هل حان وقت التوصل الى اتفاق على المسارين السوري واللبناني؟

بقلم ممدوح نوفل في 26/12/1995

منذ اعلان وزير الخارجية الامريكية عن استئناف المفاوضات الاسرائيلية السورية يوم 27/12/1995 ارتفعت وتيرة التفاؤل في الاوساط السياسية والدبلوماسية والاعلامية العربية والدولية وكثر الحديث عن قرب التوصل الى اتفاق سوري اسرائيلي وبالتالي لبناني اسرائيلي. واظن ان مثل هذا الحديث وهذه الاجواء المتفائلة سوف تتزايد في الايام والاسابيع القادمة وخلال انعقاد جولات المفاوضات. فهل نضجت اوضاع الاطراف الثلاث وصارت مهيئة للانتقال من حالة البحث عن السلام المتواصلة منذ اكثر من اربع سنوات، الى صياغة السلام في اتفاقات محددة فيما بينهم ؟ وهل حان الوقت فعلا لتوقيع الاتفاقات المتوقعة في حديقة البيت الابيض، أم ان الامور ما زالت بين بين، وان المسافة التي تفصلنا عن التوقيع ما زالت طويلة نسبيا، ومليئة بالعراقيل والصعوبات ؟
في بداية البحث عن الجواب الصحيح غير المتأثر بالرغبات الذاتية ولا بالهبات الباردة والساخنة التي تصدر عن وسائل الاعلام، لابد من التأكيد على ان انتهاء الحرب الباردة، وانتهاء التجاذب الدولي حول القضايا الاقليمية ومنها الصراع العربي الاسرائيلي، انهت ولاشعار آخر افكار الحرب التي سادت المنطقة خلال ال 45 سنة الماضية. وان الاتفاقات الفلسطينية والاردنية والاسرائيلية التي تم التوصل اليها جعلت طريق المفاوضات ممرا اجباريا ووحيدا امام السوريين واللبنانيين والاسرائيليين لحل خلافاتهما العميقة والمعقدة. وجعلت مسالة توصلهم الى اتفاقات مسألة وقت وليس اكثر. فعدم توصلهم الى اتفاقات محددة حتى الان لا يعني أن احدا منهم يفكر بالعودة الى خيار الحرب، أو العودة الى حالة اللاحرب واللاسلم كالتي كانت سائدة سابقا. وهذا الادراك هو الذي يفسر استمرارالسوريين في المفاوضات مع منذ مؤتمر مدريد(اكتوبر1991) وحتى الان دون أن يفكروا للحظة واحدة في الاعلان عن تعليقها أو الانسحاب منها. اما بشأن الترابط القائم بين المسارين السوري واللبناني فالواضح ان استراتيجية الولايات المتحدة واسرائيل بعد خروج م ت ف من بيروت وبعد حرب الخليج ساعدت السوريين في تعزيز نفوذهم في لبنان، وفي التاثير في قراراته السياسية الكبرى. ومكنتهم بعد انعقاد مؤتمر السلام في مدريد من ربط كل حركة صغيرة او كبيرة على المسار اللبناني بمجريات المفاوضات على المسار السوري. ولذا فالحديث عن تقدم في المفاوضات يعني اوتوماتيكيا التقدم على المسارين السوري واللبناني وعكس ذلك صحيح ايضا.
ومراجعة تجربة سنوات المفاوضات الاربعة على المسار السوري الاسرائيلي تؤكد مسؤولية اسرائيل عن تعثرها. وتبين ان مصالح الطرفين واضاعهما الداخلية والظروف الدولية المحيطة بهما لم تكن ضاغطة على القيادتين ولم تفرض عليهما الاستعجال في التوصل اتفاق – بعكس الحالة التي مر بها الفلسطينيون والاردنيون-. لقد حاول رابين في اكثر من مرحلة من مراحل المفاوضات التي تمت في حياته التوصل الى اتفاق جزئي مريح له ولحزبه. وحاول إغراء السوريين باتفاق مرحلي أقرب الى صيغة فك إشتباك كالتي تمت بعد حرب تشرين. وعرض عليهم إنسحابا جزئيا مقابل سلام جزئي، الا أن مصالح سوريا الوطنية والاقليمية حالت دون ذلك. فما عرضه رابين في حياته كان اقل بكثير مما حققه السادات في كامب ديفيد. وتجربة مرحلة الحلول على المسار الفلسطيني الاسرائيلي التي فرضت على م ت ف منذ بداية عملية السلام لم تغري السوريين في قبول هذا المنهج من المفاوضات ومن الاتفاقات. ويمكن القول ان عودة الطرفين السوري والاسرائيلي الان للمفاوضات يعني انهما عادا ليبحثا في اتفاق شامل حول كل القضايا يفترض ان يحقق السوريون منه ليس اقل مما حققه المصريون في اتفاقات كامب ديفيد. وهذا يعني قبول اسرائيل بالانسحاب الكامل من الجولان، وحتى حدود عام 967 بما في ذلك الاراضي الفلسطينية المحتلة المتاخمة للجولان والتي كانت تحت السيطرة السورية قبل حرب حزيران 67والمعروفة بمنطقة الحمة الفلسطينية، ومنطقة مثلثات كعوش، والشواطىء الشرقية لبحيرة طبريا. والقبول ايضا بتواجد عسكري دولي(امريكي بالاساس) ومعه محطات انذار مبكر في هضبة الجولان. وفكفكة المستوطنات، وضمان الحصول على عدة مليارات من الدولار لدفعها للمستوطنيين كتعويضات ولبناء المنشئات العسكرية الضرورية كبديل عن المنشئات الموجودة في الجولان. وكذلك الاتفاق حول مستقبل الوضع في لبنان بما في ذلك مستقبل قوات لحد وقوات حزب الله وكل القوى العسكرية الاخرى غير النظامية. والاتفاق ايضا حول تقسيم المياه وطرق استغلالها، وحول تطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية، بما في ذلك تبادل العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين الطرفين
وبالتمعن في المصالح السورية وفي الظروف العربية والدولية المحيطة بموقف القيادة القيادة السورية يتبين ان بامكان القيادة السورية الانتظار عاما آخر، فظروف سوريا الداخلية وعلاقاتها الاقليمية والدولية غير ضاغطة باتجاه التوصل الى اتفاق ناقص ومسلوق كما كان الحال مع منظمة التحرير الفلسطينية. ولا تستطع الادارة الامريكية ممارسة إبتزازها وضغوطها على السوريين باتجاه قبول مثل هذا الحل كما مارستها مع قيادة م ت ف في اتفاقي بروتوكولات القاهرة وطابا. فقرارات الشرعية الدولية، واسس مؤتمر مدريد، وبخاصة تنفيذ القرارين 242 و338 تمكنها من الهروب من الضغط الامريكي وتفرض العكس. ناهيك عن ان سوريا دخلت عملية السلام قبل ان تقبض من الامريكان ثمن دعمها ومؤازرتها العملية للسياسية الامريكية في الشرق الاوسط، حين شاركت في حرب الخليج ضمن التحالف الدولي الذي بناه وقاده الامريكان في مواجهة الغزو العراقي للكويت.
ومنذ البداية كان واضحا ان هدف سوريا من المشاركة في عملية السلام كان وما زال يتمثل في استرداد الاراضي التي احتلت عام 1967كاملة، وتمتين اقتصادها الوطني، والحصول على مساعدات مالية امريكية شبيهة بتلك التي تقدم لاسرائيل ومصر منذ كامب ديفيد وحتى الان، وكالتي قدمت مؤخرا للاردن وللسلطة الفلسطينية. واعتقد انها لن تخسر شيئا اذا انتظرت لحين انتهاء الامريكان والاسرائيلييين من انتخاباتهما البرلمانية، لاسيما وانها تريد الحصول على ضمانات امريكية حول مستقبل دورها الاقليمي، وبخاصة استمرار دورها الراهن في لبنان لسنوات لاحقة، واعتقد انها صارت تفكر ايضا في الحصول على دور ما تجاه اعادة ترتيب الوضع في العراقي (جارها المريض)، بعدما اصبح موضع البحث واعادة الترتيب.
وعلى الطرف الاخر اعتقد انني لا اتجنى على احد اذا قلت ان القيادة الاسرائيلية والادارة الامريكية هما المسؤولتان عن فصل الحل مع الفلسطينيين والاردنيين وتقديمهما على الحل مع السوريين، وانه بالرغم من الحماس الشديد الذي يبديه بيريس الان للاتفاق مع السوريين، وبالرغم من اقواله العلنية “بان الفوز في صنع السلام اهم من الفوز في صناديق الانتخابات” فالواضح ان اقواله تندرج في اطار الحملة الانتخابية. ويدرك بيريس قبل سواه ان تجاوزهذا السقف يعني اصطدامه بالعديد من قادة حزب العمل. فليس سهلا عليه وعلى قيادة حزب العمل التضحية بموقع الحزب في السلطة، وليس سهلا عليهم في هذه الفترة بالذات وبالتحديد قبل الانتخابات تحمل نتائج اتفاق آخر كبير بعد الهزة العنيفة التي احدثها اتفاق طابا داخل المجتمع الاسرائيلي. فما سيضطّر الى تقديمه للسوريين يثير العديد من القضايا الشائكة غير المتفق عليها في اسرائيل ، وبمقدورها تفجير الاوضاع داخل حزب العمل، واظن ان اثارتها على ابواب الانتخابات يضعف الموقف الانتخابي لبيريس ولكل حزب العمل. ولا اكتشف البارود اذا قلت ان قيادة حزب العمل لم تبلور حتى الان مفهومها النهائي للاتفاق الشامل مع السوريين. وانها ليست موحدة حوله. وبخاصة حول مصير المستوطنات المقامة هناك، وحول عمق الانسحاب.انها تعرف بالضبط ما تريده من سوريا لكنها لم تحدد بالضبط الثمن الذي ستقدمه للسوريين مقابل الوصول الى اتفاق شامل معها. وبجانب ذلك كله لعل من المفيد التذكير بان قيادة حزب العمل التزمت، في حياة رابين، علنا وامام الكنيست بعرض أي اتفاق على المسار السوري الاسرائيلي للاستفتاء الشعبي، وظن انها ليست في وارد التخلي عن هذا الالتزام بعد وفاته. وتصريحات بيريس كلها تشير الى انه ليس في وارد اجراء مثل هذا الاستفتاء الان ناهيك عن كونه صار غير عمليا بعدما تقلصت الفترة التي تفصلنا عن الانتخابات الى اقل من عشرة شهور.
وبالتدقيق في الاستحقاقات المطلوبة من الاسرائيليين يتبين انها لا تثير الخلافات في صفوف حزب العمل وفي صفوف الراي العام الاسرائيلي فحسب، بل وقد تتسبب ايضا في توتير علاقة حزب العمل مع بعض أقسام اللوبي الصهيوني الامريكي، ومع الاغلبية الجمهورية في مجلسي الكونغرس والشيوخ الامريكيين، وتجعل السياسة الاسرائيلية ومتطلباتها المالية والعسكرية موضع خلاف أمريكي داخلي. فالمعروف ان صراعات الحزب الجمهوري مع الحزب الديمقراطي على ابواب انتخابات الرئاسة الامريكية دفعت بالغالبية الجمهورية في المجلسين الى معارضة نشر قوات امريكية في هضبة الجولان، والواضح انها لن تسهل لادارة الرئيس كلينتون الحصول على الاموال اللازمة لتغطية نجاح سياسي ودبلوماسي من مستوى حجم التوصل الى اتفاق سوري اسرائيلي. واعتقد ان مصلحة الحزب الجمهوري تكمن في تاجيل مثل هذا الاتفاق الى ما بعد الانتخابات، وبعد توليه السلطة في البيت الابيض.
وكخلاصة لهذه الرؤيا يمكن الاستنتاج ان التصريحات الإيجابية الامريكية والسورية والإسرائيلية التي نسمعها الان لا تعكس الصورة الحقيقية للظروف والاوضاع المعقدة المحيطة بالمفاوضات المتجددة على المسار السوري الاسرائيلي، ولا تبين سقف المواقف التي تتحكم بالمفاوضين من الطرفين من الان وحتى نهاية عام 1996. ويمكن القول انه من المبكر جدا الحديث عن قرب التوصل الى اتفاق على هذا المسار. واظن ان العوامل التي دفعت بالطرفين السوري والاسرائيلي للتشدد في المفاوضات وأخرت توصلهما الى أي إتفاق حتى الان لا زالت قائمة، وأضيفت لها عوامل جديدة منها تنفيذ اتفاق طابا، وقرب موعد الانتخابات الامريكية والاسرائيلية، والاتفاق حول البوسنة والهرسك وما يتطلبه من اموال – وكلها تتيح لهما مزيدا من الوقت للمناورة من اجل تحسين شروط الاتفاق والوصل اليه في الوقت المريح لهما. ويمكن القول ايضا ان الاوضاع الداخلية لحزب العمل، بعد اتفاق طابا وبعد مقتل رابين، ومصلحته في الفوز في الانتخابات القادمة(بعد اقل من عام) وفي تامين كل المستلزمات المادية والعسكرية التي يتطلبها تنفيذ الاتفاق مع السوريين تفرض على قيادته تحريك المفاوضات على المسارالسوري وتنشيطها خلال الشهور القليلة القادمة، والعمل على بلورة تصور متكامل للاتفاق مع السوريين، وطرحه على الناخب الاسرائيلي في اطار الحملة الانتخابية. وتاجيل التوصل الى الاتفاق النهائي الى ما بعد انتخابات الكنيست المقررة في نوفمبر 1996، وتاجيل توقيعه الى ما بعد الانتخابات الامريكية. واظن ان الادارة الامريكية تدرك انه ليس بمقدورها في عام الانتخابات ممارسة ضغوطات حقيقية على الاسرائيليين والسوريين للتوصل الى قواسم مشتركة تمثل الحد الادنى من مطالب الطرفين في الوقت الذي لا تملك فيه اغلبية في الكونغرس. واظن ان تحريك المفاوضات السورية الاسرائيلية وتنشيطها في الشهورالقادمة لا يتعارض مع المصالح السورية، ويمّكن حزب العمل والادارة الامريكية من استثمار هذه الحركة بصيغة او اخرى في معاركهما الانتخابية القادمة. وبعدها سيكون لكل حادث حديث .