الردود على أسئلة مجلة دراسات فلسطينية

بقلم ممدوح نوفل في 26/01/1996

س1 / هل الاشتباكات التي وقعت في نهاية ايلول 1996 بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية ردة فعل جماهيرية عفوية على افتتاح السلطات الاسرائيلية للنفق تحت مدينة القدس القديمة، ام انها جزء من استراتيجية سياسية فلسطينية ؟

بداية لابد من تأكيد مقولة صحيحة تقول: ان قراءة الاحداث، اية احداث، بصورة مغلوطة تقود الى استنتاجات مغلوطة. وكي نتجنب الوقوع في الخطأ لا بد من الاتفاق على تعريف الاحداث الدموية التي حصلت في الاسبوع الاخير من ايلول 1996. المراجعة الموضوعية لمقدمات تلك الاحداث وتسلسلها بشقيه السياسي والعملي على الارض، تبين انها لم تكن حركة جماهيرية عفوية وقعت كرد فعل شعبي على فعل اسرائيلي مس بالمقدسات الفلسطينية. بل اكبر من ذلك وأشمل بكثير. ومجريات ما اصطلح على تسميته “هبة ايلول” او “معركة النفق” تؤكد انها تطور جديد في العلاقة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية، وفي الحركة السياسية الجارية بينهما. ارادته السلطة الفلسطينية بوعي وعملت مسبقا على انضاجه، وهيأت له المقاومات الضرورية نجاحه جماهيريا وسياسيا. وجاءت خطيئة نتنياهو بفتح النفق يوم 24/9 /1996 لتساعد السلطة الفلسطينية على تحديد التوقيت المناسب للتحرك، وقدمت أفضل قضية لحشد اكبر زخم شعبي ممكن. فالقيادة الفلسطينية تعرف قيمة القدس واماكنها المقدسة عند الشعب الفلسطيني. وتعرف أثر المساس بالمسجد الاقصى عند المسلمين.

وعندما بدأت الاحداث استنفرت السلطة اجهزتها الاعلامية والامنية، وزجت بثقلها وبعلاقاتها السياسية والدبلوماسية فيها. وارسلت رسائل سريعة للعديد من قادة دول العالم. واستخدمت ما استطاعت من طاقات شعبها في الضفة والقطاع ومن قدرات كوادرها الحزبية والجماهيرية واجهزتها الرسمية. وجندت لها امكاناتها التعبوية والدعاوية والاعلامية بما في ذلك الاذاعة والتلفزيون الرسميين. ولاحقا استثمرتها جيدا في ادارة الصراع مع حكومة نتنياهو، وفي تفعيل علاقاتها العربية والدولية لنصرة مواقفها.

ومن يراجع البيانات والتصريحات الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية التي تلت فوز الليكود في الانتخابات الاسرائيلية يجد ان القيادة الفلسطينية تفاجئت واصيبت بخيبة أمل كبيرة بنتائج الانتخابات. واعتبرت فوز الليكود فيها عقبة في طريق تقدم عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي وبقية المسارات العربية الاخرى. وعقبة في طريق استكمال تنفيذ الاتفاقات الفلسطينية ـ الاسرائيلية الموقعة بين الطرفين في عهد حكومة العمل، ومؤشر على صعود التطرف في المجتمع الاسرائيلي. ومرد هذا الاستخلاص يعود للشكوك المسبقة في نوايا الليكود، والنابعة من مواقفه الايدلوجية المعروفة والمتعارضة مع حركة التاريخ. ومن مواقفه السياسية السلبية القديمة المعروفة من م ت ف وحقوق الشعب الفلسطيني، ومن صيغة عملية السلام الجارية في المنطقة منذ اتفاق اوسلو وحتى الان، ومواقفه المعارضة للنتائج السياسية والعملية التي اسفرت عنها، بما في ذلك الاتفاقات الرسمية التي تم التوصل لها بين المنظمة وحكومة حزب العمل. وفي حينه استذكر الجميع مواقف الليكود في مفاوضات واشنطن ومدريد، واستذكروا اقوال رئيس الحكومة الاسرائيلية الاسبق “شامير، وزعيم الليكود في تلك الفترة “شيخه” حاليا: ” لو فزنا في الانتخابات لاستمرت المفاوضات عشر سنوات دون نتيجة عملية”. وجرى حديث في الاوساط القيادة الفلسطينية حول صحة التكتيك الذي اتبع في المفاوضات مع حكومة حزب العمل. حيث تم التجاوب مع طلبات بيريز من اجل النجاح في الانتخابات، وتمت الموافقة في حينه على تأجيل الانسحاب من الخليل. وتأجيل فتح المطار والميناء. وتاجيل الاتفاق على فتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع. وتأجيل اطلاق سراح المعتقلات واعداد كبيرة من المعتقلين. وقال البعض في سياق التندر “والتنكيت” حول الموقف الفلسطيني: طالب نتنياهو في الاتصالات السرية خروج السلطة الفلسطينية ورجالاتها من الضفة الغربية وقطاع غزة الى حيث يشاؤون، وابدى استعداده لدفع التكاليف. وان هذا الموقف لقي استحسانا عند بعض الفلسطينيين.. لكن شارون وايتان عارضوه، وطالبوا باعتقالهم ومحكامتهم جميعا استكمالا لاهداف معركة بيروت 1982 التي لم تتحقق..
وبعد تلاوة بيان الحكومة الائتلافية التي تشكلت برئاسة نتنياهو زادت الشكوك الفلسطينية الشعبية والرسمية حول مستقبل عملية السلام في عهد الليكود. وازداد القلق حول الحقوق الفلسطينية التي تم تأجيل تحصيلها. واعتقد كثيرون بان السلطة الفلسطينية فقدت كل الخيارات باستثناء خيار الموافقة على ما يقرره الجانب الاسرائيلي لنفسه ولها. لاسيما وان نتنياهو رفض اللقاء مع رئيس اللجنة التنفيذية. ورفض تحديد موعد تجدد المفاوضات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي. وكتب كثيرون وانا منهم “السلام ..على عملية السلام في عهد نتنياهو”. وفي حينه استنتجت السلطة الفلسطينية ان العالم لن يتحرك لاحياء عملية السلام وانقاذها اذا لم يتحرك اصحاب القضية لتحريكه وتحريكها. واصبحت السلطة امام خيارين احلاهما مر: الانتظار ريثما يمّن عليها نتنياهو باللقاء وبتجديد المفاوضات. وهذا يعني موت بطيء للاتفاقات ودفن للحقوق، وتفجر صراعات فلسطينية داخلية، لا سيما وان حالة الياس والاحباط بدأت بالانتشار في الشارع الفلسطيني، وراحت المعارضة “تتشفى” باوضاع السلطة ومأزقها. وبات الشارع مهيأ للتحرك ضدها وضد عملية السلام. اما الخيار الآخر فهو القيام بحركة كافية لجس نبض الليكود وردود فعله، وافهامه بانها لن تصمت على حقوقها وعلى المماطلة في استئناف المفاوضات. وقادرة على تحريك العالم لانقاذ عملية السلام واخرجها من الجمود الذي ادخلها فيها فوز الليكود في الانتخابات. وافهام الجميع بان العامل الفلسطيني ما يزال قادرا على خلط الاوراق في المنطقة. وان لدى القيادة الفلسطينية خيارات اخرى غير خيار الترقب والانتظار والاستجداء.

في حينه وقبل فتح النفق اختارت السلطة الفلسطينية الخيار الثاني. وراحت تقوم بتحريض مباشر وصريح للجمهور الفلسطيني للدفاع عن حقوقه ضمن عملية السلام. وشاركت اجهزتها الاعلامية والدعاوية والسياسية في ذلك. والكل يتذكر دعوة ابوعمار شخصيا الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة من على منصة المجلس التشريعي للاضراب يوم 29/8/1996 ودعوته المسلمين الفلسطينيين المقيمين على ارض فلسطين التاريخية للصلاة في المسجد الاقصى يوم 30/8/ 1996احتجاجا على ادخال الاسرائيليين جرافات الى داخل البدة القديمة وهدمها بعض البيوت. وكيف توجه بعد تلك الدعوة الى مدينة ناباس والتقى بنفسه في مخيم بلاطة مع ممثلي المخيمات في المحافظة. وزار بعض مدارسها وحرض الجميع على التحرك ضد الاستيطان. وقال لكل من التقاه بكل صراحة ووضوح: اسرائيل تريد بالاستيطان وهدم البيوت العربية تغيير معالم المدينة المقدسة، مسرى النبي ومهد المسيح، وتقرير مصيرها مسبقا من جانب واحد. والقدس امانة في اعناقكم واعناق جميع العرب والمسلمين ولا بد من الدفاع عنها. وكان هذا الكلام الواضح كافيا تماما لجميع الفلسطينيين عمال وفلاحين وطلاب ومثقفين وموظفين ولاجئين، ولكل قواعد وكوادر القوى الوطنية المشاركة وغير المشاركة في السلطة لان تدرك وتفهم ان السلطة في مأزق، وانها بشخص رئيسها تناشدهم التحرك دفاعا عن عروبة المدينة المقدسة وعن المقدسات الموجودة فيها.

وعندما وقعت الصدامات لم تتردد السلطة عن تولي زمام الامور وقيادة دفة المعركة. وادانت مواقف الحكومة الاسرائيلية، ونددت بسلوك قواتها العسكرية ضد الشعب الفلسطيني الاعزل من السلاح، وناشدت العرب والمسلمين والعالم بالتدخل. واذا كانت السلطة الفلسطينية لم تخطط رسميا للاشتباكات المسلحة التي وقعت بين الاجهزة الامنية والعسكرية الفلسطينية فهذا لا يغير التشخيص والتعريف المذكور اعلاه. فالاشتباكات المسلحة حصلت في سياق المصادمات المباشرة التي وقعت بين الجماهير واجهزة السلطة الفلسطينية من جهة وقوات الاحتلال من جهة اخرى. والشرطة الفلسطينية لم تمنع المواطنيين المحتجين من التوجة نحو المواقع العسكرية الاسرائيلية ولم تحاول منعهم من الاقتراب منها. واطلقت النار في سياق الدفاع عن النفس وعن الاهل وعن المدن المكلفة بالمهام الامنية فيها. وبعدما شاهدت عشرات القتلى والجرحى من اهلها يسقطون برصاص جنود الاحتلال، وبعدما بادر الجيش الاسرائيلي باطلاق النيران على افرادها ووقعت في صفوفها خسائر.
صحيح ان افرادها لم يتلقوا اوامر مركزية مباشرة بالمبادرة الى اطلاق النار او بالرد بالرصاص على مصادر النيران، لكنهم لم يكن لديها اوامر مسبقة بمنع التظاهرين والمحتجين من الاقتراب من المواقع الاسرائيلية ، ولم يكن لديهم اوامر بعدم التدخل بالسلاح دفاعا عن النفس وعن الناس وعن المواقع. وعندما بادر عدد من افرادها في بعض المواقع الى اطلاق النار باتجاه الجنود والمواقع الاسرائيلية لم يتلقوا اوامر بعدم اطلاق النار او وقفه الا بعدما تطورت الاشتباكات والصدامات غير المسلحة واتسعت رقعتها، وكادت ان تتحول الى قتال مفتوح بين اجهزة السلطة وقوات الاحتلال. واعتقد ان تصرفهم كان سليما. فلو تصرفوا غير ذلك لفقدوا دورهم ومكانتهم كمناضلين وطنيين امام شعبهم، ووضعوا انفسهم في دائرة الاتهام بالتقصير في الدفاع عن الشعب.

والتدقيق في مجريات الامور لاحقا يبين ان قضية النفق لم تكن القضية المركزية في ذهن القيادة الفلسطينية عندما دعت الناس للتحرك. ولعل القفز عن موضوع النفق كليا في المفاوضات التي تلت المعركة يؤكد ذلك. فلم يرد ذكره في الاتفاق الجديد “الخليل” الذي تم التوصل له يوم 15/1/1997. وان صمت الشارع الفلسطيني على فتحه لاحقا من قبل رئيس بلدية القدس “ايهود اولمرت” امام السواح والزائرين يظهر وكأن موقعه عند الناس العاديين لا يختلف عن السلطة.. وان القضية المركزية عند القيادة والشعب الفلسطيني هي الالتزام الاسرائيلي في عهد الليكود بعملية السلام، وتنفيذ الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين. وبخاصة ما لم ينفذ منها وبقي عالقا من اتفاق طابا واعادة الانتشار في ريف الضفة الغربية. وان فتح النفق كان الشرارة التي حركت السلطة والشارع وليس اكثر. صحيح ان فتح النفق استفز مشاعر المسلمين، وحرك حالة اليأس والحقد الدفين في الشارع الفلسطيني ضد الاحتلال، الا ان ما ذكر اعلاه يؤكد ان ما حصل لم يكن هبة شعبية عفوية اضطرت السلطة الفلسطينية مجاراتها وركوب موجتها لاستثمارها في الصراع حول قضايا محدد، واحتوائها لاحقا، بل كانت حركة جماهيرية استجابت فيها قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع لمواقف السلطة، ونتيجة عملية لتراكم حالة من اليأس من مجريات عملية السلام بعد تولي الليكود الحكم في اسرائيل. ونتيجة للازمة الاقتصادية والبطالة، وتراكم حقد كبير وعميق في النفوس ضد الاحتلال وممارساته القمعية المتنوعة. ويمكن القول عنها ايضا انها كانت حركة تكتيكية قامت بها جهات مقررة في السلطة في اطار استراتيجية عامة، تم فيها تحريك وتشغيل مؤقت لجزء من القوى الاستراتيجية، في ظرف سياسي ونضالي محدد، ولخدمة اهداف مباشرة بافق استراتيجي. وهي بنفس الوقت ليست استراتيجية سياسية ثابتة، وليست منهجا متواصلا يصلح لكل زمان ومكان.

س2/ هل يمكن عودة السلطة الوطنية الفلسطينية الى استعمال العنف لدعم المفاوض الفسطيني ولتحقيق اهدا ف سياسية في اطارعملية السلام الجارية او خارجها؟

في البداية لا بد من تحديد ما المقصود بالعنف. هل المقصود استخدام السلاح لدعم الموقف الفلسطيني في المفاوضات، وتحقيق اهداف سياسية. على غرار ما حصل خلال المفاوضات الفرنسية الجزائرية الفرنسية في ايفيان، ابان حرب التحرير التي خاضتها الجماهير الجزائرية بقيادة جبهة التحرير، او كما حصل مع الفتيناميين خلال نضالهم من اجل تحرير بلدهم من الوجود الامريكي، او ما شابه ذلك، فهذا المفهوم كما اعتقد جازما غير وارد في تفكير السلطة الفلسطينية. لاعتبارات عديدة. بعضها يتعلق بالوضعين الدولي والاقليمي السائدين الان والمؤثرين بصورة حاسمة في الصراع الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي وباشكال النضال التي يمكن للشعب الفلسطيني انتهاجها من اجل تحقيق اهدافه الوطنية. وبعضها الآخر يتعلق بالتطورات المذهلة التي وقعت على العلاقة القائمة بين منظمة التحرير والسطة الفلسطينية وحكومة اسرائيل. وهناك ما له علاقة بوضع الحركة الوطنية الفلسطينية ذاتها وبالحالة الشعبية السائدة وبوضع عموم حركة التحرر العربية. ويجب اولا ان لا ننسى اننا نتحدث عن الموضوع في ظل مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة التي كان لها دورها في تأجيج الصراعات الاقليمية، وفي تفجير الازمات الموجودة هنا او هناك. وايضا بعد قرابة نصف قرن من الصراع الدامي، وتجربة اكثر من ربع قرن من الكفاح المسلح الفلسطيني، تخللها اربعة حروب كبيرة تسببت كلها في ارهاق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المحيطة بفلسطين. وأظن ان الشيء ذاته حصل للشعب الاسرائيلي.

والحديث حول الموضوع يتم ثانيا، ولدى الشعب الفلسطيني تجربة الانتفاضة. واذا كانت الفصائل الفلسطينية لم تقيّم حتى الان ـ كالعادة ـ اثر عملية “تجييش” الانتفاضة ـ التي تمت بفضل توجهاتها ـ على الانتفاضة وعلى الفصائل ذاتها فيفترض ان لا يكون هناك خلاف على ان ما حققته الانتفاضة للقضية الفلسطينية على الصعيدين الدولي والاقليمي وداخل اسرائيل ـ مجتمع وسلطة ـ كبير ومهم ولا يجوز التقليل منه. وأظن انه لا يقل عن ما حققه الكفاح المسلح الفلسطيني بل قد يفوقه. قد يقول البعض ان ربع قرن من الكفاح المسلح ساهم بصورة واخرى في انضاج الحالة الشعبية والوصول بها الى حالة الانتفاضة ـ وهذا صحيح ـ ولكن يفترض ان يقر الجميع بانها تمت بمعزل عن اي تخطيط من الخارج، وان يقروا ايضا بان حجارة الاطفال وصرخات الشباب والنساء والشيوخ في الشوارع ومن على اسطح المنازل والمساجد والكنائس افعل من البنادق والمدافع والعبوات الناسفة. واعتقد ان عسكرة الانتفاضة في مراحلها الاخيرة على يد الفصائل لم يخدم الانتفاضة بل ساهم الى الى حد ما في اضعافها. وفي سياق الحديث عن الانتفاضة كشكل من اشكال النضال ضد الاحتلال لعل من المفيد ايضا التأكيد على ان تجدد الانتفاضة بصورة تلقائية كما انفجرت، او تجديدها بقرار من السلطة او المعارضة او من كليهما معا، حديث غير واقعي وغير علمي. فالانتفاضة تفجرت في ظروف فلسطينية واسرائيلية وعربية ودولية مختلفة تماما عن الظروف السائدة الان. وتفجرت بعد ربع قرن من القمع والارهاب مارسه الاحتلال. وبعدما اغلقت كل سبل الخلاص امام الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وفقد ثقته بكل التحركات السياسية والدبلوماسية، ونفذ صبره من انتظار التحرير من الخارج على يد الدول العربية وم ت ف. وفي حينه لم تكن هناك سلطة فلسطينية على الارض، ولم يكن هناك جيش من المسلحين الفلسطينيين قوامه اكثر من 30 الف رجل، ولم تكن هناك عملية سلام ولا اتفاقات فلسطينية اسرائيلية ملزمة للطرفين ومكفولة دوليا.

والحديث عن العنف المسلح يدور ثالثا، بعد تجربة خمس سنوات من المفاوضات الفلسطينية والعربية الاسرائيلية. بينت بالملموس ان طريق العمل السياسي والدبلوماسي وطريق الحوار المباشر مثمر ومنتج. وبصرف النظر عن رأي المعارضين لعملية السلام والذين ما زالوا يعتقدون بان الكفاح المسلح هو الشكل الرئيسي للنضال ضد الاحتلال الصهيوني، فنتائج المفاوضات اكدت ان خوض المعركة داخل الغرف، في الظرف الاقليمي الدولي الراهن، منتج ومثمر، واكثر انتاجا من خوضها بالسلاح في ميادين القتال. ويمكن من خلاله انتزاع الكثير من الحقوق الفلسطينية بما فيها تحرير الشعب من نير الاحتلال وظلمه، وتحرير اجزاء واسعة من الارض. والتقدم بخطوات ثابته نحو بلورة الكيان الفلسطيني وتوحيده وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة. واذا كانت مقولة “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة” و “الكفاح المسلح هو اقصر الطرق المؤدية الى تحرير فلسطين” مفيدة وصحيحة في سنوات الستينات والسبعينات، فالواضح انها لا تصلح لمرحلة الوفاق الدولي. وان الاخذ بها في الظرف الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي الراهن ضار وغير منتج. فما تحرر وسيتحرر من الارض الفلسطينية بعد اتفاق اوسلوـ طابا ـ الخليل لم يتمكن الكفاح المسلح الفلسطيني، ولا الحروب العربية الاسرائيلية من تحريرة. واظن انه ما كان له ان يتحرر لو لم يذهب الفلسطينيون الى مدريد عام 1991 ولم يدخلوا المفاوضات التي تغيرت شروطها.

وقبل ان اختم الحديث عن هذا الشق من السؤال أود ان اوضح مسألتين: الاولى ان مرحلة الكفاح المسلح الفلسطيني قد ادت اغراضها وانتهت منذ انطلاقة الانتفاضة. والادق منذ خروج قوات منظمة التحرير من بيروت، وثبعثرها في عدد من الدول العربية البعيدة عن حدود فلسطين. وان النضال الوطني الفلسطيني يمر الان في مرحلة تختلف نوعيا عن تلك التي سار فيها في درب الكفاح المسلح. والثاني، ضرورة التمييز بين اللجوء للعمل العسكري لتحقيق اغراض سياسية، وبين اللجوء له من قبل افراد الاجهزة الامنية الفلسطينية للدفاع عن النفس وعن الاهل وعن الارض الخاضعة لسلطة السلطة الفلسطينية في وجه اية اعتداءات بالسلاح تمارس ضدها. فاللجوء للسلاح من حالة الدفاع عن النفس وعن الشعب واجب وطني. ومن الضروري التأكيد ايضا على ان السلاح الوحيد المسموح به في الظرف الفلسطيني الراهن هو سلاح السلطة والسلاح المرخص حمله من قبلها ولا سلاح سواه. وعلى المعارضة الفلسطينية ان تتفهم هذه الظروف وان تتكيف مع هذا الواقع الجديد.

اما بشأن اصناف العنف الاخرى، فاذا كان المقصود بالسؤال هو تحرك الجماهير الفلسطينية وقواها الوطنية، للدفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، ودعم المفاوض الفلسطيني، واسناد مواقف السلطة في الصراع السياسي والدبلوماسي التي تخوضه..الخ فهذا امر طبيعي وضروري في كثير من الاحيان. وذات الشيء ينطبق على تنظيم الاضرابات والمظاهرات والاعتصامات السلمية ضد الاستيطان ودفاعا عن الارض. او احتجاجا على تعطيل تنفيذ الاتفاقات وضد كل اشكال التعديات والانتهاكات التي يمكن ان تقوم بها قوات الاحتلال او المستوطنون. وتخطئ السلطة ان هي اغفلت لاحقا دور هذا العنصر في الصراع. اي اذا حيدت الجماهير وابعدتها عن المعركة الجارية داخل غرف المفاوضات. واكتفت بالاعتماد على دور المفاوض وبراعته، وعلى الاسناد العربي والدولي الذي يمكن ان تتلقاه. فقد اكدت تجربة “معركة النفق”، وبعض التجارب في مواجهة مصادرة الاراضي والتوسع في الاستيطان ان اشراك الشعب في الصراع بطريقة موجهة ومدروسة، ونزول الناس للارض وفي شوارع المدن دفاعا عن الحقوق والممتلكات، كان له اُثره في تحريك القوى الاقليمية والدولية، وقدم اسنادا كبيرا ومهما للمفاوض الفلسطيني. ورغم الاتفاق الاخير الذي تم التوصل له مؤخرا فالواضح ان معركة مواجهة الاستيطان القادم تتطلب تفعيل دور المؤسسات والاتحادات والمنظمات الشعبية وكل قوى الشعب، وتجنيد الشارع الفلسطيني في هذه المعركة. فالمعركة الرئسية القادمة سوف تكون باتجاهين الاول الصراع لتنفيذ الاتفاق والثاني مقاومة الاستيطان.

س3/ هل يمكن للمعارضة الفلسطينية استخدام العمل العسكري لنسف عملية اوسلو؟ وما هي الفرص المتاحة في الداخل لهذا العمل، وما هو المزيج الهجومي الدفاعي المتاح له، وما هي محدودياته التقنية والسياسية؟

قبل الحديث عن الاعمال العسكرية التي يمكن للمعارضة ان تقوم بها وأثر ذلك على مسيرة السلام، لا بد من التعرف ولو بسرعة، على اوضاع عملية السلام ذاتها وعلى مدى قدرتها على تحمل الخضات والهزات الكبيرة التي يمكن ان تتعرض لها. وفي هذا الاطار لا اضيف جديدا اذا قلت ان الحالة العامة لعملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي ليست على ما يرام، وان وضعها الذاتي لا يمكّنها حتى الان من المشي للامام دون الاعتماد على الاخرين، رغم ان عمرها تجاوز خمس سنوات. وان احوالها ازدادت سوء بعد صعود الليكود للحكم في اسرائيل. وان انعدام الثقة ما زال سيد الموقف في علاقات الطرفين. واعتقد ان اتفاق “الخليل” الذي تم التوصل له مؤخرا لم ولا يغير كثيرا في هذه اللوحة. وان نجاحه في تخفيف حدة التوتر لا يعني انه نجح في تبديد الشكوك المتبادلة، ويجب ان لا يفهم منه انه مهد الطريق امام عربات القطار لتسير بسرعة مقبولة. فالايام والاسابيع القليلة القادمة تحمل في ثناياها أزمات كثيرة وكبيرة لا تقل عن الازمة التي عاشتها المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية قبل اتفاق الخليل. وسوف تلقي على كاهل الراعي الامريكي وكل القوى الدولية والاقليمية الحريصة على صنع السلام في المنطقة اعباء ومسؤوليات جسيمة. واذا كان لا مجال في هذه المقابلة للاسترسال في الحديث حول هذا الموضوع، فما اردت الوصول له هو ان حالة واوضاع عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي كانت وما زالت وستبقى لفترة طويلة هشة وضعيفة وغير محصنة ضد الصدمات والضربات الكبيرة او الصغيرة التي قد تتعرض لها. وانه يمكن للمعاضة التاثير سلبا فيها وفي مسيرتها اللاحقة. اما حجم ودرجة التأثير فسوف تكون متفاوتة ومتناسبة مع نوعية العمل ومستواه، وايضا متوافقة مع مصالح الطرف الاسرائيلي بالاساس، ومع وطبيعة الجهد الامريكي الذي سيبذل.

والتجربة اكدت في عهد رابين وبيريز وفي عهد نتنياهو ايضا: ان بامكان المعارضة الفلسطينية او الاسرائيلية التأثير على حركة قطار السلام كما فعلوا بعد اوسلو وطابا وعندما اغتالو رابين: بامكانهم تخريب وتعكير علاقات ركابه بعضهم ببعض، وبامكانهم ابطاء حركته، وتخريب عجلاته، وتوقيفه لفترة عن السير للامام على سكته، الا انهم لا يستطيعون نسف عملية اوسلو واخراج قطارها نهائيا عن سكته المرسومة دوليا له. فنسف عملية السلام الجارية شئء، والتأثير على مسيرتها شيء آخر. والتجربة اكدت ايضا ان المتضررون الوحيدين من ذلك هم الفلسطينيون اينما كانوا داخل الوطن او خارجه.

لا شك ان المعارضة الفلسطينية بامكاناته الفنية والبشرية وبقدراتها التخطيطية المتوفرة ما زالت قادرة على القيام باعمال عسكرية هجومية نوعية وعادية اذا ارادت ذلك. واعتقد ان الضربات الامنية التي تعرضت لها لم تفقدها القدرة على القيام باعمال عسكرية مؤثرة. لاسيما اذا كان العمل موجها ضد اهداف مدنية. فهذا النمط من العمل العسكري لا يتطلب قدرات خارقة ولا امكانات هائلة. وأظن ان عدم قيام المعارضة باعمال عسكرية نوعية قبل اتفاق الخليل باستثناء عملية سردة ـ بيت ايل لا يعود لنقص في الامكانات بل نتيجة حسابات سياسية، بعضها يتعلق بانعكاس العمليات على اوضاعها في الضفة والقطاع، وبعضها الآخر يتعلق بوضع عملية السلام في تلك الفترة. فقبل الاتفاق اكتفت المعارضة بوصول الليكود للحكم في اسرائيل. واعتقدت كما اعتقد كثيرون من انصار عملية السلام ـ وانا واحدا منهم ـ ان لا أفق لاي تقدم جدي لعملية السلام في عهد الليكود. اما الان فاني اعتقد بانها كلها او بعض اطرافها على الاقل تفكر في تجديد نشاطها العسكري. فالتجربة التاريخية اكدت انه عندما يكون هناك صراع يجري العمل على حله، يكون هناك متضررون ومستفيدون. وكلما اقترب المستفيدون من الحلول الجزئية او الشاملة، يتوحد المتضررون، ويصعدون من اعمالهم التعطيلية. واتمنى ان لا تعتبر المعارضة الفلسطينية نفسها متضررة من اتفاق “الخليل” ومرفقاته. وان يكون المستوطنون والمتطرفون الاسرائيليون هم المتضررون الوحيدون.

وفي هذا السياق اعتقد المصلحة الوطنية الفلسطينية تفرض في هذا الوقت بالذات على الفلسطينيين المعارضين لعملية السلام، ومن ما زالوا يؤمنون بالكفاح المسلح طريقا وحيدا او رئيسيا للتحرير ان لا يعطلوا تنفيذ هذا الاتفاق. وان لا يقدموا الذرائع للجانب للاسرائيلي لتأخير التنفيذ والتراجع عن التزاماته التي التزم بها وبخاصة الانسحاب من المنطقتين ب و ج. فقيامهم باية عمليات خلال هذه الفترة، وعلى امتداد هذا العام والعام القادم على الاقل يلحق افدح الاضرار بالقضية الوطنية، وبمصالح الشعب الفلسطيني. ناهيك عن الاضرار الكبيرة التي ستلحق بالقوى المنفذه ذاتها، وبالعلاقات الوطنية الفلسطينية. واذا كانوا غير قادرين بالكفاح المسلح على تحرير شبر من الارض، فعليهم ان لا يمنعوا الآخرين من تحرير مساحات واسعة عبر المفاوضات. لاسيما وان لا بديل عن المفاوضات.

س5/ هل يوجد امكانية لمزيج من العمل السياسي/ العسكري يمكن استخدامه في الوقت الراهن لتحقيق اهداف فلسطينية؟

المنظمة ذهبت الى مدريد واوسلو بهدف الوصول الى حلول مقبولة للصراع الفلسطيني الاسرائيلي عبر المفاوضات. وقبل توجهها الى هناك كانت تدرك ان هذا الدرب الجديد يختلف اختلافا نوعيا وجذريا عن درب الكفاح المسلح الذي مشت فيه ربع قرن من الزمن. وكانت تدرك ايضا ان شروط المشاركة فيه تتعارض وتتناقض مع استمرارها في تبني الكفاح المسلح كوسيلة لتحقيق الاهداف الوطنية الفلسطينية. ووافقت في حينه على شروط المشاركة وقدمت تعهدات خطية كثيرة بهذا الخصوص. بدء من الرسائل المتبادلة بين عرفات والمرحوم رابين، مرورا بكل الاتفاقات التي تم التوصل لها وكلها تتضمن التزامات واضحة بذلك، وانتهاء بالغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تشير لهذا الموضوع. ومن البديهي القول ان المصلحة الوطنية ومصداقية م ت ف تتطلب الوفاء بهذه الالتزامات. وبينت مسيرة المفاوضات ان ما تصبوا م ت ف تحقيقة مرهون ليس فقط بامتناع قواها المشاركة في السلطة عن ممارسته، بل وايضا بمدى قدرتها على تعطيل ومنع المعارضة من ممارسته من داخل مناطق سيطرتها ومن خارجها ايضا. ولهذا يمكن القول ان لا مجال اطلاقا امام السلطة للمزج بين هذين الشكلين من اشكال النضال. ولا مجال ايضا للمزج بين نضال سياسي دبلوماسي تخوضه المنظمة والسلطة الفلسطينية ونضال عسكري تخوضه المعارضة. وذلك ليس فقط بسبب التزاماتها مع الطرف الآخر ومع رعاة عملية السلام ومساندوها، بل لان المصلحة الوطنية تتطلب ذلك. والتجربة العملية اكبر برهان. فالعمليات التي نفذتها المعارضة الفلسطينية منذ اتفاق اوسلو وحتى الان الحقت اضرارا واسعة بالمصالح الفلسطينية، وبالموقف التفاوضي للمنظمة، وبالعلاقات الوطنية الداخلية. فقد اخرت تنفيذ العديد من بنود الاتفاقات، اي اخرت انتزاع الفلسطينيين لبعض حقوقهم الكثيرة المغتصبة شهور طويلة، كان من ضمنها تحرير اجزاء من الارض، وقطاعات من الشعب وعقدت حياتهم. علما بان الجميع يقول بانه يناضل من تحرير الارض، ومن اجل استقلال الشعب وسعادته. واظن انني لا اتجنى على احد اذا قلت ان عمليات المعارضة لعبت دورا مباشرا في ابطاء التحولات، البطيئة اصلا، في الفكر السياسي الاسرائيلي باتجاه الاخذ بخيار السلام، والتخلي عن استعمار واستعباد شعب آخر، والتخلي عن احتلال اراضي الغير بالقوة. واضعفت تيار السلام في اسرائيل. وانعشت القوى اليمينية الاسرائيلية وعززت مواقعها في المجتمع الاسرائيلي، واحيت افكارها المتطرفة. ومكنتها من استلام السلطة من جديد. وشحنت المجتمع الاسرائيلي بشحنات جديدة من الخوف من الطرف الاخر، والخوف من السلام معه.

واخيرا لا بد من التأكيد على ان لكل مرحلة فكرها وادواتها واشكال نضال خاصة بها ملائمة لطبيعتها. وأظن ان مرحلة الكفاح المسلح الفلسطيني قد انتهت حتى لو لم يسلم منظروها القدامى والجدد بذلك. وان مرحلة الفصائل والمنظمات والحركات الفلسطينية العسكرية قد انتهت ايضا حتى لو لم تنهض مكانها احزاب سياسية جديدة. وان العمل كشكل رئيسي من اشكال النضال الفلسطيني من اجل استرداد الحقوق وللدفاع عن الشعب قد انتهى، وحلت المفاوضات مكانه، وتولت السلطة الفلسطينية ممثلة باجهزتها العسكرية والامنية مهمة الدفاع عن الشعب وعن الاراضي التي يتم تحريرها. ومن صدام ايلول الماضي استخلصت القيادة الاسرائيلية ان مواجهة الشعب الفلسطيني ومواجهة الاجهزة العسكرية الفلسطينية صار يتطلب اعلان مستوى معين من الحرب تستخدم فيه الدبابات وربما الطائرات. اما السلطة الفلسطينية فقد لمست القيمة الكبيرة لتولي اجهزتها الامنية المتعددة زمام الدفاع عن الشعب وعن الارض المحررة. وحصيلة هذه الاستخلاصات قادت الطرفين الى الاتفاق. فهل ستتكرر التجربة؟