( 2) هل اتفاق طابا كارثة وطنية فلسطينية ؟

بقلم ممدوح نوفل في 11/10/1995

الخلاف في الصفين الفلسطيني والعربي حول اتفاق طابا امر طبيعي، وتعبيرعن ظاهرة صحية تماما، فالاتفاق في حال تنفيذه، يقررعمليا على المدى المتوسط والبعيد، مصير الافكار التوسعية للاحزاب اليمينية الاسرائيلية، ويرسي ارضية يتقرر عليها مستقبل جيل كامل من الفلسطينيين. ويرسم معالم العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية لعشر سنوات قادمة على اقل تقدير. ويؤثر بصورة واسعة على العلاقات الفلسطينية العربية، والعربية الاسرائيلية. وذات الشيء يمكن انطباقه على الجانب الاسرائيلي. صحيح أن هذا الاتفاق ولد بعد مخاض مؤلم وعسير، وجاء متأخرا 14 شهرا عن موعده المقرر في اتفاق اوسلو، وان الليكود وبقية الاحزاب اليمينية الاسرائيلية يهددوه بالقتل والاغتيال. وان في الساحتين الفلسطينية والعربية قوى كثيرة تتمنى له الوفاه اليوم قبل الغد، ولكن يفترض ان لا يكون هناك خلاف في صفوف المفكرين الفلسطينيين والعرب ان موازين القوى والاوضاع الاقليمية والدولية السائدة قادرة على حمايته من الان ولفترة طويلة لاحقة. وتفرض على جميع الاطراف الفلسطينية والعربية عدم الوقوع في الأوهام، وعدم المبالغة في القدرات الذاتية، وخاصة تلك الهادفة الى اسقاطة.
وقبل الدخول في بحث انعكاساته المباشرة على وضع الشعب الفلسطيني لابد من القول ان رصد كل النتائج والاثار التي سيتركها هذا الاتفاق على الوضعين الفلسطيني والاسرائيلي عملية ليست هينة. فهو لم يبلغ من العمر سوى أيام، وتقييم الكائنات الحية يبقى ناقصاً ومجزوءاً اذا لم يتابعها طيلة مراحل حياتها. ولا أعتقد أن هناك مصلحة لاي من الاطراف الفلسطينية في تجميل هذا الاتفاق، وفي اخفاء عيوبه ونواقصه وأخطاره على الارض الفلسطينية، وعلى حياة الناس في الضفة والقطاع. فأشد المتحمسين له بمن في ذلك المفاوضين الفلسطينيين يعرفون انه خطوة على طريق طويلة ومعقدة جدا، ولا يستطيعون انكار أنه دون الطموحات الفلسطينية، وأنه جزء ومرحل الحقوق الفلسطينية التي نص عليها اتفاق اوسلو، واحال بعضها الى المفاوضات اللاحقة. وبخاصة ما يتعلق بالانسحاب من المناطق المأهولة بالسكان، وبالسيطرة على الارض والمياة. وبالممر الآمن بين الضفة والقطاع، وأن النوايا الاسرائيلية السيئة التي اظهرتها التجربة،وأكدها الاتفاق وما تلاه من تلاعب ومماطلات في تنفيذه، قد تجعل من مدن الضفة الغربية جزرا معزولة عن بعضها البعض، وقد تعقد العلاقة اليومية التجارية والاجتماعية بينها وبين التجمعات السكانية في الارياف. وقد تقود الى الفصل اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا بين الضفة وقطاع غزة. وليس عسيرا على كل من يريد البحث عن سلبيات اتفاق طابا ان يضيف الكثير على ما ذكر اعلاه. ولكن اعتقد ان وصفه بالكارثة على الفلسطينيين فيه الكثير من التسرع والانفعال، ومن تطويع الحقائق، وفيه خروج عن الموضوعية في التقييم. لقد رفضت الاحزاب اليمينية الاسرائيلية الاتفاق واقسمت على مقاومة تنفيذه واعتبرت يوم توقيعه يوم أسود في تاريخ اسرائيل وتاريخ كل الشعب اليهودي. ووصفه نتنياهو زعيم الليكود وباقي قادة احزاب اليمين، بانه كارثة على اسرائيل وكل يهود العالم، فهل هذا الموقف من الاتفاق لا يعني شيئا للمفكرين الفلسطينيين؟
وبغض النظر عن الجواب، أعتقد أن ألد أعداء الاتفاق لا يستطيعون تلبيسه تهمة اغلاق الطريق أمام الشعب الفلسطيني لمتابعة الصراع من أجل تحقيق حقوقه الكثيرة المغتصبة. لقد وافق الفلسطينيون منذ البداية على مرحلة اهدافهم المرحلية، وقبلوا تاجيل بحث القضايا الرئيسية الى مفاوضات الحل النهائي التي يفترض ان تبدأ في ايار القادم، وفي حينه لم يكن هناك خلاف على هذا التوجه. والاتفاق الجديد اضاف قضايا جديدة للقضايا المؤجلة، فما لم يستطع المفاوض الفلسطيني انتزاعه أجله مكرها، وأحاله للمفاوضات اللاحقة. ويجب الاعتراف ان هذا التأجيل فيه خضوع للابتزاز الاسرائيلي، وفيه هضم للحقوق. وبالمقابل يجب انصاف الحقيقة والاعتراف ايضا ان تأجيل بحث هذه المسائل لا يعني ضياعها. واذا كان للجانب الاسرائيلي تفسيرا خاصا لها كلها فللفلسطينيين تفسيرهم ايضا. ولصنع السلام الحقيقي القابل للحياة استحقاقاته، وبدونها دفعها مقدما او متاخرة يتحول الى نوع من الهدنة او التسوية المؤقتة. والقيادة الاسرائيلية، وراعيي المفاوضات، وكل القوى الدولية الطامحة الى صنع استقرار دائم في المنطقة، يعرفون ان الوصول الى هذا الهدف يتطلب ليس اعطاء الجانب الفلسطيني حقوقه التي عجز عن أخذها في اتفاق طابا فحسب، بل وايضا انسحاب القوات الاسرائيلية انسحابا كاملا ونهائيا من كل الاراضي الفلسطينية والعربية التي احتلت عام 1967، واعطاء الشعب الفلسطيني كامل حقوقه الوطنية المشروعة وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، وحل مشكلة اللاجئين، والاعتذار له عن الظلم التاريخي الذي لحق به على مدى ما يقارب نصف قرن من الزمن فعدم حل مشكلة اللاجئين مثلا على مدى 45عاما لم يضيع حقوقهم، بل خلق حالة من عدم الاستقرار في كل المنطقة.
واظن ان تقطيع اوصال الضفة الغربية وتحويلها الى (بانتوستانات)، وفصل غزة عن الضفة الغربية، وعدم اطلاق سراح كل المعتقلين، والابقاء على المستوطنيين في قلب مدينة الخليل يبقى على حالة التوتر بين الشعبين قائمة، ويحول الاتفاق الى ترتيبات مؤقته. وهذه الترتيبات تحسن جزئيا من وضع الفلسطينيين فوق ارضهم، اذا احسن الفلسطينيون استثمار ما يعطيه الاتفاق لهم. وتحسن موقع قضيتهم في إطار المساعي الهادفة الى تسوية الصراع العربي الاسرائيلي وخلق الاستقرار في المنطقة، وتقوي اوراقهم التفاوضية في المفاوضات اللاحقة سواء تلك المتعلقة بتنفيذ الاتفاق او المتعلقة بالمرحلة النهائية وذلك للاعتبارات التالية :
1) الاتفاق في حال تنفيذه يحرر (بعد 28 عاما) جزء عزيزا من الاراض الفلسطينية (030%) التي احتلت في عام 1967. صحيح ان هذا الجزء صغير، وتحريره ليس كاملا، ولكن الصحيح ايضا ان تحرير جزء قليل افضل من بقاء الكل تحت الاحتلال، وان نصف التحرير أو ربعه افضل من عدمه، وان تراكم مثل هذه الخطوات الجزئية وغير الكاملة، تخلق وقائع جديد تقرب الفلسطينيين من تحرير كامل اراضي الضفة والقطاع. واظنها كفيلة بمنع جيش الاحتلال من العودة الى شوارع المدن والبلدات التي سوف يرحل عنها. ولعل من المفيد تذكير كل الذين يصرون على رؤية فقط النصف الفارغ من الكأس، ان لا ينسوا ان رفضهم لهذا الاتفاق ودعوتهم الى اسقاطه تتضمن من الناحية العملية بقاء هذا الجزء من الارض الفلسطينية تحت السيطرة المطلقة للاحتلال.
2) بتنفيذ الاتفاق يتحرر ما يزيد عن مليون فلسطيني من الاضهاد والاذلال والارهاب الذي مارسه الاحتلال ضدهم على مدى 28عاما. ومع استكمال التنفيذ سوف تنتقل أوضاع سكان الضفة الغربية الى حالة جديدة، وحياة أفضل، لا يمكن اطلاقا مقارنتها باوضاعهم في ظل الاحتلال. واظن أن تحرير بضع الاف من المناضلين المعتقلين، وعودة بضعة الاف اخرى باسم الشرطة خير من بقائهم في سجون الاحتلال او خارج الوطن. ولا يجوز التقليل من تأثير مثل هذه الخطوات الجزئية على حياة الناس وعلى علاقاتهم الانسانية، وعلى أوضاعهم المعنوية بما في ذلك نضالهم من أجل انتزاع بقية حقوقهم المهضومة.
3) يعطي الاتفاق للشعب الفلسطيني حقه في انتخاب مجلس السلطة الفلسطينية، وانتخاب رئيس السلطة التنفيذية، بصورة مباشرة وبرقابة دولية. وبغض النظر عن الصلاحيات الممنوحة لهذا المجلس، ولرئيس السلطة التنفيذية الذي سيتم انتخابه، فاني عتقد ان ممارسة هذا الحق واجب على كل القوى الفلسطينية وكل ابناء الشعب الفلسطيني القادرين على الادلاء باصواتهم،. فوجود جسم قيادي فلسطيني يستمد شرعيته من جزء من الشعب الفلسطيني (مليونين ونصف) يعطي للقضية الفلسطينية بعدا دوليا جديدا، ويفرض على اسرائيل نمطا جديدا من التعامل مع السلطة الفلسطينية ومع الاتفاقات التي توقعها معها. وانتخاب قيادة للشعب الفلسطيني خير الف مرة من الاستمرار في اعتماد قيادة استمدت شرعيتها عبر النضال وعبر تقادم الزمن على وجودها في مواقهعا القيادية. وأظن ان الاعتماد على التاريخ في تثبيت الشرعية القيادة لم يعد مقبولا ولا كافيا بعد كل التطورات الكبيرة التي طرأت على القضية الوطنية وعلى بنية المجتمع الفلسطيني وبنية الحركة الوطنية الفلسطينية. والانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية الوحيدة القادرة على تحديد موقف الشعب من كل القضايا السياسية والتنظيمية المختلف حولها في الساحة الفلسطينية، بما في ذلك الموقف من المفاوضات ومن الاتفاقات التي تم التوصل لها. ان رفض المشاركة في الانتخابات (اذا تمت) يعني رفض لتعزيزالديمقراطية في الساحة الفلسطينية، واصرار على بقاء التركيبة القيادية الفلسطينية على ما هي علية الان. ان نضالا شاقا مع الذات يجب ان يبذل من اجل فرض اجراء الانتخابات، باسرع وقت ممكن، لاسيما وان هناك من يدعو لها بلسانه لكنه يتمنى من كل قلبه ان لا تتم، لانه يخشى نتائجها لانها سوف تعطي لكل ذي وزن في صفوف الشعب حجمه ووزنه.
4) لا يستطيع أشد المعارضين لاتفاق طابا تجاهل أنه هز الفكر الصهيوني المتطرف، الذي يتعامل مع اراضي الضفة الغربية باعتبارها أرض الميعاد ويسميها يهودا والسامرا، ودفعها باتجاه التحول الى احلام. وجعل مصير المستوطنيين والمستوطنات قضية صراعية بين الاحزاب اليمينية وبين الائتلاف الحاكم،. وتعرف القيادات الاسرائيلية يمينها ويسارها ان تنفيذ اتفاق طابا وتفاعلاته اللاحقة، سوف يفرض آجلا او عاجلاعلى اسرائيل رسم حدودها الدولية مع جيرانها بما في ذلك الكيان الفلسطيني المجاور لها. وأن تنفيذ هذا الاتفاق سوف يفرض أمرا واقعا يقود مع الزمن الى التخلي عن فكرة اسرائيل الكبرى، وانتهاء العقلية التوسعية التي تحكمت في السياسة الاسرائيلية منذ قيامها وحتى الان. ولعل هذا الادراك هو الذي يفسرحالة الهستيريا التي يعيشها الان المستوطنون وكل الاحزاب اليمنية الاسرائيلية.
ومن البديهي القول أن كل هذه التحسينات على وضع الشعب والقضية قابلة للزيادة، كما هي قابل للمراوحة في ذات المكان وحتى للنقصان. والزيادة أو المراوحة في المكان أو النقصان لم تعد مروهنة فقط بالعوامل الدولية والاقليمية الخارجية فقط، وإنما اصبح الأساس فيها هو مدى قدرة الفلسطينيين على النجاح في بناء كيانهم وتعزيز ثقة الشعب به، ومدى قدرتهم على تعزيز مكانته العربية والدولية. فهل سيجتاز الفلسطينيون الامتحان بنجاح؟ الجميع يراقب وينتظر.والجواب سيأتي من مدن الضفة الغربية. وتخطئ السلطة الفلسطينية وكل الاتجاه الفلسطيني الواقعي ان هم اشاعوا بعد العبور الى جنين ونابلس وطولكرم وقلقيلية ورام الله والخليل، او تصرفوا وكأن السلام قد تحقق، واذا تراخوا في ملاحقة الحقوق التي نص عليها اتفاق اوسلو ولم يستطيعوا تثبيتها، او أغمضوا عيونهم عن متابعة تحصيل حقوقهم التي انتزعوها في طابا. فخلق مثل هذه الاجواء سيؤدي الى حالة احباط في صفوف الشعب الفلسطيني، ويقود الى تعطيل وتأخير تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق الجديد، وتبديد بعض الحقوق ، وتاخيرالدخول في مفاوضات جادة حول قضيا الحل النهائي.لاسيما وان تجربة عامين من عمر افاق اوسلو اكدت ان ليس كل ما يوقعه الاسرائيليون مع الفلسطينيين ينفذ بدقة وامانه.واكدت ايضا ان الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية دفعت ثمنا غاليا، نتيجة هيمنة النزعات الارادية، وبسبب سياسية كل شيء او لاشيء.