ماذا بعد الاحتفال بالتوقيع على الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي الجديد؟

بقلم ممدوح نوفل في 19/11/1995

اخيرا وبعد تأخر دام 14 شهرا من المماطلة الاسرائيلية، وبعد خضوع الجانب الفلسطيني لابتزازات بيريز ورابين، توصل الفلسطينيون والاسرائيليون الى اتفاق حول تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو. وسيتوجه الطرفان بعد ايام الى واشنطن للاحتفال بالتوقيع على الاتفاق الجديد.ورغم أن عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي فقدت مصداقيتها، وان الاتفاق الجديد ليس أول اتفاق بين الفلسطينيين والاسرائيليين، الا ان العالم أجمع سيجد نفسه امام المشاهد التالية:
ستبدأ شاشات التلفزيون وكل الصحف الكبرى بنقل وقائع الاحتفال، وسيسمع الناس خطابات رنانة حول التقدم في صنع السلام في الشرق الاوسط وحول عزم الاطراف على الالتزام بتنفيذ الاتفاق الجديد، والمضي قدما في صنع السلام في المنطقة، ومنع اعداء السلام من تحقيق اهدافهم. وستنال حركة حماس وحركة الجهاد الاسلامي وايران نصيبها الكامل في الخطابات وقد يغمز رابين من مواقف القيادة السورية اتجاه “الارهابيين”واتجاه السلام. ولن يتطرق الخطباء الى الارهاب الاسرائيلي الذي مورس ضد الفلسطينيين في “عهدالسلام”، كما لن يتطرق احد الى دور عمليات القهر والاهانة والابتزاز واملاء الشروط التي تمت مع الفلسطينيين. وفي الاحتفال سيشيد الجميع بالدور التاريخي والعظيم للرئيس كلينتون وادارته رغم ان الجميع يعرف أن دورها كان محدود جدا في الوصول الى الاتفاق الجديد، وان رعايتها للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية تراجعت لدرجة انها رفضت على امتداد عام كامل الادلاء بشاهدتها حول تفسير نصوص اتفاق اوسلو الذي شهدت على توقيعه.
اما المشهد الثاني فسوف يكون انسحاب القوات الاسرائيلية من المدن الفلسطينية واحدة بعد اخرى ودخول الشرطة الفلسطينية اليها، وستسلط الاضواء على اجراءات الاستلام والتسليم التي سيتم تنظيمها بين الطرفين. وهذه الخطوات سوف يرافقها سيل من البيانات والتصريحات الاسرائيلية والفلسطينية العرمرمية. بعض الفلسطينيين سيشيد بالاتفاق وسيعتبره انجاز كبير على طريق تحقيق الاهداف الوطنية الفلسطينية، والبعض الاخر سيعتبره كارثة وطنية واستسلام للاسرائيليين، وسيطالب بالاطاحة باتفاق اوسلو وبالاتفاق الجديد وبمن وقعهما.
ورغم كل الملاحضات السلبية التي يسمعها اهالي الضفة الغربية عن دورالسلطة الفلسطينية، فسيشاهد المتفرجون صور الحشود الشعبية الفلسطينية في شوارع جنين ونابلس وطولكرم وقلقيلية وبيت لحم والخليل وهي ترحب بالشرطة الفلسطينية. فالملاحظات على اداء السلطة شيء والخلاص من الاحتلال وتوفر الامن الاجتماعي شيء آخر عند الناس العاديين.
واعتقد ان المواطن العادي لن يدقق كثيرا في نصوص الاتفاق الجديد كما تفعل القوى السياسية. بل سيتوقف مطولا أمام النتائج العملية التي ستتركها الخطوة على حياته اليومية. ولن يتقبل في المرحلة الاولى أي حديث يمس بدخول الشرطة الفلسطينية كبديل لقوات الاحتلال، بل سيراقب نتائج هذا الدخول على امنه الاجتماعي، وعلى لقمة عيشه. ولن يقبل السير في مظاهرات ترفع شعارات من نوع “لا للاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي الجديد” و”لا لاتفاقات الذل والخيانة” و”ونعم لاسقاط اتفاق اوسلو” فهذه الشعارات تعني بالنسبة له بقاء الاحتلال وبقاء الفلتان الامني اللذين عانى الكثير بسببهما. ويمكن القول ان التحضيرات الضرورية لدخول الشرطة بزيها الكامل وبمعداتها قد استكملت. وذات الشيء ينطبق على التحضير للاحتفالات. وتجارب التاريخ تؤكد انه عندما يكون هناك نزاع يجري العمل على حله يكون هناك مستفيدون ومتضررون، وكلما اقترب المتنازعون من الحلول اسرع المتضررون نحو التوحد ورص الصفوف والتلاقي لوضع الخطط المشتركة وتقسيم الادوار والواجبات فيما بينهم لتعطيل الحلول الضارة بمصالحهم. ولعل ما قام به المتطرفون البيض في جنوب افريقيا بعد الاتفاق على انهاء الميز العنصري، وما قام به الجيش الفرنسي السري على أرض الجزائر بعد اتفاقية ايفيان الاولى والثانية، والمجزة البشعة التي ارتكبها المستوطن المجرم غولدشتاين في الحرم الابراهيمي الشريف بعد التوقيع على اتفاق القاهرة(شباط 1994) خير شواهد على ذلك.
لاشك ان هذه المشاهد، ومعها المتغيرات العملية التي ستقع في حياة الناس وعلى الارض الفلسطينية سوف يكون لها تفاعلاتها وآثارها اللاحقة على عملية السلام، وعلى العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وعلى الاوضاع الداخلية للطرفين الفلسطيني والاسرائيلي. وليس عسيرا رصد ابرزها من الان:
اولا/ من البديهي القول أن التوقيع على الاتفاق الجديد لا يعني ان السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين قد تحقق، او ان المفاوضات اللاحقة حول تنفيذ الشق الثاني من هذا الاتفاق وحول القضايا الاخرى التي بقيت عالقة، او قضايا المرحلة النهائية باتت مضمونة التقدم والنجاح. صحيح ان هذا الاتفاق محطة هامة في مسيرة العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، الا ان الصحيح ايضا ان السلام الشامل والعادل والدائم لازال بعيد المنال، وطريقه محفوفة بالاخطار منها على سبيل المثال صعود الليكود الى السلطة في الانتخابات الاسرائيلية القادمة. وبغض النظر عن رأي من تفاوض ومن صاغ الاتفاق الجديد فالواضح انه يعكس نوايا اسرائيلية تتعاكس مع التوجهات المطلوبة لصنع السلام الحقيقي بين الشعبين. والقارىء لنصوصة يخرج باستنتاج انه معقد ومثقل بتفاصيل كثيرة، وأن ما ورد بشأن الخليل يمثل قنبلة مؤقتة قابلة للانفجار في اية لحظة، وان عقبات ليست بسيطة سوف تحول دون تنفيذ الشق الثاني منه.
ثانيا/ لا يستطيع اشد المعارضين لعملية السلام انكار ان الاتفاق الجديد سوف يساعد عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي في استعادة بعضا من الحيوية التي افتقدتها على امتداد العام الماضي، وانه يزودها بقوة دفع ذاتية اضافية تمكنها من التواصل من والان وحتى ظهور نتائج الانتخابات الاسرائيلية في خريف 1996. وانه سوف ينعش آمال القوى الدولية في قدرة قطار السلام الذي انطلق من مدريد في اكتوبر1991على مواصلة السيرعلى الطريق الذي رسم له.وأظن ان الاتفاق الجديد سوف ينعش بعض الترجمات العملية للاتفاق الاردني ـ الاسرائيلي. لكنه لن غير كثيرا في وضعية المفاوضات على المسارين السوري واللبناني ـ الاسرائيلي، بل سيعزز مواقف السوريين والاسرائيليين الدافعة باتجاه تأجيل اتفاقهم الى ما بعد الانتخابات الامريكية القادمة في خريف العام القادم. لاسيما وان الناخب الاسرائيلي لا يستطيع بلع “تنازلات كبيرة” مرتين خلال عام واحد، وان الاقرار بالانسحاب من الجولان وفكفكة المستوطنات القائمة هناك يعرض حزب العمل الى انقسام خطير ويفقده الاغلبية البسيطة التي يتمتع بها الان في الكنيست، ويتطلب وجود ادارة امريكية قوية وثابتة.
ثالثا/ بعد الانتهاء من الاحتفالات مباشرة سترتفع درجات حرارة الصراع داخل اسرائيل وستشهد ساحة العمل السياسي تحركات ونشاطات حزبية وشعبية قوية، بدء من مطالبة الليكود والاحزاب اليمينية الاخرى الكنيست بحجب الثقة عن الحكومة، وباجراء استفتاء شعبي حول الاتفاق الجديد، مرورا بتنظيم المظاهرات والاضرابات والاعتصامات داخل اسرائيل، وانتهاء بنزول المستوطنيين الى شوارع الضفة الغربية. ومن غيرالمستبعد ان يعمد المتطرفون الى افتعال صدامات مباشرة مع الشرطة الفلسطينية، ومع المواطنيين الفلسطينيين، بما في ذلك ارتكاب جرائم قتل. على امل خلق اشكالات جدية امام تنفيذ الاتفاق الجديد.
واذا كان من غير المتوقع ان تسقط حكومة رابين بسبب هذا الاتفاق، ومن غير المتوقع ان يتمكن اليمين من تعطيل تنفيذه، الا ان من الضروري ان يتذكر الفلسطينيون ما حصل بعد التوقيع على اتفاق اوسلو في 13ايلول 1993. في حينها ازداد الصراع داخل اسرائيل، كما هو في هذه الايام. وقام المستوطنون في الشهور الاولى من عام 1994بنشاطات وتحركات استفزازية كالتي تجري الان، ونزلوا الى طرقات الضفة الغربية باسلحتهم واطلقوا النار على المواطنيين الفلسطينيين العزل وقتلوا عددا منهم. واختتمت باقدام النقيب الاحتياط في الجيش الاسرائيلي غولدشتاين في 10 رمضان 1994 (شباط1994) على ارتكاب مجزرته البشعة في الحرم الابراهيمي الشريف. واذا كان تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو هو الاخطر في نظر اليمين الاسرائيلي فتكرار ذات المشهد بصيغة أو أخرى يبقى واردا ويفرض رفع درجة اليقظة والحذر في الاسابيع القليلة القادمة.
ثالثا/ اعتقد ان الاتفاق الجديد سينقل الوضع الفلسطيني برمته الى محطة جديد. وسوف يحتدم الصراع الداخلي حوله، وسيضع كل الاطراف أمام استحقاقات جديدة. وسيعرض السلطة الفلسطينية الى اختبار حقيقي، وسيمتحن قدراتها على بناء وتشغيل مؤسسات المجتمع المدني. وسوف يظهر الحاجة اكثر فاكثر الى الديمقرطية في الحياة السياسية الفلسطينية.
وبالرغم من كل النواقص والمخاطرالتي يحملها في طياته فسيمكن السلطة الفلسطينية من تعزيز نفوذها وسلطتها في صفوف ابناء الضفة الغربية. وسيدفع في المرحلة الاولى بقطاعات واسعة من السكان لاسباب متنوعة نحو الانحياز للسلطة وللحزب الحاكم “حركة فتح”. وقد يتسبب في زيادة التشرذم الحاصل في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، وأظنه سيزيد الانقسامات في صفوف الفصائل والمنظمات الفلسطينية وبخاصة المعارضة لعملية السلام. وسيخلق تناقضات بين مواقف جسمها التنظيمي داخل الضفة الغربية والذي سيحاول التعامل مع الواقع، والتعامل مع الوضع الجديد الناشئ، وبين قياداتها الموجودة في الخارج التي ستستمر في رفض الاعتراف بالحقائق الجديدة، ورفض تكييف مواقفها وممارساتها مع متطلبات الوضع الجديد.
ومن الواضح ان السلطة الفلسطينية سوف تركز عملها في الفترة الاولى من تنفيذ الاتفاق على مسألتين الاولى منع اية مظاهر لاي شكل من اشكال ازدواجية السلطة في الضفة الغربية. والثانية ضبط الامن فيها بشقيه الداخلي والخارجي. أي توفير الامن الاجتماعي في مناطق ومواقع تواجدها، ومنع الاطراف المعارضة لعملية السلام من القيام باي نشاط عسكري ضد اهداف اسرائيلية داخل اسرائيل او داخل الضفة الغربية، وسوف تتعامل مع المعارضة وفقا لسلوكها العملي ازاء هاتين المسألتين. ولن تضع اية عراقيل جدية امام نشاطها السياسي بما في ذلك النشاط العلني ضد عملية السلام وضد اوسلو وضد الاتفاق الجديد، وبذات الوقت لن تتورع عن اعتقال كل قيادات المعارضة اذا تجاوزت الحدود التي تسمح بها ضرورات تطبيق الاتفاق. وفي هذا السياق اعتقد ان دخول الشرطة الفلسطينية الى مدن الضفة الغربية، وتجربة نتائج العمليات العسكرية على الاوضاع في قطاع غزة، وعلى التوجهات الديمقراطية التي تنادي بها القوى والاتجاهات الفلسطينية الديمقراطية تفرض على المعارضة الفلسطينية وبخاصة حركة حماس التوقف مطولا امام شعار اسقاط اتفاق اوسلو، ودراسة نتائج عملياتها العسكرية على اوضاعها وعلى علاقاتها مع الجمهور الفلسطيني الفلسطيني.لاسيما وانها تعرف ان خيار الحرب كطريق لتحقيق الاهداف الوطنية لم يعد واردا ناهيك عن فشله في السنوات الطويلة السابقة. ولا نتجنى على احد اذا قلنا ان العمليات العسكرية ساهمت في تضخم أجهزة الامن الفلسطينية (سيصل عددها الى 30الف رجل) على حساب مؤسسات المجتمع المدني.
وبجانب ذلك كله يمكن القول ان الاتفاق الجديد لن يستطيع ازالة الشكوك الفلسطينية في النوايا الاسرائيلية. ولن يعيد لعملية السلام مصداقيتها المفقودة في صفوف الفلسطينيين وفي الشارع العربي. وانه وبالرغم من النقلة النوعية التي سيحققها على حياة ابناء الضفة الغربية الا انه سيزيد من قلق اللاجئين والنازحين وأهل القدس على مصيرهم الوطني. وسيبقى الصراع مستمرا، وستتواصل المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية لسنوات طويلة قادمة.