انتفاضة أم صراع مكشوف بين السلطة الفلسطينية وحكومة اسرائيل؟

بقلم ممدوح نوفل في 27/09/1996

لم يكن التنبؤ بالصدام المباشر والعنيف الذي وقع بين السلطة الفلسطينية ممثلة بالمواطنيين ورجال الامن الفلسطيني، وحكومة الليكود ممثلة بالجيش والمستوطنيين ايام 25 ـ 26 ـ 27 /9/ 1996 بحاجة الى عبقرية سياسية خارقة. فالتأمل السريع في مواقف الطرفين المتناقضة تماما، وفي نتائج لقاءاتهما قبل الاشتباكات، وفي اشكالية علاقاتهما القديمة الجديدة كان كافيا لتوقع مثل هذا التدهور النوعي والسريع في العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية المأزومة اصلا. فالاشتباك وقع بعد اقل من اربعة اشهر من تولي حزب الليكود السلطة في اسرائيل. تخللها اتصالات مباشرة وغير مباشرة لم تنجح في تقريب مواقف الطرفين حول ابسط القضايا العالقة، من نوع استئناف المفاوضات المتوقفة منذ عدة شهور. ولم تفلح في ترطيب الاجواء المتوترة بينهما بل سخنتها. ولم تزيل الشكوك العميقة المتبادلة في النوايا بل زادتها. وقبل هذا الاشتباك باقل من شهر دعا رئيس اللجنة التنفيذية شخصيا ومن على منصة المجلس التشريعي، الشعب الفلسطيني للاضراب يوم 29/8/1996. كما دعا المسلمين والمسيحين الفلسطينيين المقيمين على ارض فلسطين التاريخية للصلاة في المسجد الاقصى وفي كنيسة القيامة. تعبيرا عن الاحتجاج على قرار رئيس بلدية القدس ايهود اولمرت بهدم بعض المباني في القدس القديمة، وعلى قرار حكومة نتنياهو بالسماح للمستوطنيين بمصادرة مزيد من الاراضي والتوسع الافقي والعمودي في الاستيطان. وعلى تهربها من تنفيذ الاتفاقات السابقة التي وقعت بين الطرفين. وفي حينه الغى ابوعمار لقاء مع دوري غولد مستشار نتنياهو، والتقى مع شمعون بيريز زعيم المعارضة. وتم اعتقال عدد من الاشخاص بتهمة التعامل مع اسرائيل. وتلقى نتنياهو اكثر من رسالة من اكثر من طرف دولي وعربي حول ما يدور في ذهن القيادة الفلسطينية من افكار حول النوايا الاسرائيلية في عهد الليكود، وحول فهمها لابعاد ومدلولات ما تقوم به على الارض، وتأخير استئناف المفاوضات، وتأخير تنفيذ الاتفاقات. والمماطلة في عقد لقاءات مع السلطة الوطنية.
وخلال تلك الفترة وقبل وقوع الاشتباكات، رفعت اجهزة المخابرات والاستخبارات العسكرية ومنسق شؤون “المناطق” اورن شحور تقارير للحكومة، كانت كلها تشير الى قلق القيادة الفلسطينية ونفاذ صبرها من وعود نتنياهو. والى احتمال توتر وتدهور الاوضاع في الشارع الفلسطيني. واشارت الى ان الامور تسير باتجاه التصادم بين الطرفين. ولم تستثني امكانية انفجار الشارع في وجه الجميع. ولاحقا وبعد ضغوط امريكية ومصرية واوروبية شديدة تراجع نتنياهو وقطع مماطلته في عقد اللقاءات مع الفلسطينيين. واوعز لوزرائه المعنيين عن شؤون الدفاع والخارجية بعقد اللقاءات مع ابوعمار وختمها بلقاء مباشر معه. ولم يتأخر الوقت كثيرا حتى صار واضحا للمراقبين السياسيين ولكل الفلسطينيين شكلية تلك اللقاءات وفشلها. فهي لم تسفر عن نتائج عملية ملموسة، سوى الحديث عن اجتماع لجنة التوجيه العليا. والتي قرر نتنياهو سلفا نتنائجها وهو الدوران حول الذات والمراوحة في ذات المكان، واغراقها في بحث قضايا شكلية، وعدم الدخول في بحث جدي حول القضايا العالقة بين الطرفين. واستخلص الجانب الفلسطيني ان الليكود ماض في تنفيذ برنامجه.
صحيح ان الصدام وقع على خلفية قيام الاسرائيليين بالاعمال اللازمة لاستكمال فتح النفق الموجود تحت المدينة القديمة المقدسة، الا ان التدقيق في مقدماته وفي طبيعة المطالب الفلسطينية المعلنة، يبين انها اعمق من النفق ومن قضية فتحه. وانها في جوهرها ليست سوى شكل من اشكال المفاوضات العنيفة بين الطرفين حول مستقبل القدس. وحول تفرد نتنياهو في شق النفق، وفي تقرير مستقبلها من جانب واحد. والاشتباكات والمصادمات وقعت في الشوارع وعند الحواجز وعلى طرق المستوطنات بعدما اغلقت غرف المفاوضات الحقيقية. واخذت صيغا دموية بعدما توقفت صيغ علاقات السلام. وتم اللجوء فيها للحجارة والرصاص بعدما توقفت لغة الكلام المنتج بين الطرفين. في السابق وقبل عودة قيادة م ت ف الى ارض الوطن وقيام السلطة، كانت المصادمات المباشرة تقع بين المدنيين الفلسطينيين والعسكريين الاسرائيليين. وعرف اطولها واعنفها بالانتفاضة. اما الان وبعد وجود السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة فمن الطبيعي تتحمل السلطة وقيادة م ت ف مسؤولية المواجهة وان تتولى توجيه الصراع وقيادته ميدانيا وسياسيا. وان يكون الصدام وجها لوجه بين السلطتين السياسيتين. فغير ذلك يعني انهيار السلطة وظهور قيادة وطنية بديلة من الشارع ومن صفوف من يقود المواجهة. لاسيما وان السلطة الفلسطينية ليست عميلة ولم يجري تشكيلها من قبل الاحتلال على غرار ما تم في بعض الدول التي وقعت تحت الاحتلال ابان الحرب العالمية الثانية ـ فرنسا مثلا ـ ومن الطبيعي ايضا ان تتحمل قوات الامن الوطني واجهزة السلطة الفلسطينيسة الاخرى مسؤولية الدفاع عن النفس وعن مواقعها. ومن غير الطبيعي ان لا تقوم بالدفاع عن شعبها واهلها المدنيين العزل من السلاح. فغير ذلك يقود الى التعامل معها باعتبارها ادوات عميلة لقوات الاحتلال، وتصبح هدفا للثائرين او المنتفضين، ويجري التعامل كما يجري مع جيش الاحتلال وذات الشيء ينطبق على اجهزة السلطة المدنية الاخرى. ان التعريف العلمي لما يجري في الضفة والقطاع ولما ستتطور له الاوضاع هو صدام مباشر، او شكل من اشكال الحرب بين كيانيين متداخلين مع بعضهما البعض ومنفصلين في أن واحد.
وبمراجعة سيرة العلاقة بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو وآفاقها المستقبلية، يتبين ان الصدام الذي وقع بينهما وسقط فيه عشرات القتلى ومئات الجرحى من الطرفين مرشح لان يتواصل بصيغة او اخرى. وهو الاشتباك المسلح الاول الخفيف، والاشتباك السياسي الثاني الجدي بينهما. وكلاهما نتاج تمسك الائتلاف الحاكم بايدلوجيته العنصرية العدوانية التوسعية. ونتاج عناد نتنياهو واصراره على مواقفه الرافضه عمليا لاتفاق اوسلو. واستهتاره بالشراكة، واستخفافه بالاتفاقات الموقعة مع الشريك الاخر، ومحاولة اذلاله امام جمهوره وامام العالم. ورفضه سماع تحذيرات اجهزته الامنية والعسكرية ورفض الاخذ بنصائحها. واستخفافه بمصالح وبمواقف القوى الدولية والاقليمية بما في ذلك قوى السلام الاسرائيلية التي حذرت من نتائج تجميد عملية السلام. ونتاج سياسته الخاطئة حين اعتقد ان قيادة م ت ف والسلطة فقدت كل الخيارات باستثناء خيار الطاعة والانضباط لمطالبه التي لا حدود لها. وان بامكانه تحويل السلطة الفلسطينية الى سلطة عميلة واداة لخدمته وخدمة مصالحة المتنوعة.
وبالتمعن في خارطة المناطق والمواقع التي وقعت فيها الاشتباكات يمكن القول انها غطت كل مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة من جنين شمالا وحتى رفح جنوبا. وان كل المدن المحررة ومعظم القرى والبلدات التي ما زالت تحت الاحتلال، كانت ميدانا مفتوحا للاشتباكات والمصادمات بالادوات والوسائل المتاحة. وان كل القوى الفلسطينية المعارضة والمشاركة في السلطة، وجماهير غفيرة من كل فئات الشعب شاركت فيها. صحيح ان الطرفين لم يعلنا الحرب على بعضهما البعض بصورة رسمية، وان الاتصالات الميدانية بينهما لم تتوقف خلال الاشتباكات، لكن الواضح ان كل منهما لم يعد يعتمد الحوار كوسيلة وحيدة لحل الخلافات. واخذ قراره بالاستعانة بالوسائل الاخرى في حلها. واذا كانت الحكومة الاسرائيلية قد اقنعت نفسها بصيغة او اخرى بان السلطة الفلسطينية وجدت لخدمة اسرائيل والاسرائيليين، وان ما تملكه من معدات واجهزة مدنية وعسكرية يجب ان يوظف في هذا الاتجاه، فان اقتناع بعض الفلسطينيين والعرب، وبخاصة من فئة المثقفين والمفكرين، او انجرارهم لسبب او لاخر وراء هذه الاطروحات الاسرائيلية تعتبر جريمة ترتكب بحق الذات وبحق التاريخ. وفيه ظلم كبير لالاف المناضلين الفلسطينيين. واظن ان سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى من افراد الشرطة والامن الفلسطينية في الاشتباكات الاخيرة يفرض على من تجنى وظلم نفسه وشعبه ان يعي الحقيقة وان يتراجع عن افكارة واطروحاته المغلوطة والضارة بالقضية الوطنية. والضارة باسس المواجهة المفروضة على الجميع دون ان يمس هذا الطلب كل اشكال ومستويات النقد الاخرى التي لا ترقي الى مستوى الاتهام بالعمالة لاسرائيل.
ولا حاجة لان يكون الانسان نبيا حتى يقول الان ان هذا التصادم، هو الاشتباك الخفيف المسلح الاول بين الطرفين منذ انعطفت عملية السلام ودخلت في طريق مسدود تماما. وهو الاشتباك رقم واحد بعد دخولها نفق القدس. وستتلوه بعد توقفه سلسلة طويلة من الارقام المتتالية خلال سنوات حكم الليكود، وقبل ان تخرج من هذا النفق السياسي المعتم. فالواضح ان الاتصالات التلفونية التي اجراها نتنياهو وبعض الوزراء الاسرائيليين مع اركان السلطة الفلسطينية لم تمس جوهر الازمة التي تسببت في الاشتباك. وان عمليات التهدئة وتطيب الخواطر التي قامت بها بعض الاطراف الدولية والاقليمية على مدى ثلاثة ايام، لم تطرح حلولا جدية ولا سبلا عملية وواقعية للخروج من ازمة النفق. ولم تفلح في ازالة مسببات الحقيقية للاشتباك. وبصرف النظر عن راي البعض في السلطة اعتقد انها لن تنجح في منع تجددها مرة اخرى خلال وقت قصير لانها لم تقترب من معالجة جذورالمشكلة الاساسية. وان التمنيات بالسيطرة على الامور ومناشدة رئيس السلطة الفلسطينية بعمل اللازم لتهدئة الاوضاع لن تستطيع ازالة التوتر المتصاعد بين الطرفين. ولن تحول دون تجدد الاشتباكات السياسية العنيفة والمسلحة الخفيفة التي ستقع بين فترة واخرى وبصورة متقطعة. لاسيما وان ما اعلنه نتنياهو بعد عودته من رحلته الاوروبية يبين انه مصمم على المضي قدما في تنفيذ توجهاته وعدم التراجع عن ابسطها واصغرها من نوع “فتح النفق لاغراض سياحية”، ضاربا كما كان متوقعا بعرض الحائط بكل المواقف الدولية والعربية والاسرائيلية الحريصة على صنع السلام والاستقرار في المنطقة. واعتقد ان ما وقع من اشتباكات بين الطرفين حتى الان كافية تماما لتكوين خميرة نوعية لاشتباكات لاحقة. لاسيما وانها اسفرت حتى الان عن سقوط اعداد كبيرة من القتلى والجرحى بين الطرفين. ومع سقوطهم سقطت اسس الترتيبات الامنية المشتركة التي بنيت بين الطرفين على مدى عامين. وبدأ الطرف الاسرائيلي في اعادة النظر في موقفه من دور قوات الامن والشرطة الفلسطينية، ومن تزويدها بما يلزمها من معدات عسكرية. وبينت الاشتباكات ان الجانب الاسرائيلي قد اخذ قراره بالتعامل مع قوات واجهزة الامن الفلسطينية باعتبارها بالحد الادنى غير صديقة ولا يؤتمن جانبها. ولا يمكن الاعتماد عليها في ضبط الامن في مناطق السلطة الفلسطينية وفقا للمفهوم الاسرائيلي للامن. واظن انه بصدد وضع الخيارات والبدائل لكل الاحتمالات. فلم يعد بامكان أي منهما الحديث عن تعاون وتنسيق مشترك بعدما اطلق الجانبان النار على بعضهما البعض، وقتلا من بعضهما البعض جنودا وضباطا كانوا قبل ايام يعيشون في مواقع متجاورة. واظن ان القيادة الاسرائيلية السياسية قد فوجئت بسرعة التحول في مواقف رجال الامن والشرطة الفلسطينية. وفوجئت بحجم التحرك الشعبي. ومهما كانت النتائج العسكرية لهذه الاشتباكات القوية، فمن المؤكد انها سوف تترك بصامتها على العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية في كل المجالات وعلى كل المستويات. وهي بداية لصراع طويل قاس ومرير فرضه الليكود على الجميع