مقاطعة الانتخابات الفلسطينية خطأ استرايجي وخسارة صافية

بقلم ممدوح نوفل في 23/01/1996

في العشرين من شهر كانون الاول الجاري سيتوجة الناخبون في الضفة الغربية وقطاع غزة الى صناديق الاقتراع ليختاروا ممثليهم في المجلس “التشريعي” ولينتخبوا رئيس “الوزراء” السلطة الوطنية. وبالتمعن في مسار العملية التحضيرية، وفي ردود الفعل الشعبية والعربية والدولية على ما تم انجازه حتى الان يمكن القول أنه باستثناء الملاحظات البسيطة التي اشار لها المراقبون الدوليون حول تأخير بدء الحملة الانتخابية مدة يومين، وحول اعادة فتح باب الترشيح بعد اقفاله، فالعملية الانتخابية تسير بشكل طبيعي، وبصورة حرة وديمقراطية ونزيهة. واصبحت بمثابة القضية المركزية الطاغية على الحياة السياسية الفلسطينية وبخاصة في في الضفة الغربية وقطاع غزة ، وتحظى باهتمام عربي ودولي كبيرين ، وتنال رضا وتقدير المراقبين والمحلين العرب والاجانب والذين قارب عددهم ثلاثة آلاف مراقب.
اما بشأن التفاعل المتوقع مع الخطوات الباقية من الان وحتى اقفال صناديق الاقتراع فالواضح ان لا مصلحة لأي من المرشحين المشاركين في الانتخابات، أفرادا وقوى سياسية، في المس بها وتعكير صفو مسارها، خاصة وانه لم يسجل في أي من الدوائر الانتخابية أي انتقاص من حقوق المرشحين في طرح برامجهم الانتخابية والتعبيرعن وجهات نظرهم كيفما يشاؤون. ولعل خضوع هذه الانتخابات لرقابة شعبية عربية ودولية مرموقة وواسعة، وبقاء المعركة الانتخابية محصورة بين مرشحي حركة فتح بعضهم مع بعض بالاساس، وبينهم وبين عدد من المرشحين المستقلين ومن القوى الاخرى الصغيرة يمكّنها من المحافظة على السمات الاساسية التي تمتعت بها حتى الان “حرة ونزيهة وديمقراطية”، ويجنبها المرور في التجربة الجزائرية، ويساعد على اقفال صناديق الاقتراع بهدوء وبدون مشاكل جدية كالتي وقعت في الانتخابات المصر مؤخرا.
اما بشأن المشاركة في التصويت، فتقديرات المراقبين والمحليين المحايدين تشير الى انه بالرغم من دعوات قوى المعارضة للمقاطعة فان نسبة المشاركة الشعبية في التصويت سوف تكون واسعة بالقياس لما يجري في دول العالم ودول المنطقة، ولا يستثني بعضهم وقوع بعض المفاجئات بشأن فوز بعض المرشحين وسقوط آخرين .
وبصرف النظر عن النتائج التنظيمية التي ستفرزها الانتخابات، فالواضح أن سكان الضفة الضفة والغربية وقطاع غزة يتعاطون مع العملية بكل جدية، ويتعاملون معها باعتبارها أداتهم لاستكمال معركة التحرير وانتزاع بقية حقوقهم المغتصبة، وازالة المستوطنات، وايضا مدخلهم لبناء مجتمعهم المدني الجديد الذي يحلمون به. ويراهنون عليها في ارساء نظامهم السياسي على اسس ديمقراطية صحيحة، وتطوير اوضاعهم الاقتصادية والمعيشية وتحسين مستوى الخدمات التي تقمها السلطة لهم. أما القوى العربية والدولية بما في ذلك اسرائيل فالواضح انها سوف تتعاطى مع الواقع الجديد ومع النتائج التي ستفرزها الانتخابات. وسوف تتعامل معها باعتبارها استفتاء حول الموقف الفلسطيني من عملية السلام الجارية منذ اربع سنوات، وحول كل الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية التي تم التوصل لها حتى الان. كما ستتعامل مع المجلس “التشريعي” ورئيس الوزراء المنتخبين باعتبارهما سلطتين رسميتين شرعيتين تستمدان شرعيتهما من الشعب مباشرة، ولهما الحق في اتخاذ القرارات في حدود التفويض الممنوح لهما، وفي اطار الصلاحيات التي ينص عليها قانون الانتخابات.
اعتقد أن أشد المعارضين للانتخابات لا يستطيعون انكار انها سوف تفرز وضعا وواقعا جديدين تماما على الحياة السياسية والحزبية الفلسطينية، وفي العلاقات الفلسطينية والعربية والدولية. ولا يستطيعون الطعن الان ولا وفي المستقبل في ديمقراطيتها،وحريتها، ونزاهتها، وبالتالي في شرعية نتائجها. وأن حالة الجدل الواسعة التي خلقتها العملية الانتخابية في المجتمع الفلسطيني داخل وخارج “فلسطين”، وحرص اكثر من مليون على تسجيل أنفسهم للتصويت، وضهور حالة من التنافس الشديد بين ما يقارب ال 700 مرشح على عضوية المجلس، تفرض عليهم مصارحة الذات والاعتراف بأن هذه الانتخابات تحظى بدعم واسناد شعبي فلسطيني كاسح، وتنال رضا الغالبية الساحقة من الناس في الضفة والقطاع. ناهيك عن الدعم والاسناد الشامل الذي تتلقاه على المستويين العربي والدولي. واذا جاز التعامل مع ما تم انجازه حتى الان، ومع النتائج المتوقعة للانتخابات كاستفتاء وكمقياس لحساب الربح والخسارة فالتقييم الموضوعي يؤكد ان النتيجة ليست في صالح القوى الفلسطينية التي دعت الى مقاطعة الانتخابات، وان المقاطعين هم الخاسرون أولا وأخيرا على الصعيدين التكتيكي والاستراتيجي.
بعد الاحتفالات الجماهيرية الحاشدة التي شهدتها مدن الضفة الغربية بمناسبة انسحاب قوات الاحتلال، توقع كثير من المراقبين السياسين المحايدين ان تقوم المعارضة الفلسطينية بمراجعة مواقفها من الانتخابات، كون نزول مئات الالوف من المواطنيين الى شوارع نابلس ورام الله وبيت لحم وجنيين وقلقيلية وطولكرم مؤشرا على الموقف الشعبي الفلسطيني من عملية السلام ومن ما تحقق منها بما في ذلك الانتخابات، الا ان شيئا من ذلك لم يقع، واكدت المعارضة الفلسطينية من جديد اصرارها على التمسك بالنزعات الذاتية والارادية كقاعدة ثابتة في تقرير مواقفها، وانها لا تعتمد نبض الشارع الفلسطيني كمرشد لها في رسم سياساتها وتوجهاتها الوطنية. ومن غير المستبعد انها لا زالت تتمسك ببعض المقولات النظرية اليسراوية التي تقول ” ضرورة عدم الانسياق وراء عفوية الجماهير..”
وانطلاقا من القناعة بأهمية وجود معارضة فلسطينية قوية داخل الاطر الفلسطينية الرسمية الشرعية، وحقها الكامل في اتخاذ المواقف التي تراها مناسبة بحثت عن التحولات والتطورات المحلية والاقليمية والدولية المحتملة التي تراهن المعارضة على وقوعها وتدفعها نحو مقاطعة الانتخابات، الا أنني أعترف باني لم أعثر عليها حتى الان…فالمرئي يشير الى ان ميزان القوى الذي فرض الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية سيبقى مختلا لصالح اسرائيل من الان ولفترة طويلة لاحقة، وأن الرياح الدولية التي هبت على المنطقة منذ مطلع هذا العقد ودفعت اطراف الصراع الى الخروج من خنادق القتال والانتقال الى طاولة المفاوضات قد ازدادت قوة، واوجدت لذاتها مسارب وممرات ثابتة تمكنها من جرف المعوقات التي تعترض طريقها. وحاولت العثور على نتيجة ايجابية واحدة لمقاطعة الانتخابات فلم أجدها، اللهم الا اذا كان يمكن اعتبار المحافظة على “الطهارة الثورية” واحدة منها. علما بان العفة والطهارة الثورية لا تعالج مشكلات المجتمع ولا تلبي تتطلعات الكوادر والقواعد الحزبية. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف على أن مقاطعة الانتخابات لا يؤدي الى الغاء الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية المعترض عليها. تماما كما فشل نهج المعارضة في تجميد العمل في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ومقاطعة أعمال المجلس المركزي الفلسطيني في تحسين الاداء التفاوضي الفلسطيني وتصحيح أوضاع منظمة التحرير وتصويب سياستها.
اعتقد أن المعارضة الفلسطينية أخطأت مرتين في تعاطيها مع الانتخابات وانها سوف تدفع ثمنهما غاليا في المستقبل المباشر والبعيد، الاولى: عندما أعلنت انها سوف تقاطع الانتخابات واصدرت اوامرها من الخارج الى كوادرها بعدم ترشيح انفسهم. فهي في هذه الحالة وضعت نفسها في تصادم مع تطلعات ابناء الضفة والقطاع، ووصمت نفسها بالتطرف واستدرجت عداوات جديدة. وحرمت نفسها من الدخول الى منبر رسمي معترف بشرعيته عربيا وعالميا، وقدمت نفسها على كل المستويات بشخصية مزدوجة فهي من جهة تنادي بالديمقراطية وتنتقد ديكتاتورية السلطة وبخاصة رأسها، لكنها من جهة أخرى ترفض الانخراط في عملية ديمقراطية بما في ذلك التنافس حول استلام السلطة. وهناك من يعتبر انسحابها مبكرا من الصراع وقبل بدء المعركة الداخلية حول الديمقراطية هو نتيجة منطقية لعدم ثقتها بقدراتها في المواجهة وخشيتها من نتائجها. ومن المؤكد أن غيابها عن المجلس التشريعي سوف يقود الى غيابها عن المشاركة في صنع القرار في وقت حاسم يتقرر فيه مصير الوطن ارضا وشعبا. واظن عودتها لاحقا وبعد ثلاث أو أربع سنوات للالتحاق بالركب سوف يكلفها كثيرا، وسوف تحتاج الى جهود كبيرة لتعوض عن غيابها وعن الخسائر التنظيمية والسياسية التي تكون قد لحقت بها. ولعل تمرد عدد من القادة الميدانيين من قوى المعارضة في الداخل على قرار القيادة في الخارج واصرارهم على ترشيح انفسهم مؤشر على طبيعة الخسائر التنظيمية التي ستحصدها. صحيح ما يقوله بعض قادة المعارضة “بان الانتخابات الفلسطينية ليست نهاية العالم”، وصحيح انها لا تعني انتهاء النضال الفلسطيني بل بداية شكل جديد من اشكاله، لكن الصحيح ايضا ان الغياب عن الانخراط في ممارسة هذا الشكل من بدايته يعني الغياب عن الحركة السياسية الفلسطينية في أعز الاوقات واثمنها على الاطلاق، ومثل هذا الغياب سيبقى حاضرا في ذهن الناس لفترة طويلة، وسوف يدونه التاريخ الفلسطيني. ولا أبالغ اذا قلت أن تلكأ المعارضة في المبادرة الى الدعوة للانتخابات، وعدم خوض معركة جدية من أجلها، وترددها ثم احجامها عن دخولها شبية بخطأ القوى القومية واليسارية أوائل الستينات عندما تلكأت في إعلان الكفاح المسلح، وترددت في اطلاق الرصاصة الاولى.
أما الخطأ الثاني الذي ارتكبته المعارضة فهو قرارها مقاطعة التصويت، ودعوتها للناس في بيانات علنية الى عدم الذهاب الى صناديق الاقتراع، علما بانها تدرك بان الانتخابات ستتم في موعدها، وان العديد من كوادرها لن يستجيبوا لدعواتها، وسيتوجهون لاعتبارات متنوعة، بالسر أو العلن مع الناس العاديين الى صناديق الاقتراع. والواضح ان خسائر المعارضة من هذا الخطأ سوف يكون مركب. فهو من جهة يقلص من فرص نجاح المرشحين الديمقراطيين ويقلص من نسبتهم في المجلس التشريعي ويضعف صوتهم فيه، ومن جهة أخرى يضعف قوى المعارضة ذاتها ويعرض وحدها الفكرية والتنظيمية الى الاهتزاز وقد يعرضها الى تمزقات وانقسامات جديدة. لقد بينت وقائع الحياة ان قادة المعارضة الاسرائيلية أقدر من المعارضة الفلسطينية واسرع منها في ادراك المتغيرات وفي التعامل معها، فقبل ايام اعلنوا انهم في حال فوزهم في انتخابات الكنيست سيتعاملوا مع الواقع الذي سيرثوه، وانهم سيناضلوا لمنع تحول الكيان الفلسطيني الموجود الى دولة مستقلة، فهل ستستفيد المعارضة الفلسطينية وتبادر الى مراجعة مواقفها ودعوة كوادرها وانصارها الى المشاركة في الانتخابات على امل تقليص الخسائر، أم أنها ستبقى مصرة على مواقفها الجامدة واستهلاك ما تبقى من رصيدها ؟
وفي سياق المساعدة على استخلاص العبر لعل من المفيد القول أن التطورات المتسارعة على الساحة الفلسطينية أظهرت للجميع أن لا حلول سحرية للوضع الفلسطيني، ولم يعد بالامكان التواجد في الخارج وتوجيه النصائح واصدار الاوامر والتعليمات للداخل. وانه ليس معقولا ولا مقبولا من احد، كائنا من كان، الجلوس على جانب الطريق والتفرج على ما يجري اوالاستخفاف به، وتنصيب الذات قاضيا حكيما له الحق في كيل المديح والثناء لمن يشاء، او توجيه التهم يمينا ويسارا. في السابق وقبل الانتخابات كان لطعون المعارضة بشرعية القيادة( وهي جزء منها) وبشرعية القرارات والاتفاقات بعض ما يبررة، أما بعد الانتخابات فاظن أنها ستفقد هذه المبررات ، ولا ادري اذا كانت المعارضة الفلسطينية ستعمق مأزقها وسترفع شعار اسقاط المجلس التشريعي ورئيس الوزراء المنخبين من الشعب مباشرة..؟!