المعارضون للانتخابات يخشون نتائجها السياسية والتنظيمية

بقلم ممدوح نوفل في 24/11/1995

يعطي اتفاق اعلان المبادئ “اوسلو”، الموقع في واشنطن في 13/9/1993والاتفاق المرحلي الخاص بالضفة الغربية “طابا” الموقع في واشنطن في 28/9/1995الحق لابناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في انتخاب مجلس السلطة الفلسطينية، وانتخاب رئيس السلطة التنفيذية، بصورة حرة ومباشرة. ويوفر للعملية الانتخابية رقابة خارجية عربية ودولية. ومنذ اعلان السلطة الفلسطينية عن عزمها اجراء الانتخابات واعلانها عن التوقيت، ونشرها لقانون الانتخابات، استقطب الموضوع اهتماما واسعا في اوساط الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. واصبحت الانتخابات بمثابة القضية المركزية الطاغية على الحياة السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما استقطب ايضا اهتمام اوساط دولية وعربية واسعة. واغلب أظن ان الاهتمام العربي والدولي لا علاقة له بالحرص على دمقرطة المجتمع الفلسطيني، بل يعود للترابط العميق بين الانتخابات الفلسطينية وبين عملية السلام. فمن خلالها سيتقرر الموقف الفلسطيني من كل موضوع المشاركة الفلسطينية فيها، بدء من مؤتمر مدريد مرورا بالاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية التي تم التوصل لها. وانتهاء بالدور الفلسطيني في المفاوضات اللاحقة، لاسيما وان المجلس المنتخب سيتحمل مسؤوليتها
اما الاهتمام الشعبي الفلسطيني الواسع بالانتخابات فالواضح انه لا ينطلق من كونها جزء من اتفاقي اوسلو وطابا، بل لان ابناء الضفة والقطاع يرون فيها ضربا من ضروب ممارسة حق تقرير المصير، وتواقون لممارسة حقوقهم الديمقراطية بعد سنوات طويلة من الاحتلال. ويجدون فيها احد الوسائل الاساسية لتطبيق الديمقراطية في حياتهم، وبداية الطريق نحو تأسيس المجتمع المدني الجديد الذي يطمحون في الوصول له، وتعبيرا عن رغبتهم في المشاركة المباشرة في بناء نظامهم السياسي، وفي ارساءه على اسس صحيحة. اما اهتمام فلسطينيو الخارج بالموضوع فيتضمن بعضا من القلق على المصير الوطني والذاتي. فهم يعرفون ان نتائجها تؤثر على مصيرهم ومستقبلهم، وعلى مصير م ت ف التي يعتبرونها ممثلهم الشرعي والوحيد وهم محرومون من ممارسة هذا الحق الديمقراطي، وممنوعون من المشاركة فيها، ولا يجدون من يجيبهم على تساؤلاتهم المشروعة حولها.
واذا سارت الامور وفقا للاتفاق وللتصريحات الرسمية الاسرائيلية والفلسطينية، ولم تقع اية مفاجآات جديدة، فالانتخابات الفلسطينية سوف تتم قبل نهاية شهر كانون الثاني من العام القادم. فكل التحضيرات الضرورية تكاد تكون قد انجزت، بما في ذلك الانتهاء من عملية تسجيل الناخبين، ووصول المراقبين الدوليين الى غزة والضفة الغربية. واظن ان اغتيال رابين يسرّع في اجرائها في التاريخ المحدد لها او بحدوده ولن يؤجلها، فهي من القضايا التي كان متفق عليها في حياته، واغتياله اضعف تأثير الانتخابات الفلسطينية على الانتخابات الاسرائيلية، ووفر لحزب العمل اوراقا كثيرة وكبيرة تساعده في مواجهة اليمين. وخفف من قيمة ربط اجرائها بمدى خدمتها لقيادة حزب العمل في انتخابات الكنيست.
وبصرف النظر عن الملاحظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها على قانون الانتخابات وعلى التدخل الاسرائيلي في وضع اسسه، وعن الصلاحيات الممنوحة للمجلس ولرئيس السلطة التنفيذية، فاجراؤها ضرورة وطنية ومكسب فلسطيني، سيكون له ما بعده على الوضع الفلسطيني، وبخاصة على الحياة السياسية والحزبية، ومستقبل الكيان الفلسطيني، وعلى المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية اللاحقة. واعتقد ان ممارسة هذا الحق واجب على كل القوى الفلسطينية وكل ابناء الشعب الفلسطيني القادرين على الادلاء باصواتهم. فالانتخابات تخلق مؤسسات تشريعية وتنفيذية فلسطينية تستمد شرعيتها من المصدر الحقيقي للسلطات. وتنهي الطعن والتشكيك في شرعية تمثيل القيادة الفلسطينية الحالية للشعب الفلسطيني. وانتخاب قيادة لجزء من الشعب الفلسطيني بصورة ديمقراطية خير الف مرة كما اتصور من الاستمرار في اعتماد قيادة استمدت شرعيتها عبر النضال وعبر تقادم الزمن على وجودها في مواقهعا القيادية. وأظن ان الاعتماد على التاريخ في تثبيت الشرعية القيادة لم يعد مقبولا ولا كافيا، وبخاصة بعد كل التطورات الكبيرة التي طرأت على القضية الوطنية وعلى بنية المجتمع الفلسطيني، وبنية م.ت.ف. وبنية فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية.
واذا كان التباين والاختلاف حول القضايا الوطني الجوهرية طبيعي وتعبير عن ظاهرة صحية، فالانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية الوحيدة القادرة على تحديد موقف الاغلبية الفلسطينية من كل القضايا السياسية والتنظيمية المختلف حولها، وبخاصة الاتفاقات التي تم التوصل لها حتى الان. ووجود جسم قيادي فلسطيني يستمد شرعيته من جزء من الشعب الفلسطيني (مليونين ونصف) يعطي للقضية الفلسطينية، وللكيان الفلسطيني وسلطاته التشريعية والتنفيذية بعدا دوليا وعربيا جديدين. ويساهم بقوة في تسريع تطور هذا الكيان باتجاه الدولة مستقلة. ويحفز الشعب الفلسطيني على متابعة النضال من اجل تحويل كيانه السياسي الى كيان ذات سيادة. ويفتح الافاق امام الدول العربية والاجنبية الصديقة للمساعدة في دعم واسناد هذا التحول. ويقوي مواقف السلطة الفلسطينية في المحافل العربية والدولية. ويفرض على القيادة الاسرائيلية واحزابها السياسية نمطا جديدا من العلاقة مع المؤسسات الفلسطينية، والتعامل مع السلطة الفلسطينية ومع المفاوضين الفلسطينيين ومع الاتفاقات التي تم توقيعها باحترام اكبر.
وبالتدقيق في مواقف القوى السياسية الفلسطينية من الانتخابات نجدها متباينه. فهناك من هو متحمس لها لاسباب وطنية وحزبية. وتقف غالبية قيادة حركة فتح على رأس هذه القوى. وهم حريصون على ان تجري بصورة حرة وديمقراطية ونزيهة، وواثقون من نتيجتها. وفي اطار هذا التيار هناك من له ملاحظات على قانون الانتخابات وعلى توقيتها، ويطالب باجراء بعض التعديلات على القانون، ويفضل تاجيلها الى ما بعد استكمال الانسحاب الاسرائيلي من كل المدن والقرى الفلسطينية بما في ذلك مدينة الخليل. وهناك تيار آخر يعارضها بشدة وصار واضحا انه سيقاطعها. ويضم هذا التيار كل القوى الصغيرة المنضوية تحت لواء القوى الفلسطينية العشرة المعارضة لعملية السلام. ولا اذيع سرا اذا قلت ان داخل قيادة فتح وداخل السلطة الوطنية يوجد من هو غير متحمس لها ويتقاطع في مواقفه مع مواقف هذه القوى ويتمنى من الله ان لا تتم. وبغض النظر عن الاسباب الوطنية التي تسوقها هذه القوى لتبرير مواقفها المعارضة للانتخابات فالواضح انها تخفي شيئا من عدم الثقة بالذات، وتخشى من نتائجها. لاسيما وانها ستعطي لكل ذي وزن في صفوف الشعب حجمه ووزنه.
وهناك اتجاه ثالث ما زال مترددا في قراره، ومحتارا بين المقاطعة والمشاركة الرسمية، او المشاركة غير الرسمية، أي دعم مرشحين دون تبنيهم بشكل رسمي. ويضم هذا التيار بصورة رئيسية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بزعامة جورج حبش. وبالتمعن في خلفيات مواقف هذا التيار نجده يعيش صراعا داخليا فهو من جهة مقتنع باهمية الانتخابات على الصعيد الوطني والتنظيمي، ويدرك ان عدم المشاركة فيها يعني التصادم مع الموقف الشعبي الفلسطيني والخروج ولو مؤقتا من الحركة السياسسية الفلسطينية الرسمية، ومن دائرة الفعل والتاثير في النشاط السياسي اليومي. ومن جهة اخرى فقيادة هذا التيار تخشى من المشاركة لسببين رئيسسين: الاول انكشاف ضعف نفوذها في الشارع الفلسطيني، والثاني تفكك وحدتها الفكرية والتنظيمية، حيث ستجد نفسها مضطرة الى مراجعة نهجها السياسي ومراجعة نشاطها العملي الذي سلكته في المرحلة الماضية في مواجهة عملية السلام. اما حركة حماس فهي اقرب الى هذا التيار وتتقاطع معه في الكثير من مواقفه. الا ان تيارا قويا داخلها يضغط باتجاه المشاركة المباشرة في الانتخابات وبمرشحيين رسميين. ويرجح ان ينجح هذا التيار في فرض مواقفه، الدافعة باتجاه تشكيل حزب سياسي يأخذ على عاتقه قرار المشاركة في الانتخابات.
واعتقد ان كل القوى الفلسطينية تعرف ان اجراء الانتخابات يعني ترسيم دفن مرحلة التنظيمات والفصائل المسلحة التي بنيت على اسس عسكرية وشبه عسكرية. وانتهاء دور معظم القيادات السياسية الفلسطينية التي انتزعت دورها ومواقعها القيادية في ساحة العمل الوطني بجدارة خلال تلك المرحلة. والدخول العملي في مرحلة تكون فيها القيادات منتخبة من الشعب، وليست مفروضة علية او منتخبة من تنظيماتها في احسن الاحوال. وايضا تحوّل التنظيمات الفلسطينية الى احزاب سياسية، تستمد قوتها من ديمقراطة علاقاتها الداخلية وعلاقتها مع الناس.
وبصرف النظر عن مواقف القوى فرفض المشاركة في الانتخابات يعني في الاوضاع والظروف الفلسطينية الراهنة رفض لتعزيز الديمقراطية في العمل السياسي الفلسطيني، وتمسك ببقاء الاوضاع القيادية على ما هي علية حتى الان. والاستفتاءات الاولية تشير الى ان المشاركة الشعبية فيها ستكون واسعة نسبيا، لاسيما انها اول انتخابات “تشريعية” فلسطينية يشارك فيها الفلسطينيون في الضفة والقطاع بصورة موحدة، وبهدف انتخاب مجلس “تشريعي” فلسطيني واحد، ورئيس فلسطيني للسلطة التنفيذية (رئيس الوزراء). واظن ان الناس العاديين لم ولن يدققوا كثيرا في قانون الانتخابات، ولن يستجيبوا لدعوات المقاطعة التي دعت لها القوى الفلسطينية المعارضة لعملية السلام. فالمهم بالنسبة لهم اجراؤها، تاركين التدقيق في الانظمة والقوانين الانتخابية للاوساط السياسية والقانونية الرسمية، وللقوى الحزبية الفلسطينية ولمؤسسات المجتمع المدني.
لاشك ان نضالا شاقا يجب ان يبذل مع الذات من اجل تطوير قانون الانتخابات واستيعاب كل الملاحظات المنطلقة من الحرص على تعميق الديمقراطية الفلسطينية، وبخاصة ادخال نظام النسبية بصيغة او آخرى ضمن القانون، والحرص في الوقت ذاته على اجرائها في اسرع وقت ممكن. واظن ان الفترة التي تفصلنا عن الموعد المحدد 20/1/1996 كافية لاجراء مثل هذه التعديلات. وفي هذا السياق اعتقد ان مصلحة تكريس نمط من الديمقراطية الحقيقية تستوجب التنافس على هذا موقع رئاسة السلطة التنفيذية(الوزارة) وتفرض وجود اكثر من مرشح جدي وقوي لرئاسة السلطة حتى لو كان فوز ابوعمار لرئاسة السلطة التنفيذية (الوزارة) باغلبية كبيرة مسألة محسومة تماما. فتكريس مثل هذا التقليد الديمقراطي المتقدم يقوي ويعزز ثقة الشعب بالنظام السياسي، ناهيك عن ضروراته الوطنية والتاريخية المستقبلية.
وفي سياق الحديث عن الانتخابات لا بد من الاقرار بانها تطرح مجموعة من الاسئلة الوطنية الكبرى التي تستوجب التوقف امامها الان وبعد الانتخابات. منها على سبيل المثال دور المجلس المنتخب وسلطته التنفيذية اتجاه الشعب الفلسطيني في الشتات، ومنها ايضا مصير م. ت. ف. كممثل شرعي ووحيد لكل الشعب داخل وخارج الوطن. وموقع المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة في اطار مؤسسات المنظمة، وحق اعضاء المؤسسات التشريعية والتنفيذية في المنظمة في الترشيح لعضوية المجلس المنوي انتخابه، وكذلك المسؤولية المباشرة عن ادارة المفاوضات حول قضايا الحل النهائي..الخ. وفي سياق البحث عن الحلول الوطنية لهذه الاسئلة المشروعة يجب التمييز بين مشروعية طرحها وبين دعوات البعض الى تأجيل الانتخابات لحين الاتفاق حول حلها. ولا مبالغة في القول ان تاريخ اجراء الانتخابات الفلسطينية يمكن تثبيته باعتباره تاريخا فاصلا في الاوضاع الفلسطينية الداخلية ويفرض على الجميع التعامل بواقعية وبمسؤولية وطنية عالية، والتوجه نحو الحوار الوطني. فالخطأ في هذه المرحلة قد يقود الى وقوع ما لا يحمد عقباه .