العقلية الاسرائيلية الانتقامية خطر على عملية السلام

بقلم ممدوح نوفل في 11/01/1996

بعد نجاح المؤسسة الامنية الاسرائيلية في اغتيال يحيى عياش قائد كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، قال أحد الوزراء الاسرائيليين بشئ من الفرح النشوة : ” كل ما أستطيع أن أقوله، وبكل سرور، أن اسرائيل تخلصت من رجل خطير، وأن العمليات التخريبية لهذا الرجل (يقصد عياش) قد انتهت وأنا أرحب بذلك “. وتسابق المعلقون والمحللون الاسرائيليون بمختلف صنوفهم وأطيافهم السياسية، وما زالوا يتسابقون، في كيل المديح والثناء للمؤسسة الامنية الاسرائيلية، وبالغوا في ذلك عندما جعلوا من العملية مقياسا ودليلا على القدرات الخارقة لجهاز الشاباك. ولوحظ ان معظم وسائل الاعلام العربية وقعت اسيرة للانفعالات، وانساق بعضها وراء المبالغات الاسرائيلية. والان وبعد أن هدأت العواطف والانفعالات الاسرائيلية والفلسطينية التي هللت للعملية أو التي استنكرتها، أعتقد أن من المفيد للجميع التوقف امام مدلولات وانعكاسات هذا العمل على العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وتأمل مخاطر الفكر الذي أفرزه على الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية التي تم التوصل لها، ورؤية أبعاده على مستقبل عملية السلام، وعلى فكرة التعايش بين الشعبين.
فالثابت أن عملية اغتيال القائد يحيى عياش في هذا الوقت بالذات، والتعليقات الاسرائيلية عليها، أعادت شعوب المنطقة وقواها السياسية الحاكمة وغير الحاكمة الى أجواء ما قبل انطلاقة عملية السلام، حين كانت أطراف الصراع تتباهى بقدراتها الامنية والعسكرية، وتتباهى بطريقة استعراضية بكل عملية صغيرة أو كبيرة تنجح في تنفيذها ضد عدوها المتربص بها في الطرف الاخر من ميدان الصراع. ولعل الاستفتاء الذي نشر وبين أن 87% من الاسرائيليين أيدوا قتل عياش، وما قابله من نزول لعشرات الألوف من الفلسطينيين في قطاع غزة ومدن الضفة الغربية الى الشوارع مستنكرين الاغتيال خير دليل على ذلك .
وبصرف النظر عن المبررات التي تسوقها اجهزة الامن الاسرائيلية لاغتيال عياش على أرض القطاع وفي هذا الوقت بالذات، وللطريقة الاستعراضية التي أعلنت فيها عن النبأ، فالعملية أثارت من جديد علامات استفهام كثيرة حول المفهوم الاسرائيلي للأمن داخل مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية: هل هو من واجبات وصلاحيات السلطة الفلسطينية واجهزتها الامنية أم الاجهزة الامنية الاسرائيلية؟ وهل انهاء العنف الفلسطيني ضد اسرائيل والاسرائيليين من داخل مناطق السلطة الفلسطيينية مسؤولية فلسطينية أم اسرائيلية ؟ والاهم من ذلك كله هل إنهاء هذا الشكل من النشاط يتم بالقتل أم بالطرق السياسية ومن ضمنها الحوار؟ وهل اغتيال يحيى عياش، وقبله فتحي الشقاقي زعيم حركة الجهاد الاسلامي، يوقف العنف ويخدم الحوار الذي بدأته السلطة الفلسطينية مع حماس لوقف العمل العسكري أم يؤججه؟
في السابق، وعلى امتداد أكثر من ربع قرن من الزمن حاولت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة انهاء “العنف” الفلسطيني الصادر عن م. ت. ف. وقواها المسلحة بواسطة انكار حقوق الشعب الفلسطيني، وباللجوء الى القمع والارهاب بما في ذلك هدم المنازل والاغتيالات، واستخدام المدافع والطائرات والدبابات وشن الحروب الصغيرة والواسعة، لكنها فشلت في ذلك، وكانت النتيجة تعميق الحقد والكراهية بين الشعبين. وأدركت متأخرة أن معالجة “العنف” الفلسطيني يتم فقط من خلال المفاوضات، واعطاء الشعب الفلسطيني بعضا من حقوقه الكثيرة المسلوبة والمغتصبة. وكنتيجة لهذا الادراك ذهب الجميع الى مدريد قبل أربع سنوات، وتوصلوا بعدها الى الاتفاقات المعروفة، وكلها تنص على أن الامن داخل مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية مسؤولية فلسطينية، وان السلطة الفلسطينية واجهزتها الامنية هي المعنية عن منع تحول المناطق التي يجلو عنها الاحتلال الى قواعد انطلاق للعنف والعمل العسكري ضد اسرائيل والاسرائيليين. ولا نذيع سرا اذا قلنا ان السلطة الفلسطينية قامت في العام الاخير بمسؤولياتها، وعطلت تنفيذ العديد من العمليات العسكرية من قطاع غزة ومنطقة اريحا ضد أهداف اسرائيلية في اسرائيل والضفة الغربية والقطاع، وانها في بعض الاحيان ذهبت بعيدا وأكثر مما كان متوقعا منها وفاق ما يتحمله الوضع الفلسطيني، بما في ذلك اعتقال العديد من القيادات والكوادر العسكرية المنتمية للفصائل المعارضة لعملية السلام. ودفعت مكرهة بعضا من رصيدها الشعبي ثمن ذلك.
واغتيال عياش الان وفي هذا الوقت بالذات اربك عملية الانتخابات الفلسطينية، وفرض الموضوع برمته على الحملة الانتخابية للمرشحين، وجعله مادة اساسية لتحديد وجهة بعض اصوات الناخبين، واظن أنه لو كان لحماس مرشحين لحصدوا نتائج ايجابية بسبب اغتيال القائد يحيى عياش. وتنفيذ العملية على الاراضي الفلسطينية الخاضعة من الناحية الامنية لمسؤوليات قوات الامن والشرطة والمخابرات الفلسطينية، خرق فاضح للاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية يعمق الشك الشعبي بمصداقيتها، ويقوي التطرف في الساحة الفلسطينية ويضعف مواقف وحجة انصار السلام الحقيقي العادل والشامل. وفيه مساس متعمد بهيبة السلطة الفلسطينية واجهزتها الامنية، وألحق أضرارا كبيرة بسمعتها، وألقى على كاهلها مسؤولية أدبية باعتبارها الجهة المسؤولة عن أمن كل المواطنيين الفلسطينيين في المناطق التي تسيطر عليها. وعقّد العلاقات الفلسطينية الداخلية المعقدة اصل، وأضعف موقف السلطة في حوارها مع حماس والمعارضة حول وقف العمل العسكري والانخراط في مسيرة التعمير والبناء. وجعل حركة حماس في حل من التزامها الأدبي، وقد يدفعها نحو معاودة نشاطها العسكري بهدف الانتقام. فهل هذا بعض مما خططت له وأرادته المؤسسة الامنية التي تعمدت إغتيال عياش في هذا الوقت بالذات؟ أعتقد أن اضعاف السلطة الفلسطينية و”هرجلة” أجهزتها الامنية لا يساعد في انجاز المهام الامنية الداخلية والخارجية المسندة لهذه المؤسسات الفلسطينية. الا اذا كانت الحكومة الاسرائيلية، وصلت الى استخلاص مفاده عدم اعتماد السلطة الفلسطينية كشريك في صنع الامن والاستقرار بين الطرفين، وقررت ابقاء الامن داخل مناطق السلطة الفلسطينية ضمن المسؤوليات والصلاحيات المباشرة لاجهزتها الامنية المتنوعة .
وبصرف النظر عن ملابسات العملية، أظن أنني لا أبسط الامور ولا أقلل من خطورة الاختراق الامني الذي مكّن أجهزة الامن الاسرائيلية من اغتيال عياش اذا قلت : أن بقاء يحيى عياش فترة أربع سنوات حرا طليقا، ونجاحه في تنفيذ كل ما نفذ، وبناء كل ما بناه، قبل أن تصله أجهزة الامن الاسرائيلية هو دليل على قصور في قدرات هذه الاجهزة، ومؤشر على ضعف نفوذها، لاسيما وأنها حكمت الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع أكثر من ربع قرن من الزمن، وبنت حول نفسها شبكة ـ كأية قوة احتلال ـ ليست بسيطة من العملاء والمأجورين. ولا أمس من طاقات عياش اذا قلت أن الوقائع تؤكدت أنه لم يكن ذو خبرة أمنية عالية، ” قائد مطلوب ومطارد ويستخدم الهاتف النقال وغير النقال، ويلتقي بأهله باستمرار..الخ ” بل كانت تنقصه بعض جوانبها الاساسية. وأن حسن التنظيم، وتماسكه، واتساع قاعدته وصلابتها وارتفاع مستوى استعدادها للتضحية هي الاساس في نجاحه في تضليل أجهزة الامن الاسرائيلية كل هذه الفترة الزمنية الطويلة، وفي تنفيذ ما نفذ. ولذا تخطئ القيادة الاسرائيلية إن هي تجاهلت أن وقف حركة حماس لنشاطها العسكري في الشهور الخمسة الاخيرة لم يكن نتيجة ضعف، بل نتيجة تفاهم ضمني تم بينها وبين السلطة الفلسطينية. وتخطئ اكثر إن هي اعتقدت أن القضاء على قائد ميداني أو بضعة كوادر نشيطة يشل نشاطات حركة حماس، ويوقف العنف وينهي العمليات القتالية ضد اسرائيل والاسرائيليين. فالنشاط العسكري لحماس يتم بقرار سياسي مركزي وكذلك تجميده أو وقفه.
والتمعن في تفاصيل عملية الاغتيال وملابساتها، يبين أن المؤسسة الامنية الاسرائيلية مدعومة من المؤسسة السياسية تعمدت قتل عياش داخل قطاع غزة، وتعاطت مع الموضوع من منطلقات انتقامية، وبأفق ضيق لا علاقة له بالحسابات الاستراتيجية. فقد تعمدت اللجوء للقتل في الوقت الذي لم يكن القتل هو الخيارالوحيد المتاح أمامها. فتفاصيل العملية تبين أن عياش كان تحت الرقابة المباشرة للاجهزة الامنية الاسرائيلية منذ بضعة أشهر، وانه كان في متناول يدها، والواضح انها تعمدت قتله في هذا الوقت بالذات لتسترد بعضا من الهيبة التي فقدتها بعد نجاح حركة حماس في فترة سابقة في تكرار عملياته داخل المدن الاسرائيلية. وتعمدت الاعلان عن الموضوع بطريقة بوليسية استعراضية لتغطي على قصورها في توفير الحماية اللازمة لرابين وفشلها في منع قتله على يد المتطرفين الاسرائيليين.
وبصرف النظرعن النوايا والاهداف فالامور تقاس بنتائجها، وفي هذا السياق يمكن وصف العملية بانها عملية انتقامية جاءت متأخرة وخارج سياق المسار الذي سارت فيه الامور في الشهور الاخيرة. اثارت في النفوس ذكريات الحروب والقتل والتصفيات والانتقام المتبادل، والتي اعتبرت بعد التقدم على طريق السلام جزءا من الماضي. وانها جاءت لترفع من درجات الحرارة في واقع يتصف بانه قابل للاشتعلال. واعتقد أن الشهور القادمة سوف تبين للمؤسستين السياسية والامنية في اسرائيل أن قرار قتل يحيى عياش كان قرارا خاطأ، وان التباهي في قتله كان خطئ آخر، وان توكيل معالجة موضوعه للسلطة الفلسطينية كان الاسلم والاجدى. وأن الطريق حوار الذي سلكته السلطة الفلسطينية في الشهور الاخيرة في معالجة هذا الموضوع الشائك هو الاقصر والاجدى على المستويين المباشر والاستراتيجي.
لقد اخطأ بيريز ومن شاركه من قادة حزب العمل في اتخاذ القرار حين ساير العقلية الانتقامية “ودغدغوها”، ووافقوا على قتل عياش في هذا الوقت بالذات، وقد يجدوا أنفسه مضطرين الى دفع الثمن في انتخابات الكنيست القادمة. فالذين هللوا لقتل يحيى عياش قد يحجبوا أصواتهم غدا عن بيريز وعن حزب العمل، وقد يندفعوا نحو التطرف والمتطرفين بعد العملية الاولى او الثانية من العمليات المتوقع تنفيذها في الفترة القادمة من قبل حركتا حماس والجهاد الاسلامي، تحت ضغط جمهورهما وكوادرهما .
وفي هذا السياق لعل من المفيد القول أن التفكير الانتقامي هو ركن أساسي من أركان التطرف الايدلوجي والسياسي، ومسايرته يخلق صنوف متعددة من التوتر الاجتماعي. وهو ذاته الذي عطل ويعطل حتى الان اطلاق سراح آلاف المعتقلات والمعتقلين الفلسطينيين. ويصر على نبش الماضي ويرفض النظر للمستقبل، ويميز بين مقاتلين فلسطينيين ملطخة اياديهم بالدم واخرين اياديهم نظيفة…وهو الذي يعرقل عودة المبعدين. واظن ان استمراره في التأثير في على القرار في اسرائيل يمثل خطرا حقيقيا على عملية السلام، وعلى صنع التعايش بين الشعبين. وقديما قالوا من يزرع الرياح يحصد العواصف. ويبدو ان للمرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة استحقاقات لابد من دفعها بصيغة أو أخرى .