الاكثرية اليهودية في اسرائيل لم تهضم عملية السلام

بقلم ممدوح نوفل في 20/07/1996

(1)
ادهشت وفاجأت نتائج الانتخابات الاسرائيلية اوساطا كثيرة على الصعيدين الاقليمي والدولي، وبخاصة الاطراف المشاركة في عملية السلام والمساندة لها. فكلها، بدء من الادارة الامريكية مرورا بحكومات الدول الاوروبية وانتهاء بقيادة منظمة التحرير والسلطه الفلسطينية، اسقطت من حساباتها امكانية فوز نتنياهو. ورمت بثقلها قبل الانتخابات وراء بيريز على امل ابقائه في كرسي رئاسة الوزرء، وبنوا كل مواقفهم على هذا الاساس. ورفض بعضهم قبل الانتخابات مجرد التفكير او البحث في امكانية فوز نتنياهو. وليلة فرز الاصوات بقوا على اتصال بعضهم ببعض، وسهروا حتى الفجر وناموا وهم مقتنعين بان بيريز سوف يتقدم على نتنياهو بفارق يتراوح بين نقطتين واربعة نقاط وفي الصباح لم يصدقوا النتيجة…
فمنذ مقتل رابين وحتى يوم الانتخابات لم تقصر الدول الاوروبية في تقديم الدعم المعنوي لبيريز، ولم تبخل ادارة الرئيس كلينتون في ذلك، والكل يتذكر كيف سارعت بعد العمليات التي نفذتها حركة حماس في شهري شباط واذار الماضيين الى عقد مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الارهاب ولدعم عملية السلام. وقدمت للحكومة الاسرائيلية دعما معنويا وماديا كبيرين، بما في ذلك بعض الصنوف المتطورة من الاجهزة الالكترونية الحديثة ومن المعدات العسكرية الاخرى المساعدة في الكشف عن متفجرات حركتي الجهاد الاسلامي وحماس. وغطت لها تشددها في المفاوضات مع السوريين. ومررت لها عمليتها العسكرية الواسعة التي شنتها على جنوب لبنان (عناقيد الغضب) بما في ذلك استفزاز القوات السورية” العاملة في لبنان، ومجزرة “قانا” التي راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى الابرياء،.
وخلال ذات الفترة مارست ادارة الرئيس كلينتون ضغوطا معنوية واقتصادية شديدة على السلطة الفلسطينية، وارغمتها على الصمت عن حقوقها التي نصت عليها اتفاقاتها مع الحكومة الاسرائيلية لحين الانتهاء من الانتخابات. وضغطت عليها للقيام بحملة اعتقالات واسعة ضد حركة حماس بجناحيها السياسي والعسكري، وضد كل من يشتبه بان له علاقة، او يمكن ان يكون له علاقة، بالعمل العسكري ضد اسرائيل. وفي حينه استجابت قيادة المنظمة والسلطة الوطنية للضغوط الامريكية وابتزازات بيريز. واخطأت كما الاخرون في تقدير الوضع الانتخابي لبيريز. واعتقدت بان الدعم الخارجي وعلى رأسه الامريكي كاف لابقاء بيريز في سدة الحكم، وصدقت وعوده بتعويض الوقت الضائع والتعجيل في حسم القضايا العالقة في حال فوزه في الانتخابات، فلم تلح على تنفيذ بعض بنود الاتفاقات التي وقعها معها.
واذا كان لا مجال في هذه المقالة الدخول في مناقشة مدى صحة الخط التكتيكي الذي انتهجه بيريز وقادة حزب العمل في ادارة معركتهم الانتخابية ـ اهمال القضايا الاجتماعية الاقتصادية، عدم وضوح الموقف من قضايا السلام المؤجلة، وعدم استغلال اغتيال رابين، ودغدة احلام المتطرفين ـ او الذي انتهجته الادارة الامريكية، والدول الاوروبية والسلطة الوطنية الفلسطينية وعدد من الدول العربية خلال تلك الفترة، فالواضح ان الاخطاء التي ارتكبت من قبل قيادة حزب العمل وكل من آزرههم في معركتهم الانتخابية وشجعهم على انتهاج مواقف متطرفة، تندرج تحت خانة اخطاء تكتيكية وليس اكثر. وعوامل فرعية ساعدت على وقوع الفشل، وقتل الوقت، وتجميد حركة قطار السلام طيلة تلك الشهور الثمينة. واضاعت فرصة تمكين الشعب الفلسطيني من الخلاص من عدد من التعقيدات التي تنغص عليه حياتية اليومية. واخرت المفاوضات حول تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق اتفاق طابا، وحل قضايا الحل النهائي. وساعدت على انتقال السلطة للقوى المتطرف بتعقيدات اقل.
ولعل الاجدى للطرف الفلسطيني والاطراف العربية المشاركة في المفاوضات ولكل القوى المؤيدة لصنع السلام في المنطقة عدم تحميل هذه الاخطاء التكتيكية وسواها مثل قانون الانتخابات، اكثر مما تحتمل من المسؤولية عن فشل بيريز وعن خروج حزب العمل من السلطة وانتقالها للمتطرفين. فكل الاخطاء التكتيكية التي ارتكبت تفسر بعض الاسباب التي ادت الى تراجع عدد مقاعد حزب العمل وحركة ميريتس وزيادة مقاعد اليمين في الكنيست. لكنها لا تفسرالاسباب الجوهرية لسقوط بيريز ونجاح نتنياهو، وحصول الاخير على نسبة عالية من اصوات اليهود تجاوزت ال60%. لاسيما وان هذه الانتخابات، أي انتخابات رئيس الحكومة، جرت حول موضوع رئيسي هو السلام مع العرب وبخاصة اتفاق اوسلو وما تبعه من اتفاقات تفصيلية اخرى، وكانت بمثابة استفتاء حولها. ومما لا شك فيه ان تحميل بعض قادة حزب العمل لقادة الاحزاب العربية في اسرائيل المسؤولية عن فشل بيريز فيه الكثيرمن الظلم والتجني على العرب. وتحمل في طياتها نظرة استعمالية عنصرية لعرب اسرائيل. وتهرب من مواجهة الحقيقة ومن البحث الجدي والمسؤول عن الاسباب الجوهرية للفشل . فالقاء اللوم على الاخرين والتهرب من محاسبة الذات لا يساعد في معالجة المشكلة على الاطلاق. ومشاركة 79% من العرب في انتخابات 96، وتصويت اكثر من 94% منهم لصالح بيريز، رغم اخطائه اتجاههم كافية لدحض هذه الادعاءات التبسيطية الباطلة.
ولا مبالغة في وصف نجاح نتنياهو، وتولي الليكود والاحزاب المؤتلفة معه الحكم في اسرائيل من جديد، بأنه انقلاب مضاد للانقلاب الذي وقع في اسرائيل وفي المنطقة على ابواب مؤتمرالسلام الذي انعقد في مدريد عام 1991. وتمرد اغلبية المجتمع اليهودي على الوفاق الدولي، وعلى القوى الدولية الراغبة في تسوية الصراع العربي الاسرائيلي وصنع الامن والاستقرار في هذه المنطقة المضطربة من العالم .
ومهما سيتم على المستوى السياسي ـ الدبلوماسي خلال فترة حكم الليكود ـ وهو كبير وكثير سنأتي عليه لاحقا ـ فنجاح هذا الانقلاب يكشف عمق خوف المجتمع الاسرائيلي من السلام، وانه يخشى السلام اكثر من خشيته الحرب. ويعطي اولوية للامن المباشر على حساب السلام والامن الذي يجلبه لاحقا. وانه غير ناضج حتى الان للوصول الى علاقات سلام حقيقية مع جيرانه الفلسطينيين والعرب. ووكشفت عمق تجذر وتغلل الافكار العدوانية التوسعية فيه. وبينت ايضا ان خمس سنوات(1991ـ1996) من الحركة والنشاط الدولي والاقليمي السلمي، لم تفلح في اخراجه من صومعته العنصرية المتقوقع فيها. ولم تحرره من عقد الخوف. ولم تنجح في اقناعه بأن في السلام العادل منافع كثيره له ولكل الشعوب المنطقة المحبة للسلام.
قبل انتخابات عام 1992 كان رابين يقول، ان الانتفاضة اقنعته باستحالة مواصلة الاحتلال. ويبدو الان من فوز نتنياهو ان الرأي العام الاسرائيلي لم يستوعب هذا الدرس البراغماتي. فهو لا يزال يعتقد بأن امامه خيار بين السلام الذي يمثل بالنسبة له قفزة مخيفة نحو المجهول، وبين استمرار الاحتلال، والذي يعرف انه خطر لكنه لا زال يعتقد بان مربح ومفيد ماديا، وان سلبياته المعروفة محدودة جدا. فالتمعن في نتائج الانتخابات، وبخاصة فوز نتنياهو وارتفاع نسبة الاصوات اليهودية التي نالها هو وكل الاحزاب اليمينية المتطرفة، تبين ان المجتمع الاسرائيلي مال نحو التطرف، واختار خيار العودة باوضاع المنطقة الىالوراء. ويتمسك بمواصلة احتلال الاراضي الفلسطينية والعربية بالقوة، ويرفض الانسحاب منها، وويصر على السيطرة على الشعب الفلسطيني، ومواصلة استغلاله واضطهاده. وهذا الخيار ينسجم مع الايدلوجيا والثقافة الصهيونية، ومع المصالح الانية المباشرة لقطاع واسع من الجمهور الاسرائيلي المسفيدون من الاستيطان ومن بقاء الاسواق الفلسطينية حكرا لتصريف منتوجاتهم الصناعية والزراعية. وهو نتاج لتعبأة عنصرية عدوانية توسعية غرست في عقول جيلين كاملين من الاسرائيليين، ولمفاهيم توراتية غيبية ترجمت قبل الانتخابات باندفاع المتضررين والخائفين من السلام باقصى سرعة وبدون تردد بما في ذلك الخلاص من رابين. قابله تردد اقطاب عملية السلام وبخاصة قادة حزب العمل واركان الادارة الامريكية في التقدم والاندفاع السريع باتجاه تثبيت توجهاتهم، وخلق حقائق جدية على الارض تقنع الاسرائيليين والفلسطينيين بان ليس بامكان أي طرف العودة الى الوراء اوالتراجع عن طريق السلام. وبان السلام هو الذي يجلب الامن وليس العكس. وان منافع السلام المباشرة والبعيدة اكبر من منافع الاحتلال والحروب وما تولده من حقد كراهية ودمار. باختصار يمكن القول ان بيريز نال دعما اقليميا دوليا لا يقل عن الدعم والاسناد الذي ناله حزب العمل في انتخابات عام 1992، ورغم ذلك ذاق طعم الهزيمة وتجرع كأسها، ويرجح ان ينهي حياته السياسية على وقع آثارها المؤلمة، والتي قد تطال كل شعوب المنطقة. لقد خسر بيريز رئاسة الحكومة، ومن الواضح انه لن يبقى على رأس زعامة الحزب. وخسر حزب العمل السلطة وانتقل للمعارضة. اما شعوب المنطقة فخسارتها ابان فترة حكم الليكود سوف تكون الافدح، وقد تترجم الى دمار اقتصادي، واندفاع تدريجي نحو التطرف اذا لم يتم التصدي دوليا واقليميا للمتطرفين.
اعتقد ان دولة اسرائيل دخلت بعد مقتل رابين وعودة الليكود للحكم مرحلة من عدم الاستقرار السياسي. وان النظام الانتخابي الاسرائيلي الجديد عمق الانقسام داخل المجتمع الاسرائيلي واعطاه ابعادا جديدة. وان مجابهة نتائج صعود التطرف والعنصرية في اسرائيل، والمحافظة على عملية السلام اصبحت مهام حيوية وملحة للراي العام العالمي، ولكل المتضررين من بقاء الشرق الاوسط منطقة قلاقل واضطرابات. وصار مطلوب من الجميع وقف كل اشكال المساندة المعنوية والمادية التي يتلقاها المتطرفون في اسرائيل من هذا البلد او ذاك بصورة رسمية او غير رسمية. ومصلحة صنع السلام والاستقرار في المنطقة، تفرض على انصار السلام فلسطينيين واسرائيليين وعرب توحيد طاقاتهم واحياء تحركاتهم المشتركة وتنسيق نشاطاتهم وتفعيلها بهدف الحفاظ على بذرة السلام التي زرعوها ومنع المتطرفين من الطرفين من قلعها. وتفرض على الادارة الامريكية بشكل خاص ودول السوق الاوروبية الشروع في ممارسة ضغوط جدية على حكومة نتنياهو وارغامها على المضي قدما في عملية السلام على كل المسارات. وفرض حظر جدي على كل نشاط يقوي الاستيطان والمستوطنيين وبقية المتطرفين في اسرائيل. وتفرض على كل القوى الدولية والاقليمية التي رعت وساندت عملية السلام خلال اربع سنوات التحرك بسرعة باتجاه مساعدة قوى السلام في اسرائيل على مجابهة الافكار العنصرية المتطرفة واعادة الامساك بزمام المبادرة من جديد. وبصرف النظر عن اهداف بعض الاطراف الاقليمية والدولية في خلق اجواء ايجابية متفائلة حول زيارة نتنياهو لواشنطن والقاهرة ولزيارته المرتقبة الى عمان، واللقاء بين دافيد ليفي وابوعمار، فبقاء زمام المبادرة بيد العنصرين المتطرفين،اعداء السلام والتعايش بين العرب والاسرائيلين ينذر بعواقب وخيمة على مجمل عملية السلام وعلى الاتفاقات التي تم التوصل لها وقد تطال المنطقة برمتها ويحول لاحقا صراعها المزمن الى صراع ديني ويشعل حروب مقدسة يعاد فيها حشد القوى واصطفافها على اسس جديدة. فهل سيتحمل الجميع مسؤولياتهم ام ان قدر شعوب المنطقة ان تدفع دماء كثيرة ثمن صعود التطرف في اسرائيل؟؟