اغتيال رابين محطة فاصلة في مسيرة عملية السلام

بقلم ممدوح نوفل في 07/11/1995

بعد التوقيع على اتفاق اوسلو اقدم المجرم روبنشتاين من مستوطنة كريات اربع، في منتصف شهر رمضان (شباط 1994)، على ارتكاب جريمة بشعة بحق المصلين في الحرم الابراهيمي الشريف في الخليل راح ضحيتها عشرات المصلين الابرياء. وكان هدفه وقف تنفيذ اتفاق اوسلو، وتوطيد ركائز الاستيطان في مدينة الخليل وكل انحاء الضفة الغربية وقطاع غزة.

وفي حينه سمى رابين التطرف والتعصب العنصري بالجنون السياسي لكنه رفض مواجهته، وتعامل معه باعتباره طارئ ومحدود النتائج، ولم يتوقع ان يرتد عليه فدفع حياته ثمن ذلك. فبدلا من التوجه نحو معاقبة المستوطنين وطردهم من مدينة الخليل، عاقب اهل الخليل واستولى على قلب مدينتهم، وحشد المزيد من القوات العسكرية لقمع الفلسطينيين، وحماية المستوطنيين ولثبيتهم فيها. وبدلا من كشف المجرمين المخططين والمحرضين على ارتكاب المجزرة، غطى عليهم وقال “ان القاتل كان يعمل بمفرده ولم يكن له شريك، فحصنا الاسلحة ولم تكن هناك اية خرطوشة اطلقت من أي سلاح اخر”. ومنذ ذلك التاريخ انتهج رابين وقادة حزب العمل سياسة مهادنه للمتطرفين الاسرائيليين بمختلف انتماءاتهم واتجاهاتم الفكرية والسياسية والتنظيميية. وتساهل معهم عندما احتلوا مزيدا من الاراضي الفلسطينية، وقطعوا الشوارع واغلقوا الطرقات في العديد من المدن الاسرائيلية احتجاجا على اتفاق طابا، واتهموه بالخيانة، ونعتوه بالمتخاذل في الدفاع عن ارض اسرائيل وشعبها، ودعوا الى قتله.

ولا اتجنى على احد اذا قلت ان رابين حكم على نفسه بالقتل منذ ذلك الحين. فالبحث الجدي في دوافع وجذور واهداف عملية اغتيال رابين يؤكد وجود ترابط بينها وبين مجزرة الحرم الابراهيمي الشريف. فالفكر العنصري الصهيوني المتطرف الذي قاد الى قتل رابين هو ذاته الذي انتج المجرم الفاشي “بطل” مجزرة الخليل. والعنصريون المتطرفون الذين خططوا لمجزرة الخليل هم انفسهم الذين حرضوا وخططوا لقتل رابين. اما المنفذون فغولدشتاين كان ضابط احتياط برتبة نقيب في الجيش وقاتل رابين ضابط سابق في الموساد. واذا كان هدف العملية الثانية هو وقف تنفيذ اتفاق طابا والحفاظ على الوجود الصهيوني في “يهودا والسامرا”، فهدف الاولى كان وقف تنفيذ اتفاق اوسلو وتقوية دعائم الاستيطان في الخليل وفي كل انحاء الضفة الغربية وقطاع غزة.

والتحقيق العادل في مقتل رابين يبين ايضا ان اللوبي الصهيوني في الكونغرس الامريكي بمواقفه الداعمة لمواقف القوى الاسرائيلية اليمينية المتطرفة والمتعارضة مع متطلبات صنع السلام الحقيقي يتحمل قسطا من المسؤولية في تشجيع عملية القتل. وذات الشئ ينطبق على مواقف زعماء الجالية اليهودية في امريكا، وكل زعماء الاحزاب اليمينية الاسرائيلية، ورئيس دولة اسرائيل عزرا وايزمن. فهم الذين دعموا الارهاب والتطرف، وحشوا راس القاتل ومن يقف خلفه بفكرة القتل، وقدموا لهم التبرير اللازم مسبقا. وحشوا مسدس القاتل بالرصاص ودفعوه للضغط على الزناد بكل برودة اعصاب.

لاشك في ان اغتيال رابين وجه ضربة قوية لاسس الديمقراطية التي قامت عليها دولة اسرائيل وكشف عن الظواهر الفاشية التي تنخر المجتمع الاسرائيلي. لقد وصف بعض المفكرين الاسرائيليين يوم اغتيال رابين 4/11/1995 بانه يوم اسود في تاريخ اسرائيل وهذا الوصف صحيح ودقيق. ويمكن الاضافة عليه بانه يوم اسود في تاريخ الحركة الصهيونية، وسيبقى وصمة عار في جبين الفكر الصهيوني العنصري لسنوات طويلة قادمة، وسيكون له ما بعده من نتائج واثار داخل المجتمع الاسرائيلي. فرابين بماضيه وحاضره رمز من رموز دولة اسرائيل، ان لم يكن الرمز الابرز بعد هرتزل وبن غوريون. ورغم الاختلاف معه يمكن منحه بجدارة لقب البطل القومي للشعب الاسرائيلي. فهو من بناة دولة اسرائيل الاساسيين، وباني مؤسستها العسكرية والامنية، وصانع انتصاراتها على العرب. ويسجل له انه لم يتردد في تدمير مئات القرى الفلسطينيةعام 1948ـ1949، وتشريد مئات الالوف من الفلسطينيين، واحتلال اراضي عربية واسعة من اجل توطيد دعائمها.

وبغض النظر عن الدافع الحقيقي، الفكري او المادي، للقاتل، وعن الجهة التي اعلنت مسؤلياتها عن تنفيذ العملية، فمدلولات الحادث وابعاده السياسية تؤكد ان اغتيال رابين هو افراز من افرازات المجتمع الاسرائيلي الذي تربى على تمييز الذات عن اللآخرين، واباحة اضطهادهم واستعمارهم. ونتاج للتعباة العنصرية الفاشية التي شحن بها على مدى نصف قرن من الصراع مع العرب. وترجمة امينة ودقيقة لتوجهات ايدلوجية ولمواقف سياسية ترعرعت في عهد رابين، وتتبناها الان قوى وازنة في المجتمع الاسرائيلي. تبدا بالليكود وتمر بالمؤسسة العسكرية وتنتهي بغوش امونيم وحركة كاخ، وتنتهي بالتنظيم الوهمي الذي ينتمي له القاتل. وهذه القوى تحتل الان ما يقارب نصف مقاعد الكنيست. واذا كان بعض المفكرين الاسرائيليين ما زالوا يعتزون بالنظام الديمقراطي في اسرائيل، فاغتيال رابين، والتجربة الفرنسيين مع الجزائريين بعد اتفاقات ايفيان تؤكد ان ظواهر العنصرية والفاشية تبرز وتنمو في مراحل تاريخية معينة في أعرق الدول الديمقراطية. وان تشكل الحركات السرية وظواهر التمرد على النظام الديمقراطي تصاب بها اكبر الجيوش واكثرها انضباطية.

واغتيال رابين ممارسة مكشوفة للارهاب الفكري ضد انصار السلام وفكرهم، ومؤشر خطير على المدى الذي بلغه التطرف والتعصب داخل اسرائيل، وللمدى الممكن للمتضررين من السلام ان يندفعوا نحوه، وبخاصة المتعصبون لفكرة ارض الميعاد واستيطانها، والمناهضون للانسحاب من الضفة الغربية، ولكل الاتفاقات التي تم التوصل لها مع الفلسطينيين والاردنيين. فاغتيال رابين اعلان صريح من قبلهم للكفاح بالسلاح ضد التعايش مع العرب والفلسطينيين وضد انصار السلام في اسرائيل وفي المنطقة. وتخطئ كل القوى الدولية والاقليمية الساعية الى صنع السلام في المنطقة اذا اعتقدت ان قتل رابين هو اول وآخر عملية اغتيال ترتكب بحق عملية السلام وبحق اركانها، فالذين خططوا لقتل رابين لن يترددوا عن تكرار جريمتهم ضد آخرين، وبخاصة بعض القادة الفلسطينيين. لاسيما اذا تم التهاون معهم كما تهاون رابين وقادة حزب العمل مع المستوطنيين والقوى المتطرفة سابقا. ويخطئون اكثر اذا بسّطوا واستصغروا النتائج والانعكاسات السلبية لعملية اغتيال رابين. واذا كان من المتعذر الان تقدير كل نتائجها على عملية السلام ومستقبلها، فالثابت:

1) نجح المتطرفون الاسرائيليون اعداء السلام والتعايش مع العرب في توجيه ضربة استراتيجية لعملية السلام قد لا تظهر نتائجها خلال الفترة الشهور القليلة القادمة. فمقتل رابين حسم الشك باليقين فيما يتعلق بامكانية التوصل الى اتفاق على المسارين السسوري اللبناني، وصار مثل هذا الاتفاق مؤجل الى اشعار آخر، اقله من الان وحتى الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية والامريكية. لقد تردد رابين القوي داخل الحزب وفي الشارع الاسرائيلي في التقدم على هذين المسارين بسبب المعارضة القوية التي واجهها داخل حزب العمل وفي الشارع الاسرائيلي. وبسبب الاستحقاقات المطلوب دفعها اسرائيليا عليهما، واعتقد انه لن يكون بمقدور بيريز، الاقل قوة، معالجتهما خلال خلال الفترة الباقية من عام 1995 وكل عام 1996. واذا كانت الجهود الامريكية لم تفلح في عهد رابين في جمع السوريين والاسرائيليين من جديد خلف طاولة المفاوضات فالمرجح ان لا ينجحوا في ذلك بعد قتله، وحتى اذا نجحوا فمن غير المقدر ان يتوصلوا الى نتائج ملموسة في اتفاقات محددة.

2) اعتقد ان الشق الاول من اتفاق طابا الذي تم توقيعه في البيت الابيض يوم 28 ايلول الماضي والمتعلق بالانسحاب من المدن والقرى الفلسطينية سيتم تنفيذه وفقا للجدول الزمني الاسرائيلي. اما بشأن التوصل الى اتفاقات مع الفلسطينيين حول الشق الثاني من ذات الاتفاق أي اجراء الانتخابات، وتنصيب المجلس المنخب، والغاء ببنود الميثاق الوطني الفلسطيني والانسحاب من المنطقة ‏(جـ) فالمرجح ان تقع حولها خلافات تعطل التنفيذ وتعقد العلاقات بين الطرفين. لاسيما وان تنفيذ هذه القضايا سوف يتداخل بطبيعة الحال مع فترة الانتخابات الاسرائيلية. وسواء تم تبكيرها او جرت في موعدها الطبيعي، فخلال فترة الانتخابات سيكون بيريز وكل اركان الاتجاه المعتدل في قيادة حزب العمل بحاجة الى مجاراة المتشددين في قيادة الحزب وفي الشارع، حفاظا على وحدة الحزب ولكسب مزيد من الاصوات في الانتخابات .

3) اما بشأن بامكانية التوصل الى اتفاق بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي حول قضايا الحل النهائي ( القدس، اللاجئين، عودة النازحين، الاستيطان، الحدود، الترتيبات الامنية النهائية، المياه، الخليل) فالواضح انها اصبحت الان اصعب واعقد بما لا يقاس فيما لو بقي رابين على قيد الحياة. فبغياب رابين فقدت اسرائيل الرجل القوي القادر على اتخاذ القرارات الكبيرة الصعبة وتامين الدعم الشعبي والبرلماني لقراراته. وفقد حزب العمل القائد المجمع حوله والمسلم بدوره الريادي. واذا كانت المصيبة التي ألمّت بحزب العمل تفرض على كل اتجاهاته التوحد خلال الشهور القادمة خلف قائد جديد، وحول قضايا وافق عليها رابين، فلن يكون سهلا على بيريز (الخليفة المرجح) الحفاظ على وحدة حزب العمل عندما تحين ساعة تقديم الاستحقاقات الكبرى المذكورة اعلاه، وغير المتفق عليها في حياة رابين. ولعل من المفيد القول ان الفكر الذي قتل رابين بسبب اتفاق طابا المتعلق بالانسحاب الجزئي من الضفة الغربية سيعمل بكل السبل على اغتيال كل من يفكر بالانسحاب من الجولان او بانهاء الوجود الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ناهيك عن عودة النازحين، وعن حقوق اللاجئين الفلسطينيين.

اعتقد ان محاربة التطرف والعنصرية والفاشية في اسرائيل اصبحت مهمة حيوية وملحة للراي العام العالمي ولكل القوى المناهضة لهما. وصار مطلوبا من الجميع وقف كل اشكال المساندة المعنوية والمادية التي يتلقاها المتطرفون في اسرائيل من هذا البلد او ذاك بصورة رسمية او غير رسمية. ومصلحة صنع السلام والاستقرار في المنطقة، تفرض على الادارة الامريكية فرض حظر جدي على كل نشاط يؤدي الى دعم المستوطنيين وبقية المتطرفين في اسرائيل. وتفرض على كل القوى الدولية والاقليمية التي رعت وساندت عملية السلام خلال اربع سنوات التحرك بسرعة باتجاه مساعدة قوى السلام في اسرائيل على مجابهة الافكار العنصرية المتطرفة واعادة الامساك بزمام المبادرة من جديد. وشن اوسسع حملة فكرية وسياسية ضد اعداء السلام العادل، وفرض قيودا جدية علىالاستيطان، والحد من التصرفات العنجهية لكل المتطرفين وتجريدهم من اسلحتهم. وخوض معركة انتخابية ناجحة تحصل فيها على اغلبية كبيرة في الكنيست. وتنفيذ كل الاتفاقات التي وقعها رابين. فبقاء زمام المبادرة بيد العنصرين المتطرفين، قتلة رابين، ومرتكبي مجزرة الحرم الابراهيمي الشريف، اعداء السلام والتعايش بين العرب والاسرائيلين، يدفعهم الى المضي قدما في تنفيذ الحلقات اللاحقة من مشروعهم الفاشي الدموي الرهيب. وينذر بعواقب وخيمة على مجمل عملية السلام وعلى الاتفاقات التي تم التوصل لها وقد تطال المنطقة برمتها ويحول الصراع الى صراع ديني ويشعل حروب مقدسة يعاد فيها حشد القوى واصطفافها على اسس جديدة.

واذا كان رابين اخطأ وهادن العنصريين فهل سيتعلم بيريز وقادة حزب العمل وانصار حركة السلام من هذا الدرس البليغ. وهل سيتم التعامل اسرائيليا وفلسطينيا وعربيا ودوليا مع مقتل رابين باعتباره محطة حاسمة في تحديد مصير عملية السلام ؟