرائيلية يفتح شهيتها على ماهو اكبرواخطر ويعتقدون ان مواقف الليكود وايدلوجيته تغلق الافق امام ايةلا افق لاية مفاوضات ثنائية بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو. وللتدليل على صحة وجهة نظرهم يستشهد اصحاب وجهة النظر هذه بالتفاعلات الدولية والاقليمية التي خلقتها المعركة. وبالنتائج السياسية والجماهيرية الاولية الايجابية التي احدثهتا على وضع القضية الفلسطينية ومركز السلطة الوطنية عربيا وعالميا. ويؤمنون ان ردع نتنياهو وتعطيل توجهاته، وتفعيل الوضع الشعبي والرسمي العربي، وتحريك قوى السلام في اسرائيل وكل القوى الدولية المهتمة باستقرار اوضاع المنطقة يتطلب، ان يتحرك الفلسطينيون اصحاب القضية اولا، وانهم اذا لم يتحركوا فلن يتحرك الآخرون.
لاشك في ان المناقشات الجارية الان في الشارع الفلسطيني والعربي حول معركة النفق ظاهرة صحية ويجب تشجيعها. ويفترض ان تكون حدتها قد زادت بعد فشل قمة واشنطن، واظن انها ستزداد اكثر فاكثر في غضون الايام والاسابيع القليلة القادمة عندما يشتد الصراع الفلسطيني الاسرائيلي في غرف المفاوضات وعلى الارض. فالثابت ان عملية السلام كانت قبل الصدام قد فقدت الى حد كبير جدا مصداقيتها عند الفلسطينيين والاسرائيليين. وكانت غير قادرة على تجاوز العراقيل التي انتصبت امامها وكانت تعيش ازمة قاتلة، واوضاعها لم تكن اطلاقا على ما يرام.
وبجانب ذلك بينت الاتصالات واللقاءات، التي تمت قبل وبعد فتح النفق، ان نتياهو يستهتر بالشراكة مع الفلسطينيين، وبالاتفاقات الموقعة مع الشريك الاخر، ويحاول اذلاله امام جمهوره وامام العالم. وهذا الموقف زاد من قلق الناس الجمهور الفلسطيني العريض في الضفة والقطاع على لقمة عيشه. ولم يبدد قلقهم من فوز نتنياهو شارون وايتان وخوفهم على ارضهم من اخطبوط الاستيطان بل زاده. وذات الشيء ينطبق على اللاجئين والنازحين من الفلسطينيين المقيمين على الارض الفلسطينية وفي المنافي البعيدة. فاللقاءات لم تحل لهم المشكلات التي تنغص عليهم حياتهم اليومية. وقتلت فسحة الامل التي بانت بعد اوسلو في امكانية بحث قضيتهم. وبينت لهم ان القيادة الاسرائيلية لا تأخذ المصالح الفلسطينية بعين الاعتبار. ولا تراعي المشاعر والمعتقدات، ولا قدسية الاماكن الدينية. وتعتدي على اسس العلاقة وتمتهن الكرامة والشراكة. اما التحركات الدولية والاقليمية التي تمت فلم تستطع ان تعيد للاغلبية الساحقة من الفلسطينيين داخل الاراضي الفلسطينية المحررة وشبة المحررة او التي ما زالت تحت الاحتلال الثقة المفقودة بعملية السلام بل عمقتها. فقد بينت ان نتياهو يستخف بمصالح الطرف الفلسطيني في عملية السلام، وبمواقف الدول العربية، ومواقف ومصالح ومواقف القوى الدولية والاقليمية بما في ذلك الدول الكبرى الدول الاوروبية الولايات المتحدة الامريكية وروسيا.
من المسؤول عن اشعال النار
وفي سياق تحديد المسؤولية عن الانفجار لايمكن لاي مححقق نزيه الا ان يحمل الراعيين وبخاصة الراعي الامريكي قسطا كبيرا من المسؤولية. فهو بصمته فترة طويلة جدا على مواقف نتنياهو وعن تلاعبه بعملية السلام، عمق الشك عند الفلسطينيين سلطة وشعب في جدوى انتظار فعل الموقف الدولي، وبخاصة الموقف الامريكي وتأثيره على اسرائيل. فرغم المناشدة المتكررة بالتدخل السريع لانقاذ عملية السلام لوحظ تهربه من ممارسة اية ضغوط على اسرائيل. وبالمقابل لمس تشجيعه لنتنياهو واركان الليكود خلال زيارته لواشنطن، على المضي قدما في تجريد عملية السلام من بقايا روحها. والتطاول على الاتفاقات الرسمية التي وقعت في واشنطن في حديقة البيت الابيض وفي وشرم الشيخ، بحضور عددا من زعماء العالم. وهذا التناغم في المواقف الاسرائيلية ـ الامريكية ساهم الىحد كبير في دفع الوضع في المنطقة الى حافة الانفجار. وفي ايصال الطرف الفلسطيني شعبا وقياده الى حالة اليأس والاحباط التي سبقت الاشتباكات. وزادت قناعته بان لا امل في التحرك الدولي اذا لم يبادر هو اولا الى الحركة وخلط الاوراق من جديد. وبامكان كل محلل سياسي تصور ردود الفعل الفلسطينية عندما يرفض الراعي الامريكي في المشاورات التي جرت في اروقة الامم المتحدة بين الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية ادراج التمسك بمبدا الارض مقابل السلام كاساس لمعالجة الصراع العربي الاسرائيلي.
ويمكن القول ان دخول الفلسطينيون “معركة النفق” ومشاركة قطاعات واسعة من الشعب فيها لم تكن عفوية على الاطلاق. بل جاء نتيجة تراكم حالة من اليأس والاحباط من نتائج عملية السلام. وشعوره بالقهر والاضطهاد. ترافق مع التقاط القيادة الفلسطينية للخطئية السياسة التي ارتكبها نتنياهو بفتح النفق ولعبه بالمقدسات الدينية. ولعل المواقف الواضحة والصريحة التي اعلنتها المؤسسات الفلسطينية التشريعية والتنفيذية والدينية على امتداد الاسابيع القليلة التي سبقت وقوع الصدام، وعند فتح النفق خير دليل على ذلك. فالقيادة الفلسطينية تعرف ان للقدس موقعا مميزا عند الشعب الفلسطيني وعند كل الشعوب العربية والاسلامية. وتدرك جيدا بان من السهل تعبأة الشارعين الفلسطيني والعربي وتحريكهما نحو خوض معركة الدفاع عن القدس وعن الاماكن المقدسة فيها. وكانت قبل المعركة تدرك ان الجماهير المؤمنة سوف تهب دفاعا عن الاقصى حتى لو لم تتحرك السلطة. والواضح ان القيادة الاسرائيلية التي لا تستوعب هذه المشاعر، ولذا فوجئت بحجم ردود الفعل الفلسطينية الشعبية والرسمية. تماما كما فوجئت بسلوك الشرطة الفلسطينية. ولم تكن تتوقع ان يتجرأ… افرادها على اطلاق النار باتجاه جيش الدفاع الاسرائيلي.
وفي سياق تحديد المسؤولية عن الانفجار لا يمكن ايضا اعفاء قوى السلام الاسرائيلية وقادة وكوادر حزب العمل وحركة ميرتس. فهم بالرغم عن معرفتهم بطبيعة الليكود وبالحدود التي يمكن للجانب الفلسطيني الوصول لها من اجل السلام، وبالرغم عن قناعتهم الاكيدة بان اوضاع عملية السلام والعلاقات مع الفلسطينيين بدأت تتجه بعد فوز نتنياهو بسرعة نحو الانفجار، الا انهم لم يتحركوا كما يجب، ولا في الوقت المناسب لانقاذ عملية السلام ولمنع نتنياهو من اشعال فتيل الانفجار.
ويمكن بكل موضوعية تحميل نتنياهو المسؤولية كاملة عن انفجار الاوضاع. وعن ما سيقع لاحقا. فقد كان وما زال يؤمن بالنظرية الصهيونية العنصرية التي رددها قبل الانتخابات الاسرائيلية وبعد جلوسه على كرسي رئاسة الوزراء والتي تقول: ان العرب عامة والفلسطينيون خاصة يقبلون غدا ما يرفضوه اليوم، شريطة ان يفهموا ان لا امل لهم في ما يطلبون. وانهم يتنازلون اكثر فاكثر كلما حشروا وقمعوا واضطهدوا اكثر. ومراجعة تاريخه السياسي يبين انه خاض معركته الاعلامية ابان مشاركته في المفاوضات العربية الاسرائيلية في مدريد وواشنطن وفقا لهذه النظرية. وفي حينه كانت له اسهامات كبيرة في الابقاء على تلك المفاوضات تراوح مكانها قرابة عام كامل قبل ان تنتقل السلطة لحزب العمل عام 1992. ويستطيع كل من يراجع كتبه ومواقفه وتصريحاته قبل نجاحه في الانتخابات التاكد من كونه رجل ايديولوجيا وليس براجماتي كما يتصور بعض الفلسطينيين والعرب. وان قناعته بالفكر الصهيوني المتطرف عميقة جدا. وله مواقف عنصرية واضحة ومحددة اتجاه العرب عامة والفلسطينيين خاصة. والواضح انه استمر في اعتناق هذه النظرية بعد فوزه في الانتخابات وحافظ على تكوينه الايديولوجي ويعمل على تطبيق قناعاته على الارض وفي العلاقة مع الفلسطينيين والعرب والعالم. وطبعا هذا لا يعني اطلاقا تبرأة قادة الليكود وقادة الاحزاب اليمينية الاخرين المشاركين في الحكومة من المسؤولية عن الاحداث وعن اراقة الدماء. فالتجربة السابقة والحالية مع حكمهم تؤكد انهم يشاركوه القناعة بهذه النظرية العنصرية ويبذلون قصارى جهدهم لتطبيقها. وبخاصة توسيع الاستيطان في الضفة الغربية باعتبارها ارض الميعاد التي وهبها الرب لبني لاسرائيل.

موقف الجيش الاسرائيلي
لفهم مواقف المؤسسة العسكرية الامنية الاسرائيلية من الاحداث والاشتباكات التي وقعت، اعتقد ان من الضروري والمفيد استذكار مواقفها السابقة من اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات اخرى. لا اتجنى على احد حين اقول انها هي اول من بدأ بالتحفظ على اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات تنفيذية اخرى. فبعد التوقيع على اتفاق اوسلو مباشرة ظهرت في صفوف المؤسسة الامنية العسكرية الاسرائيلية حين كان ايهودا براك رئيسا للاركان حركة احتجاج واسعة. بعضها كان بسبب عدم اشراك الجيش والاجهزة الامنية الاخرى في المفاوضات اوسلو، وبعضها الاخر طال العديد من بنود الاتفاق ذاته. وهي نفس البنود التي اختلف حولها وحول تنفيذها في عهد رابين وبيريز وما زال مختلف حولها حتى الان. منها الالتزام بالتوقيتات الزمنية الواردة في الاتفاقات، وبخاصة التوقيتات المتعلقة بالانسحاب من مدينة الخليل. واعادة انتشار قوات جيش الدفاع في مواقع محددة يتفق عليها. وكذلك الانسحاب من الارياف الفلسطينية أي منطقة ب وج وفتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع. وفي حينها طرحت المؤسسة العسكرية حاجتها الى فترة زمنية اطول من تلك المنصوص عليها في الاتفاق كي تتمكن من تنفيذ الانسحاب واعادة الانتشار دون الاضرار بأمن اسرائيل والاسرائيليين “المستوطنيين” المقيمين في الضفة والقطاع. واستجابة لمطالبها لم يتردد رابين في حينه في وضع نصوص اتفاق اوسلو على الرف. والخروج للعلن بتصريحات قال فيها لا تواريخ مقدسة في الاتفاق مع الفلسطينيين. وخلال تلك الفترة وقبل وقوع العمليات العسكرية التي نفذتها حماس والجهاد الاسلامي وجهت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية ضربات قوية لاتفاق اوسلو.وعطلت تنفيذ العديد من بنود بروتوكولات القاهرة. وظهرت داخلها اصوات مهمة، كان اعلاها واقواها صوت اهود براك رئيس الاركان في تلك الفترة، المرشح الاقوى لزعامة حزب العمل الان، شككت في امكانية تحقيق الحد الادنى من الامن للمستوطنيين في حال تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو. ووضعت المؤسسة العسكرية في ذلك الوقت حكومة اسرائيلية بين خيارين اما تأجيل تنفيذ الانسحاب وتاجيل اعادة الانتشار واما اعادة النظر في وجود المستوطنات وفي حركة المستوطنيين على طرقات الضفة الغربية. ومنذ ذلك التاريخ لم تغيرالمؤسسة العسكرية رأيها، ووجدت في فترة ما في العمليات العسكرية ذرائع ومبررات اضافية. واعتقد ان معركة النفق التي وقعت في الاسبوع الاخير من شهر ايلول الماضي دفعت المؤسسة الامنية العسكرية نحو التشدد والتطرف، وسوف تدفعها نحو كيل مزيدا من الضربات لاتفاق اوسلو ولكل ما نتج عنه. وبخاصة تنفيذ الانسحابات المطلوبة. ولن تواجه هذه المؤسسة مشكلة في انتزاع القرار السياسي المطلوب لذلك. فالقيادة السياسية الحالية تقف ذات الموقف. ومستعدة للمضي الى ما هو ابعد من ذلك بكثير.
والان يمكن القول ان المعركة المباشرة بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو قد فتحت، وان الجيش الاسرائيلي اخذ دوره المباشر فيها. واعتقد ان هدوئها لفترة ما لا يعني عدم انفجارها من جديد، لاسيما وانه من غير المتوقع ان يتراجع أي من الطرفين عن اهدافهما. خاصة وان سلوك الجيش الاسرائيلي الان يؤكد بانه يتصرف ويقود الاحداث ضمن منطق المعركة مفتوحة والقتال قادم وليس سلام ووئام .
صحيح ان المفاوضات بين الطرفين قد تجددت في ايرتز لكن الواضح انها أخذت منحى جديد. واعتقد ان مائدة المفاوضات لن تكون بعد اليوم مكانها الوحيد. ومن المؤكد ان تحتل نتائج الجوله الاولى من الصراع التي اشتعلت من النفق موقعا بارزا على طاولة المفاوضات وسوف يجدها الطرفان في راس جدول الاعمال. ونتائجها لن تغيب عن الاذهان حتى اشعار آخر. وفي سياق رصد هذه النتائج واستخلاص بعض عبرها ودروسها الهامة يمكن تسجيل الكثير. مع الاعتراف سلفا بان اية عملية رصد تجري الان لن تكون وافية ولا كاملة. ولن تعالج ما روكم من كراهية واحقاد اضافية في اذهان وعقول الفلسطينيين