نحو ميثاق فلسطيني جديد واستراتيجية فلسطينية جديدة

بقلم ممدوح نوفل في 09/02/1996

بعد الانتخابات الفلسطينية، وبعد اعلان الحكومة الاسرائيلية عن موافقتها المبدئية على عودة اعضاء المجلس الوطني الفلسطيني المقيمين في الشتات الى مناطق السلطة الوطنية، ارتفعت وتيرة النقاش في الساحة الفلسطينية حول الغاء او تعديل بعض بنود الميثاق الوطني الفلسطيني. وصارت الاطراف الدولية والعربية الراعية والمساندة لعملية السلام، وللاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية. ويطرح الان في الساحة الفلسطينية والعربية والدولية تساؤلات كثيرة حول قدرة ابوعمار واصحاب الخط الفلسطيني الواقعي(فريق مدريد ـ اوسلوـ طابا) على عقد دورة جديدة للمجلس الوطني، وتمرير القرارات السياسية المطلوبة، واقناع اعضائه بالمصادقة على الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية التي تم التوصل لها، ومن ضمنها تعديل أو الغاء بنود الميثاق الوطني التي تدعو الى تدمير دولة اسرائيل، وتلك التي تتعارض مع ما ورد في الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية التي تم التوصل لها منذ اوسلو وحتى الان.
لاشك ان مثل هذه التساؤلات مشروعة، فالجميع يعرف بان كوتا الفصائل والعلاقات الفصائلية هي التي تتحكم في تركيبة المجلس، وفي توجهاته وقراراته السياسية والتنظيمية، منذ عام 1968 حين سيطرت التنظيمات عليه. وأن هناك تيارا قويا داخل الساحة الفلسطينية يعارض عقد الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني في هذا الوقت بالذات، ويعارض سلفا أي تعديل أو تغيير في بنود الميثاق. وهذا التيار ليس محصورا في حركة حماس والفصائل الاخرى التي قاطعت الانتخابات، وتتخذ موقفا سلبيا من الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية، بل ينتشر في كل مؤسسات منظمة التحرير التشريعية والتنفيذية، وفي مؤسسات السلطة الوطنية، بما في ذلك المجلس التشريعي المنتخب، وفي كل الفصائل والتنظيمات دون اسستثناء، بما في ذلك حركة فتح صاحبة الثقل الاساسي في المجلسين الوطني والتشريعي.
من الواضح أن مرارة الهجرة والتشرد، والتمسك بالوحدة والخوف من التشرذم والاندثار، وقسوة العيش تحت الاحتلال، والرغبة في التحرر والاستقلال، هي التي دفعت بالفلسطينيين الى الالتفاف حول منظمة التحرير الفلسطينية منذ قيامها وحتى الان، والى احاطة ميثاقها الوطني بهالة تصل عند البعض حد التقديس. واوجدت الارضية الملائمة لطغيان سمة تقديس النصوص والكلمات في الفكر السياسي الفلسطيني في العقدين الاخيرين. وخلقت الذهنية الشعبية القابلة بذلك. وساهمت في تعطيل قدرة الحركة الوطنية على المبادرة لتحديث وتجديد الوثائق الفلسطينية الاساسية منذ قيام منظمة التحرير وحتى الان. وان عدم الثقة في التزام اسرائيل بتنفيذ الاتفاقات التي توقعها مع الفلسطينيين، وعدم الثقة بان الاتفاقات ستوصل الى دولة مستقلة، وبان المفاوضات اللاحقة سوف تعالج موضوع القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود بصورة عادلة، هي التي تدفع بقطاعات واسعة من الشعب وبالعديد من اعضاء المجلس الوطني وكوادر التنظيمات الى رفض تعديل الميثاق .
اعتقد انه بالرغم من عدم تحديد موعد انعقاد المجلس الوطني، وبالرغم من بعض العقبات السياسية والتنظيمية التي ما زالت قائمة، فالدورة الحادية والعشرون للمجلس سوف تنعقد قبل نهاية شهر نيسان القادم. واظن انها لن تواجه مشكلة تأمين النصاب كالتي واجهتها الدورة السابعة عشرة التي عقدت في عمان عام 1984. فالاوضاع الفلسطينية مهيأة لذلك، والنصاب القانوني (ثلثي الاعضاء) صار متوفرا بعد انتخاب 88 عضوا جديدا كاعضاء في المجلس التشريعي والذي هو وفقا لقانون الانتخابات جزء لا يتجزء من المجلس الوطني، وايضا بعدما وافقت الحكومة الاسرائيلة رسميا على عودة أعضاء المجلس الوطني الى مناطق السلطة الفلسطينية، واقامتهم بصورة دائمة فيها، وبعدما سارع معظمهم الى طلب ادراج اسمائهم في قوائم الراغبين في العودة بمن فيهم المستقلين واعضاء الجبهتين الشعبية والديمقراطية .
اما المواقف العربية والدولية المؤثرة على مواقف بعض القوى الفلسطينية وبعض اعضاء المجلس الوطني فالواضح انها تصب في صالح هذا التوجة وتساعد على تذليل العقبات المتبقية. ولا اكشف سرا اذا قلت ان مواقف القوى العربية والدولية كان لها دوما دور معين في تسهيل او تعطيل انعقاد دورات المجلس الوطني الفلسطيني، وكان لها دورها ايضا في خلق المحاور والتكتلات الفلسطينية، وفي تغذية مواقف التيارات والاتجاهات السياسية المختلفة داخل المجلس الوطني. واذا كان لا مجال للاسهاب في الحديث في هذا المقال حول الموضوع، فاظن انني لا اتجنى على احد اذا قلت ان تشتت الشعب الفلسطيني، وتمركز قيادته في الخارج، قبل الدخول الى غزة والضفة الغربية، افسح المجال للعديد من الانظمة العربية للتدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية تحت شعار قومية المعركة. وفي هذا السياق لعل من المفيد القول ان مقاطعة هذه الدورة بالذات تلحق اذى كبيرا بالمقاطعين. فالمقاطعة غير مبررة، ولن تكون مفهومة من احد، ولا يمكن تفسيرها سوى انها هروب من تحديد الموقف من كل القضايا المطروحة على جدول اعمال المجلس، ومن تحمل المسؤولية الوطنية في اللحظات المصيرية. لاسيما وان المجلس الوطني سيد نفسه منذ لحظة انعقاده، وغير مقيد باية قيود سياسية او تنظيمية. وقول البعض بان النتيجة معروفة سلفا لا تغير في الامر شيئا، وتخفي في طياتها نزعات غير ديمقراطية. واظن ان غياب بضع عشرات من اعضاء المجلس من اصل ما يزيد عن 660 عضوا لن يشعر به احد ولن يترك آثارا على الوحدة الوطنية الفلسطينية وشموليتها .
ومن التدقيق في الاوضاع الفلسطينية، وفي المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، يمكن الاستنتاج بان هناك حاجة فلسطينية ملحة لعقد المجلس الوطني باسرع وقت وعلى الارض الفلسطينية المحررة وليس في أي مكان آخر. وتفرض مشاركة كل الاعضاء المؤيدين والمتحفظين والمعارضين لعملية السلام ونتائجها، وبخاصة المفكرين والمثقفين والخبراء المستقلين، ليس فقط لمناقشة مسألة تعديل الميثاق بطريقة ديمقراطية، وقول رايهم بكل وضوح وصراحة، بل وايضا لمناقشة الوضع الوطني الفلسطيني برمته. وتفرض ايضا استكمال تمثيل الداخل في المجلس الوطني. فحصة الداخل وفقا لقرارات المجلس ذاته هي 186 عضوا، إنتخب منهم 88 فقط. ولعل من المفيد قبل استكمال العدد الدخول في بحث جدي مع حركة حماس واعطائها عددا من المقاعد ال 98 الشاغرة اسوة بالفصائل الاخرى، وبما يتناسب مع ثقل حجمها وفعاليتها في الشارع الفلسطيني. اما اذا تعذر ذلك فاني اعتقد بان اعتماد نتائج انتخابات المجلس التشريعي التي تمت قبل اسابيع قليلة في استكمال حصة الداخل بتوزيع ال 98 مقعدا او معظمها علىالدوائر الانتخابية وفقا لذات النسب التي اعطيت لكل دائرة، واعتماد اعلى الاصوات كقاعدة لاختيار العدد المطلوب في كل دائرة، هي الصيغة الاكثر ديمقراطية، والاقرب الى التمثيل الحقيقي، ويفترض ان لا تثير اية اشكالات داخلية سياسية او تنظيمية.
وأعتقد ان خطأ كبيرا ترتكبه القيادة الفلسطينية (اللجنة التنفيذية وهيئة رئاسة المجلس) ان هي حصرت جدول اعمال المجلس بنقطة تعديل الميثاق الوطني فقط. وتخطا اكثر اذا حصرت مناقشة موضوع الميثاق الوطني الفلسطيني في زاوية ضيقة عنوانها تغييراو تعديل بنود الميثاق. فهناك متغيرات دولية واقليمية نوعية لابد للمجلس من اخذها بعين الاعتبار. وامامه لوحة كاملة للتطورات الكبيرة التي وقعت في العقد الاخير على القضيتة الوطنية الفلسطينية، وفي بنية المجتمع الفلسطينيي، وبنية حركته الوطنية، كلها تؤكد ان النضال الوطني الفلسطيني دخل مرحلة نوعية جديدة، تختلف عما سبقها، وتحمل في طياتها استحقاقات كثيرة وكبيرة لا يمكن التهرب من مناقشتها بمسؤولية وطنية عالية،ومن دفع المستحق منها، مع الحرص على قبض ثمنه مقدما. اعتقد ان الاكتفاء بالغاء أو تعديل بعض بنود الميثاق يعالج فقط مسالة الالتزامات الفلسطينية مع الحكومة الاسرائيلية، لكنه لا يلبي الغرض الوطني المطلوب من عقد دورة المجلس، ولايعالج الازمة العميقة التي تعيشها منظمة التحرير الفلسطينية منذ عدة سنوات. فالاكتفاء بهذا القدر من التجديد والتغيير يعني الاصرار على عبور المرحلة الجديدة بأفكار وبرامج وادوات قديمة غير مناسبة. ويعني ايضا بقاء القطار الوطني الفلسطيني يسير ببطئ شديد على سكة قديمة مستهلكة بعد ترميمها بشكل محدود. علما بان الكشف الميداني للخبراء والمهندسين يؤكد بان عملية الترميم غير مجدية، وان تجديدها اقل كلفة واجدى على المدى المتوسط والبعيد.
لاشك في ان هذه الدورة مطالبة بوضع استراتيجية فلسطينية جديدة للعمل الوطني الفلسطيني غير تلك التي وضعت في الميثاق الوطني عام 1964، مستخلصة من حساب دقيق لموازين القوى القائمة، والمرئية في المدى المباشر والقريب. على ان تكون واقعية، قادرة على تعميق الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني، وقادرة على تعبئة وحشد طاقات الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها خلف السلطة الوطنية والمجلس التشريعي المنتخب لاستكمال تحرير الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، وترحيل المستوطنيين، وتسوية مشكلة المستوطنات كممتلكات اجنبية قائمة على الارض الفلسطينية. وترسيم الحدود مع كل الدول المجاورة وبخاصة مع اسرائيل. ودعم الكيان الفلسطيني القائم على الارض سياسيا واقتصاديا، وتسريع عملية تحولة الى دولة لكل الشعب الفلسطيني عاصمتها القدس العربية، وذات سيادة كاملة على ارضها. وتسريع تنفيذ ما نصت عليه الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية بشأن عودة النازحين. ومتابعة النضال السياسي والدبلوماسي لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينين حلا عادلا وفقا لما نصت عليه قرارات الشرعية الدولية، ووفقا للمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان
وفي هذه الدورة لا بد من الاجابة على عدد من الاسئلة السياسية والتنظيمية الكبيرة المطروحة على الجميع منذ مدة طويلة واهمها: ما هو مصير م ت ف ككل؟ وهل مازالت وظائفها ومهامها الوطنية التي حددت لها عام 1964 صالحة للمرحلة الحالية؟ وهل هي بتركيبتها التنظيمية المسيطر عليها من الفصائل، قادرة على حشد وتعبئة طاقات كل الشعب الفلسطيني؟ وما هو دور السلطة الوطنية والمجلس التشريعي المنتخب اتجاه الخارج؟ وما هي الاسس العملية الكفيلة بمعالج الاشكالية الموضوعية القائمة في علاقة المجلس التشريعي ومؤسساته التنفيذية مع مؤسسات التشريعية والتنفيذية لمنظمة التحرير
في سياق البحث عن الجواب لعل من الضروري التأكيد على ان دقة المرحلة الانتقالية التي تمر بها الاوضاع الفلسطينية تفرض التدرج وعدم التسرع، ووزن المواقف والخطوات السياسية والتنظيمية بميزان الذهب. وان الانتقال بها الى مرحلة الاستقرار النهائي يستوجب الحفاظ على منظمة التحرير كاطار تنظيمي جامع لكل قوى الشعب، مع الاعتراف مسبقا بان منظمة التحرير التي كنا نعرفها لم تعد موجودة. وبان هياكلها التنظيمية وصيغتها السابقة لم تعد تتناسب مع متطلبات المرحلة الجديدة، والاعتراف ثانيا بضرورة تجديد وتطوير وثائقها الاساسية بصورة جذرية. واعادة صياغتة في اطار ميثاق جديد يقر بوجود دولتين للشعبين على الارض الفلسطينية، ويحفظ الرواية التاريخية للقضية، ويطور ما هو قائم فوق الارض الفلسطينية.