عملية السلام : مراوحة في المكان طيلة عهد الليكود 2

بقلم ممدوح نوفل في 20/07/1996

(2)
منذ ظهورها اثارت نتائج الانتخابات الاسرائيلية المباشرة لرئاسة الوزارة آراء متباينة، وعاصفة قوية من ردود الفعل في اوساط القوى الدولية والشرق اوسطية المشاركة في عملية السلام. وهناك شبه اجماع اقليمي دولي على أن نجاح هذا الانقلاب في اسرائيل وانتصار نتنياهو مرشح الليكود حدث غير عادي وليس بسيط. وان عملية السلام الجارية في الشرق الاوسط منذ ما يقارب الخمس سنوات لن تسير في عهد نتنياهو كما سارت في عهد العمل. وينتشر حاليا في معظم الاوساط القيادية العربية والفلسطيينية واوساط المثقفين رأي متفائل نسبيا يقول:انه بالرغم من الخلفية الايدلوجية لرئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد الا انه براجماتي. ومهما كانت وعوده الانتخابية التي قطعها على نفسه فسيضطر بحكم تلاقي الضغوط من الخارج وخاصة من الولايات المتحدة الامريكية واوروبا، والضغوط الاقتصادية الداخلية والخارجية، الى مواصلة السير في عملية السلام حتى نهاياتها. والى استكمال تنفيذ الاتفاقات التي تم التوقيع عليها، ومواصلة المفاوضات على كل المسارات.ولنزع الصورة الدرامية عن نتنياهو وحزب الليكود يستشهد البعض ببعض تصريحاته في القاهرة والتي اعلن فيها التزامه بعملية السلام وبالاتفاقات التي وقعت في عهد حزب العمل.
ويذّكر اصحاب وجهة النظر هذه بسابقة اتفاقات كامب ديفيد التي وقعها الليكود مع المصريين عام 1979، وبمؤتمر مدريد الذي بدأه الليكود مع العرب. ويعتقدون ان الطرف الوحيد الذي يستطيع ان يفي بما تتطلبه اية تسوية سلمية دائمة(can deliver) بين العرب والاسرائيليين هو ائتلاف يقوده الليكود بما يتطلبه ذلك من تنازلات اسرائيلية بعيدة الاثر. وهناك من يبني آمالا على اضطرار نتنياهو في مرحلة لاحقة على تشكيل حكومة وحدة وطنية. ويشددون على ان الليكود الذي لا يحظى بنفس الدعم والتعاطف الدولي الذي يحظى به حزب العمل في العالم الديمقراطي يسهل عزله دوليا. فهو اكثر عرضة وتأثرا بالضغوط الامريكية والاوروبية. وان حزب “الجسر” بزعامة دافيد ليفي ـ المعروف بانتهازيته ـ وبعض الاطراف المتدينة المشاركة في السلطة ليسوا ضد السلام من حيث المبدأ. وان كهلاني زعيم حزب الطرق الثالث رفع يده في الكنيست السابقة مع اتفاق اوسلو. ويضيفون انه في جميع الاحوال لم يكن الفرق بين الليكود والعمل حاسما في القضايا الجوهرية الى ذلك الحد، كما تبين في الاشهر الاربع الاخيرة عندما قام الحزب (العمل) المفترض أنه حزب محب للسلام، وشيمون بيريز شخصيا، بوقف المفاوضات مع السوريين واللبنانيين، وبتعطيل تقدمها مع الفلسطينيين وبالمماطلة في تنفيذ الاتفاقات التي وقعها معهم، وبفرض حالة من الحصار الشديد على الاراضي الفلسطينية المحتلة، وبمضاعفة التصريحات المتطرفة حول القدس، واعطاء تطمينات سرية وعلنية للمستوطنيين. وشق الطرق الالتفافية حول المدن الفلسطينية. ويقولون ان وجود حزب العمل وميرتس وقوى السلام الاخرى في المعارضة يعفي حكومة الليكود من المواجهة الداخلية حول السلام، ويسهل عليها التقدم في المفاوضات على كل المسارات، بعكس حالة حزب العمل عندما كان في السلطة، ويقدر البعض ان الاربع سنوات القادمة هي فترة ترويض المتطرفين.
اعتقد ان التعمق والتدقيق في فهم طبيعة وايدلوجية قوى الائتلاف الحكومي الذي شكله نتنياهو، وفي اهداف برامجها السياسة والاقتصادية والاجتماعية. وفي مصالحها المباشرة والبعيدة يؤكد خطأ كل تبسيط واستصغار للنتائج والانعكاسات السلبية لفوز نتنياهو على مستقبل عملية السلام وعلى الاتفاقات التي تم التوصل لها حتى الان. فالاستشهاد بمواقف الليكود في مسألة الانسحاب من سيناء واتفاقات كامب دافيد خاطئ من الاساس، لانه لا يأخذ بعين الاعتبار نظرة اليكود والمؤتلفين معه للضفة الغربية باعتبارها جزء لا يتجزأ من ارض اسرائيل الكبرى، ارض الميعاد التي اعطاها الرب لبني اسرائيل.. وان من حق بني اسرائيل الاستيطان فيها اين وكيف ومتى ارادوا. وان بيغن وافق على الانسحاب من سيناء عام 1979 مقابل طي الحديث عن الانسحاب من الضفة الغربية ومن الجولان، وتوقيع اتفاقية سلام مع اكبر بلد عربي. ولانه ايضا يقفز عن حقيقة اخرى خلاصتها ان كامب ديفيد وقع في مرحلة الحرب الباردة، حيث كان الصراع محتدم بين قطبيها، وفي وقت كان النفوذ السوفييتي يتعاظم في المنطقة ويهدد المصالح الامريكية والاوروبية في عدد من دولها الرئيسية.
اما بشأن المقارنة بين مواقف حزبي الليكود والعمل بشأن قضايا المفاوضات والتعامل مع الفلسطينيين شعبا وحكومة ومنظمة ، فمما لا شك فيه ان ليس بامكان احد الدفاع عن حزب العمل وعن سياساته التي اتبعها، ويمكن اضافة الكثير لما ذكر من نقد وادانة واتهامات لايدلوجيته وبرامجه ومواقفه القديمة والحديثة وبخاصة في سنوات حكمه الاخيرة وخلال حملته الانتخابية، واذا كان لا مجال في هذه المقالة لنقاش هذا الموضوع الهام بشكل مفصل، فهو بالتأكيد يستحق التناول المعمق من قبل البحاثة الفلسطينيين والعرب، وبخاصة المتخصصين في الشؤون الاسرائيلية. اما ما نحدد بصدده فيمكن القول باختصار انه المسؤل عن زرع ايدلوجية التطرف والتميز في المجتمع الاسرائيلي، وعن افقاد عملية السلام حيويتها وديناميتها، وعن عدم خلق الحقائق العملية على الارض التي تكفل لها الديمومة والاستمرار والتقدم للامام. وهو المسؤول عن تقوية ونشر مرض السرطان (الاستيطان) الذي سيقضي على عملية السلام..الخ الا ان محو الفواصل والفروقات بينه وبين الليكود ببساطة وبجرة قلم لا تساعد في ادارة الصراع لا الان ولا في المستقبل. ولعل الموقف من التسوية الدائمة وبعض قضاياها يوضح الامر ويجعله اكثر ملموسية. فالعمل شطب من برنامجه الانتخابي فكرة رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة في اطار الوصول الى تسوية دائمة. وميز قبل سنوات في بداية عهد رابين بين الاستيطان الامني والاستيطان السياسي، وقدم في حينها مؤشرات على امكانية الاستغناء عن المستوطنات السياسية، وتقبل فكرة عودة اقسام كبيرة من النازحين، وسهل دخول اعداد كبيرة من كوادر ومقاتلي م ت ف وعائلاتهم الى الضفة والقطاع، ولم يكن يغلق الطريق امام البحث عن حلول لقضايا الحدود والمياه والقدس.
اما الحديث عن انطلاق مؤتمر مدريد في عهد الليكود، وانه اكثرعرضة للضغوط الدولية وللتأثر بها، فاظن ان مراجعة معركة شامير ـ شيخ الليكود وزعيمه الروحي حاليا ـ مع الادارة الامريكية في عهد بوش ـ بيكر عام 1992 واقواله بعد سقوطه في الانتخابات كافية لتوضيح الموقف. في حينها تصدى شامير للضغوط الامركية والاوروبية الهائلة، ورفض ربط ضمانات القروض بوقف الاستيطان وقال “ لو فزنا في الانتخابات ـ1992 ـ لاستمرت المفاوضات عشر سنوات كاملة دون التوصل الى نتيجة تذكر، ولتم توطين نصف مليون مهاجر يهودي في المناطق”، وكان يقصد الضفة الغربية وقطاع غزة. اعتقد ان الاصح والاجدى لقوى السلام في المنطقة وفي العالم التعامل مع صعود نتنياهو وصعود الليكود للسلطة باعتباره يشكل نقطة تحول في تاريخ السياسة الاسرائيلية.والبحث في مستقبل عملية السلام بشكل موضوعي ومجرد من العواطف والرغبات الذاتية يفرض ان لا يكون هناك خلاف بين المفكرين العرب والفلسطينيين على :
1)ان الليكود والقوى المؤتلفة معه هي الاكثر تطرفا في المجتمع الاسرائيلي. واظن أنها تحرص على البقاء في السلطة حتى آخر يوم من عمر الكنيست الرابعة عشر، بمقدار حرصها على تنفيذ برامجها التي انتخبت على اساسها. وما لم تقع تطورات مفاجئة داخل اسرائيل كالتي راح ضحيتها رابين، او وقوع تطورات غير متوقعة في سياسة الادارة الامريكية اتجاه اسرائيل، فالواضح ان مصالح الاحزاب المؤتلفة في الحكومة تدفعها نحو الاستمرار في التوحد والحرص على ائتلافها الذي بنته والحفاظ على السلطة رغم كل التبايانات الموجودة فيما بينها. صحيح ان نتنياهو اعتلى كرسي رئاسة الوزراء بفارق نصف في المئة(كسور عشرية) من مجموع اصوات الناخبين لكن الصحيح ايضا ان هذه النسبة البسيطة جدا كافية تماما، وفقا للاعراف الديمقراطية لبقائه في السلطة حتى آخر يوم من ولايته. لاسيما وانه استطاع تشكيل حكومة تحظى بدعم وتأييد ثلثي اعضاء الكنيست، بينما بقيت حكومة العمل في السلطة اربع سنوات كاملة بالاستناد الى اكثر من نصف اصوات الكنيست بصوت واحد فقط. واذا كان من غير المستبعد ان يسعى نتنياهو في مرحلة متأخرة من مراحل حكمه لتشكيل حكومة وحدة وطنية مع حزب العمل، فتشكيل مثل هذه الحكومة ـ لايغير في الامر شيئا، ويضعف امكانية التقدم على طريق السلام. ويلحق اضرارا كبيرة بقوى السلام الاسرائيلية والفلسطينية. فمثل هذه الحكومة سيتم تشكيلها، اذا اخطأ حزب العمل وقبل المشاركة فيها، على اسس مشتركة تجمع نقاط التطرف والتشدد عند العمل والليكود وليس العكس. وستكون كما تؤكد التجارب السابقة بمثابة حكومة “الشلل السياسي” وظيفتها الرئيسية تحمل حزب العمل وزر مواقف وسياسات نتنياهو، وتنفيس مظاهر العنف السياسي التي برزت في المجتمع الاسرائيلي، وامتصاص الضغوط الدولية والاقليمية الخارجية المتوقعة.
2) بصرف النظر عن المواقف والتصريحات المتشنجة او الهادئة المتفائلة او المتوترة المتشائمة التي صدرت حتى الان عن الاطراف العربية والدولية بشأن ما قد يرتكبه الليكود بحق عملية السلام وما نتج عنها حتى الان . فان مواقفه ونواياه واضحة وضوح الشمس لمن يريد ان يراها. فقد صعد درجات سلم السلطة وبيده برنامج وتوجهات وشعارات عامة واضحة لافاق ونتائج المفاوضات مع الفلسطينيين والسوريين والبنانيين، ولآفاق العلاقة مع الاردن. صحيح انه لم يكن وليس لديه حتى الان تصورا تفصيليا متكاملا وواضحا لكيفة ادارة العملية السياسة،ولتنفيذ هذه البرامج والتوجهات، وانه لم يشكل حتى الان طواقمه التي ستتولى التفاوض على مختلف المسارات. لكن برنامجه وتوجهاته تؤكد انه سيعمل طيلة فترة حكمه على الحفاظ على العلاقة مع الاردن وسيسعى لتطويرها، والحفاظ على ما تحقق من انفتاح سياسي واقتصادي على عدد من الدول العربية والاسلامية هذا من جهة. والوفاء من جهة اخرى لمواقفه ولجمهوره المتطرف وتعطيل تقدم المفاوضات بشكل جدي على أي من مساراتها الاخرى. فتقدمها يتعارض مع ايدلوجيته ويضرب جذورها، ويعرض وحدته الفكرية والسياسة والتنظيمية للتمزق والاندثار. كما يعرض الائتلاف الحكومي لمخاطر التفكك. وقد يؤدي لسقوط الحكومة وضياع السلطة من يده.
وبذات الوقت يدرك الليكود ان البرامج والشعارات والتوجهات العامة الجامدة والمتطرفة التي رفعها خلال فترة الانتخابات لا تصلح لمخاطبة القوى الدولية والراي العام العالمي المتطلع لصنع السلام والاستقرار في المنطقة. واذا كان من الواضح انه لم يضع حتى الان خططه التفصيلية اللازمة للتعامل مع القضايا الكبرى المطروحة على كل مسار من مسارات المفاوضات، فالمرجح انه بصدد تفصيلها وكسوها باللحم، وتزويدها بالدم وبعثها للحياة السياسة العملية. وأنه بصدد رسم التكتيكات القادرة على تقديمها للعرب والعالم بلغة دبلوماسية تصلح للمفاوضات، دون أي تغيير في جوهرها واهدافها. ولعل حديثة عن السلام مقابل السلام ورفضه في البيت الابيض وفي القاهرة الاقرار بمبدأ السلام مقابل الارض. وتعطيلة تجدد المفاوضات على المسار الفلسطيني حتى الان، وحديثه عن التدرج في العودة الى المفاوضات مع الفلسطينيين، وتمنعه عن القاء مع رئيس اللجنة التنفيذية “شريكه” في عملية السلام رغم الجهود الدولية والاقليمية، كافية لتوضيح مستقبل المفاوضات في عهد نتنياهو شارون وايتان.
واظن انني لا ابالغ في التشاؤم اذا قلت بانه قد يشكل نقطة تحول في تاريخ دول وشعوب الشرق الاوسط وجهتها العامة الاندفاع الجماعي بشكل تدريجي نحو التطرف، وسوف يكون له ما بعده من نتائج وآثار سلبية على مسيرة السلام الفلسطينية العربية الاسرائيلية التي انطلقت من مدريد قبل خمس سنوات، حدها الادنى التجميد. وان قدر عملية السلام المراوحة في المكان طيلة فترة حكم الليكود هذا اذا لم تصاب بانتكاسات خطيرة. واظن انها دخلت مرحلة الترهل (والهرجلة) حتى لو تجددت المفاوضات على كل المسارات العربية الاسرائيلية. ففوز نتنياهو حطم عجلات قطار السلام الذي انطلق من مدريد في خريف 1991 وحكم عليه بالتوقف عند الحدود التي وصلها حتى الان. ولن يتمكن من الانتقال الى اية محطة نوعية جديدة حتى لو بقيت محركاته تعمل بصورة منتظمة او شبه منتظمة او متقطعه. ويفترض ان لا ينخدع الفلسطينيون والعرب بالوعود المعسولة والاستيطان هو المحك العملي.