ماذا بعد الانتخابات الفلسطينية هل نقول وداعا لمنظمة التحرير

بقلم ممدوح نوفل في 04/02/1996

المجلس التشريعي المنتخب هو الابن الوحيد للمنظمة ووريثها الشرعي
بالرغم من الملاحظات البسيطة والمحدودة التي سجلت على سير الانتخابات الفلسطينية، الا أنها، وفقا لشهادة المراقبين الدوليين والعرب والمحليين، كانت بالاجمال حرة ونزيهة. وهي بحد ذاتها مع الشهادة مكسبان كبيران للشعب الفلسطيني، ولنظامه السياسي وللديمقراطية الفلسطينية، ويمكن توظيفهما لاحقا في تعزيز سلطة المجلس المنتخب، واستثمارهما في تطوير دوره في الدفاع عن مصالح الجمهور الذي انتخبه، وعن الحقوق الوطنية الفلسطينية، وبخاصة في المفاوضات اللاحقة حول قضايا الحل النهائي التي ستبدأ في ايار القام. وبصرف النظر عن المبررات والدوافع الموضوعية والذاتية، التي تدفع ببعض الفصائل، التي قاطعتها أو شاركت فيها وبعدد من المرشحين الذين لم يحالفهم الحظ ، الى الطعن في بعض خطواتها أو التشكيك في نزاهتها، فالمؤكد ان كل هذه المحاولات البريئة وغير البرئية ضارة وطنيا، وغير مفيدة لاحد من الناحية التنظيمية، ولاتغير في الواقع شيئا. وتعبر عن نزعات سلطوية غير ديمقراطية كامنة في النفوس. وتخفي في طياتها نوعا من الرغبة في خداع الذات وفي الهروب من مواجهة الحقائق التي خلقتها الانتخابات في الحياه السياسية الفلسطينية، ومن دفع استحقاقاتها المباشرة واللاحقة، وتقود في النتيجة الى عدم تقبل نتائجها والتصادم معها، ومع قطاع واسع من جمهورالناخبين.
وليس معيبا لاحد الاقرار بالواقع، والاعتراف بأن اتجاهات التصويت في الانتخابات اكدت أن غالبية الناس في الضفة الغربية وقطاع غزة صوتوا، بالرغم من ملاحظاتهم الكثيرة ونقدهم الصحيح للاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية، لصالح حل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بالطرق السلمية. ووافقوا على التخلي عن الكفاح المسلح، وتبنوا المفاوضات كطريق لانتزاع الحقوق الوطنية والتاريخية المغتصبة. وفوضوا رسميا وعمليا أنصار الحل السياسي (فريق مدريد – اوسلو) بمتابعة المسير في الطريق الذي ساروا عليه منذ أكثر من أربع سنوات. وهذا التفويض تم بعدما ادركوا ان المرحلية قدر لا مفر منه، وممر اجباري لتحقيق اهدافهم في العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة. وبعدما لمسوا ايضا أن السير في طريق المفاوضات والحلول السلمية حقق لهم بعض حقوقهم الوطنية التي لم يستطيعوا تحقيقها عبر الكفاح المسلح، ولا من الحروب العربية الاسرائيلية التي جربوها اكثر من ثلاثين عاما.
اعتقد ان المشاركة الشعبية الواسعة في الانتخابات والتي تجاوزت ال 70% بالرغم من دعوات المقاطعة، تدلل من ضمن مسائل اخرى كثيرة على أن غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة قد سئموا ديكتاتورية الفصائل والقياديات الثورية المفروضة عليهم من مختلف الاحزاب والتنظيمات، لاسيما وانهم لم يستشاروا ولم يشاركوا في اختيارها. وأظن ان كفاحيتهم لا تمس اذا قيل انهم سئموا العيش في ظل الاجواء العسكرية والامنية، وحياة التوتر والاضطراب وعدم الاستقرار الناجمة عن الاحتلال، وعن حالة الحرب الطويلة التي عاشوها بما في ذلك فترة الانتفاضة. وأنهم يعولون الان على الانتخابات في احداث تغييرات جدية في حياتهم اليومية، ويطمحون الى سيادة القانون، وصاروا يضغطون باتجاه مأسسة ومدننة مجتمعهم الفلسطين، وبنائه على أسس عصرية وديمقراطية. وهذة المواقف والطموحات الشعبية الواقعية تعبر عن حيوية عالية في المجتمع الفلسطيني، تستحق الترسيخ والتطوير باعتبارها ظاهرة ايجابية.
في السابق كانت قيادة م ت ف وكل قيادات الفصائل الفلسطينية دون استثناء ترفض الاعتراف باخطائها، وتقفز عنها بوعي وعن سابق قصد واصرار، وتقاوم مراجعة وتقييم الاحداث والمواقف الكبرى، الخاطئة والصحيحة. وكانت تغير وتبدل مواقفها التكتيكية والاستراتيجية بطرق ملتوية وغير صريحة، وكان ثمن ذلك في كل مرة مزيدا من فقدان المصداقية ومن الخسارة في رصيدها الشعبي. هكذا تصرفت ازاء دور الثورة الفلسطينية في الاردن، وبعدها في لبنان، وبعدهما في الانتفاضة، وفي وقف الكفاح المسلح. اما الان فالواضح ان هذا المنهج القيادي لم يعد مقبولا من القاعدة الشعبية العريضة ولا من كوادر الفصائل والتنظيمات، ويفترض ان لا يكون له مكان في الحياة السياسية الفلسطينية بعد الانتخابات.
واذا كنا لسنا بصدد تقييم ومراجعة مواقف المعارضة من الانتخابات فالواضح ان الاستمرار في المكابرة وعدم اعترافها بخطأها في مقاطعة الانتخابات يزيد من خسارتها، ولا يساعدها على التعاطي بطريقة صحيحة ومسؤولة مع النتائج السياسية والتنظيمية التي أفرزتها الانتخابات، ولا مع التطورات السياسية الكبيرة القادمة. فموضوعية التقيم تفرض على الجميع الاقرار بأن الانتخابات اخرجت الفلسطينيين من المأزق المتعلق بشرعية القيادة، وحلتهم لهم مشكلة وحدة القيادة بين الداخل والخارج. فقد ملأت الفراغ في الشرعية، الذي نشأ منذ انتقال الحركة الوطنية الفلسطينية من مرحلة الكفاح المسلح “مرحلة حرب التحرير الشعبية”، الى مرحلة المفاوضات، ومرحلة تنفيذ الاتفاقات والحلول التي افرزتها موازين القوى الدولية والعربية والمحلية. وبعد نزول القيادة الفلسطينية من على ظهر سفينة الثورة وصعودها ظهر سفينة اخرى تبحر مسرعة باتجاه بناء الدولة المستقلة على الارض. وانها احدثت ايضا تجديدا وتغييرا جوهريين ايجابيين في اسس تشكيل القيادة الفلسطينية ومكان وجودها، وفي ميكانيكية اتخاذ القرار الوطني الفلسطيني. فالانتخابات انهت فترة ربع قرن من تغييب دور الداخل في المشاركة في صنع القرار ومن احتكارالخارج لهذا الدور، واعطته الفرصة ليقول رايه في سبل معالجة قضاياه وكل القضايا التي تهم الشأن الفلسطيني العام، بما في ذلك قضايا اللاجئين والنازحين المقيمين خارج الارض الفلسطينية. وفي هذا السياق لعل من المفيد القول أن عضوية المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين وعضوية اللجنة التنيذية بقيت منذ عام 1968 وحتى عبور السلطة الوطنية محصورة بالفلسطينيين المقيمين خارج الاراضي الفلسطينية، ولم تضم في صفوفها، بسبب سياسة الاحتلال، أي عضو من الداخل (باستثناء من ابعدتهم سلطات الاحتلال وانضموا لركب الخارج). وان جميع أعضاء المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين ـ باستثناء ممثلي المنظمات والاتحادات الشعبية، وممثلي امريكا اللاتينية، لم ينتخبهم احد، وقد اكتسبوا عضويتهم بالتعين، اما من خلال كوتا الفصائل أو عبر مساومات شاقة بين قيادات الفصائل والتنظيمات الفلسطينية العاملة في اطار م ت ف. ولا اذيع سرا اذا قلت ان القيادة الفلسطينية رفضت عند تشكيل المجلس السابع (الحالي) على ابواب الدورة التاسعة عشرة، اعتماد مبدأ اجراء انتخابات خاصة داخل الفصائل ذاتها، وداخل الاتحادات الشعبية لانتخاب ممثليها في المجلس الوطني، واصرت على مبدأ التعيين .
والان ليس عسيرا على أي باحث موضوعي في مستقبل الهئيات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية الفلسطينية أن يرى كيف وضعت الانتخابات جميع الفصائل والتنظيمات في مرحلة البحث عن الهوية، بما في ذلك حركة فتح التي فازت باغلبية مقاعد المجلس. وفرضت عليها تجديد ذاتها واعادة صياغة انظمتها ولوائحها الداخلية وبرامجها الفكرية والنضالية. وكيف خلقت مفهوما جديدا للمعارضة، وجعلت شرعية جميع القادة الفلسطينيين التي لم ينتخبوا موضع تساؤل، وفرضت عليهم السعي لتجديدها بصيغة أو اخرى باعتبارهم كانوا قادة لمرحلة انتهت كان اسمها مرحلة الفصائل والتنظيمات المسلحة وصارت الان جزءا من التاريخ الفلسطينيي.
وبصرف النظر عن النوايا والرغبات الفلسطينية او نوايا الاخرين اتجاه الانتخابات يمكن القول اذا كانت المشاركة في عملية السلام والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية فرضتا على القيادة الفلسطينية اعادة النظر في الشعارات وفي كل استراتيجية العمل الفلسطيني، واظهرتا ضرورات وضع استراتيجية جديدة، واعادة ترتيب الاولويات الفلسطينية على اسس واقعية بعيدة عن المبالغات الذاتية السياسية والتنظيمية. فالانتخابات أوجدت لاول مرة قيادة جديدة ، تقيم على الارض الفلسطينية، منتخبة مباشرة من جزء من الشعب الفلسطيني وهذا الجزء هو مرجعيتها، وتحظى شرعيتها باعتراف دولي وعربي رسمي. وهذه القيادة الجديدة، مهما كان اسمها وصلاحياتها الممنوحة لها حتى الان، فهي عمليا وموضوعيا القيادة الفلسطينية البديلة للقيادة التاريخية التي استمدت شرعيتها من دورها الثوري ومن مواقعها في تنظيماتها. فالدور القيادي للمجلس التشريعي المنتخب سوف ينمو ويكبر في كل المجالات وعلى كل المستويات وبتسارع شديد. وبصرف النظر عن رأي بعض الفلسطينيين في هذا المجلس، وعن الرغبة المتأخرة جدا للعديد من قادة م ت ف في تفعيل دور هيئات المنظمة فهو الذي سيتولى قيادة السفينة الفلسطينية من الان وحتى الانتخابات الفلسطينية التشريعية القادمة. وسوف يكون دوره هذا على حساب دور هيئات منظمة التحرير. واظن انه لن يواجه اية مشكلات جدية على هذا الصعيد. فالمنظمة منهكة ومشلولة، ومصابة منذ فترة طويلة بامراض بنيوية وتنظيمية عديدة مزمنة، والمجلس المنخب هو الابن الشرعي الوحيد للمنظمة ووريثها الشرعي الذي ولد بصورة طبيعية من رحمها وهي موضوعة في غرفة الانعاش، وحظي فورا باعتراف دولي وعربي رسميين. وفحص جسده يظهر انه مزيج من الداخل والخارج الفلسطيني وبنسب مقبولة. فجزء ليس بسيط من الفائزين في الانتخابات هم من الكوادر والقيادات التي عادت للوطن مؤخرا، وهم أصلا إما اعضاء في المجلس الوطني أو في احدى مؤسسات م ت ف الاخرى. وذات الشيء ينطبق على ادوات الحكم ـ الوزارة، الموظفين، الادارات ، قوات الامن والشرطة والمخابرات..الخ
صحيح ان قانون الانتخابات قد نص على ان المجلس المنتخب هو جزء المجلس الوطني الفلسطيني، لكن الصحيح ايضا ان له هويته الخاصة، وله وظائفه ومهامه وصلاحياته المحدة. والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية احالت له جزءا هاما من صلاحيات الهيئات القيادية التشريعية والتنفيذية في منظمة التحرير الفلسطيني وبخاصة تلك المتعلقة بصلاحية ادارة المفاوضات اللاحقة حول قضايا الحل النهائي ـ اللاجئين، القدس، المستوطنات، الحدود، الترتيبات الامنية النهائية ـ . واظن ان التباكي الان او لاحقا على منظمة التحرير لا يفيد ومردود على اصحابه. فلم يبادر أي طرف فلسطيني الى انقاذها من مأزقها، وتطوير اوضاعها بما يتلائم والتطورات الكبيرة التي وقعت على القضية الوطنية، وفي بنية المجتمع الفلسطيني وبنية الحركة الوطنية. والكل ساهم بنسبة او اخرى بقصد او بدون قصد في اضعاف دورها التمثيلي، وتهميش دورها القيادي وتفكيك هيئاتها. فاللجنة التنفيذية جير دورها منذ العبور الى غزة واريحا لصالح السلطة الفلسطينية. وآخر اجتماع عقدته اعلى هيئة تشريعية (المجلس الوطني الفلسطيني) كان قبل الذهاب الى مؤتمر مدريد اواخر عام 1991. اما آخر اجتماع عقدة المجلس المركزي فكان بعد التوقيع على اتفاق اوسلو عام 1993.
واخيرا في ضوء هذه الرؤيا، واقرار الجميع باستحالة العودة بالوضع القيادي الفلسطيني الى الحاله التي كانت قائمة قبل الانتقال من الداخل للخارج وقبل الانتخابات، يتبادر للذهن سؤال هل نقول وداعا لمنظمة التحرير ونعلن وفاتها ونشيعها الى مثواها الاخير بعد انعقاد الدورة القادمة للمجلس الوطني الفلسطيني،، أما ان هناك دورا حيويا لازال بامكانها القيام به؟ سؤال مطروح على الجميع ، ساحاول الاجتهاد في الاجابة عليه في مقالة اخرى .
ممدوح نوفل