( 1) هل عدم التفاوض على الاطلاق وعدم وجود أي اتفاق هو الأفضل؟

بقلم ممدوح نوفل في 11/10/1995

حصاد المفاوضات في طابا

كما كان متوقعا، أثار اتفاق طابا الذي تم توقيعه في البيت الابيض يوم 28/9/93، زوبعة قوية من ردود الافعال الفلسطينية والعربية القوية، طالت من جديد مسألة المشاركة الفلسطينية في المفاوضات. وهذه الزوبعة لم تهدأ حتى الان، واظنها ستتواصل في الاسابيع والشهور القادمة. لاسيما وان تنفيذه سيتم على مراحل قد تستغرق فترة عامين، وهناك على الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي قوى وازنه ترفضه بشدة ، ومصممه على بذل اقصى الطاقات لمنعه من التحول الى خطوات عملية على أرض الضفة الغربية.
وبالتدقيق في الحوار الفكري والسياسي الجاري منذ فترة في صفوف المفكرين العرب والفلسطينيين حول المفاوضات العربية الاسرائيلية، وحول اتفاق طابا وكل الاتفاقات التي تم التوصل اليها مع الاسرائيليين، يمكن ملاحظة عدم انتظامه، وخضوعه لتقلبات رياح المفاوضات، وانه يتحرك وفقا للهبات الساخنة والباردة التي تنطلق من غرف المفاوضات. وصار بعد اوسلو، اقرب الى حوار بين طرشان يجري دون انتظام، وينقصه الاطار. وليس عسيرا رؤية الازمة الفكرية والسياسية وحالة التخبط والارتجال التي يعيشها المفكرون في هذه المرحلة. واذا كان النقص في مؤسسات الابحاث والدراسات في الوطن العربي، وتلاحق الاحداث وسرعة التطورات في المنطقة، تحول دون ارساء قواعدة علمية صحيحة للحوار الفكري والسياسي حول المفاوضات العربية الاسرائيلية، وحول المصير العربي ككل، ويساهم في سيادة الافكار الانتقائية والعشوائية، فان أخطر الامراض التي يمكن ان يصاب بها المفكرون الفلسطينيون والعرب في هذه المرحلة المعقدة، هوعمى الالوان، وعدم القدرة على رؤية اللون الرمادي كلون موجود بين الاسود والابيض. وكذلك مرض الركود الفكري وفقدان الموضوعية في تحليل الاحداث، وفي تقييم التطورات المصيرية التي تشهدها المنطقة، واستسهال اطلاق الاحكام القاطعة والمطلقة، والانجرار وراء النزعات الذاتية كبديل عن اجهاد الذهن وعمل الحسابات الدقيقة، واستخراج النتائج المفيدة.
من المفهوم تماما أن يشن قسم من المفكرين الفلسطينين حملة شعواء ضد تركيبة السلطة الفلسطينية، وضد اساليب عملها. وان يسلطوا اقذع النقد وابشعه لطريقتها في ادارة المفاوضات، وتحديدا منذ اغلاق المفاوضات على طريق مدريد ـ واشنطن، وحتى اخر جلسة عقدت في طابا. فمن الصعب حتى على اشد المتحمسين للمفاوضات، واشد المدافعين عن السلطة، الدفاع عن سمات العفوية، وغياب التخطيط، وضعف المعرفة وقلة التحضير، والتسرع في اتخاذ القرارات..الخ..التي سادت عمل السلطة في ادارة المفاوضات .
ولكن من غير المفهوم اطلاقا ان يقود النقد المحق للسلطة الفلسطينية، ولادارتها للمفاوضات، ولاتفاق طابا، ولكل الاتفاقات التي سبقته، الى فقدان رؤية الطريق المتاح أمام الشعب الفلسطيني للحفاظ على وجوده، ودرء الاخطار الكبرى المحدقة بمصيره من كل الاتجاهات في هذه المرحلة. ومن غيرالمفهوم ان يقول المفكرون “ان عدم التفاوض على الاطلاق ـ مع وضع خطين تحت على الاطلاق ـ وعدم وجود أي اتفاق أفضل للفلسطينيين من الاتفاق “.
أعتقد ان من يدعو الفلسطينيين الى عدم التفاوض “على الاطلاق” يعيش في الماضي، ويبني مواقفه على الاوهام، وعلى حسابات قديمة. فقبل أربع سنوات لم يستطيع الفلسطينيون الغياب عن مؤتمر مدريد، وبعد اربع سنوات من التفاوض، وبعد التوصل الى عدد من الاتفاقات لم يعد بمقدورهم الانسحاب منها، وعلى الداعين الى الانسحاب من المفاوضات ان يحددوا الى اين سيتم الانسحاب. ودعوة البعض الى عدم التفاوض، تفرض عليهم طرح البدائل، والبدائل المرئية والمعروفة يمكن حصرها بثلاث خيارات: الاول الدخول في الحرب. والثاني العودة الى حالة اللاسلم واللاحرب. والثالث الاستسلام الكامل وقبول ما يفرض عليهم دون احتجاج.
وبغض النظر عن النوايا، فالدعوة الى عدم التفاوض على الاطلاق في هذه المرحلة، وفي ظل موازين القوى الدولية والاقليمية القائمة، وفي ظل الاوضاع العربية السائدة، هي عمليا وموضوعيا دعوة الى الاخذ بخيار الاستسلام، وترك مصيرالشعب الفلسطيني ومصير قضيته الوطنية في مهب الرياح العاتية التي تجتاح المنطقة. ولا أظن ان عاقلا بامكانه دعوة الفلسطينيين الى اعتماد الحرب في هذه المرحلة كخيار، وكطريق لانتزاع حقوقهم التاريخية المغتصبة. فانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين، وانتهاء التجاذب الدولي حول القضايا الاقليمية ومنها القضية الفلسطينية، كرس الطريق السلمي، وطريق المفاوضات، كخيار وحيد لحل الصراع الفلسطيني والعربي الاسرائيلي. وانهى من الان ولاشعار آخر افكار الحرب التي سادت في المنطقة خلال ال 45 سنة الماضية، والتي بنى عليها العرب والاسرائيليون استراتيجياتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية. واذا كانت المفاوضات على المسارين السوري واللبناني لم تتوصل حتى الان الى اتفاقات محددة، فهذا لا يعني أن سوريا ولبنان أو أي من الاطراف العربية الاخرى يفكر بالعودة الى خيار الحرب، أو العودة الى حالة اللاحرب واللاسلم، كالتي كانت سائدة سابقا. واظن ان هذا الادراك هو الذي يفسر استمرارالسوريين في المفاوضات مع الاسرائيليين اكثر من أربع سنوات، دون أن يفكروا للحظة واحدة في الاعلان عن تعليق مفاوضاتهم أو الانسحاب منها.
ثم ألم يجرب العرب والفلسطينيون خيار الحرب خمس مرات ( 48،56،67،73،82)، وخيار اللاحرب واللاسلم عشرات السنوات ؟ أليس مشروعا ان يطرح المفكرون على انفسهم سؤال، ماذا حصدنا من كل تلك الحروب؟ ألم يكن حصاد الانتظار في حالة اللاحرب واللاسلام ضياع الوقت عند العرب والفلسطينيين، واستثمار كل ساعاته من قبل الاسرائيليين في ابتلاع الاراضي العربية واستيطانها؟ وأن حصاد الحروب ورفض المفاوضات، كان احتلال اسرائيل لمزيد من الاراضي العربية، وحصولها على دعم واسناد دولي غير محدود، وبروزها قوة اقليمية عظمى يصعب قهرها. وقابله طغيان للفقر والتخلف والمرض في حياة الشعوب العربية، وتعطيل الديمقراطية ونمو الدكتاتورية، وسيادة الاحكام العرفية في الحياة السياسية العربية. ودخول العرب في صراعات داخلية ما زلنا نحصد نتائجها حتى الان .
وقبل أن اتهم بالتنكر للتاريخ، ولتضحيات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية من اجل فلسطين، وبادانة الحروب العربية الاسرائيلية السابقة، أود التأكيد ان تقيمي الاولي لنتائج الحروب العربية الاسرائيلية لا يمس من قريب او بعيد التضحيات الكبيرة التي قدمت. وآمل ان بان يتم التعامل معه باعتباره دعوة للمفكرين الفلسطينيين والعرب للقيام بمراجعة شاملة ومعمقة لفترة الحرب الباردة ، ولتأثيرات هذه الحرب على الصراع العربي الاسرائيلي، ولنتائج الحروب العربية الاسرائيلية على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العربية.
واعتقد ان الاستشهاد بالاسلوب السوري في التفاوض واظهاره بانه متشدد ومتصلب، لا يخلو من التأثر بالدعاية الاسرائيلية، وفيه اعفاء للقيادة الاسرائيلية من المسؤولية عن عدم تحقيق تقدم جدي في المفاوضات على المسارين السوري واللبناني على مدى اربع سنوات. فقد كان واضحا منذ التوقيع على اتفاق اوسلو،ومنذ فشل حزب الرئيس كلينتون في انتخابات الكنغرس ومجلس الشيوخ، ان رابين وكل قيادة حزب العمل، قرروا تأجيل الاتفاق على المسارين السوري واللبناني الى ما بعد الانتخابات الاسرائيلية، وحتى الانتهاء من الانتخابات الامريكية في تشرين 1996. واشك ان السوريين يفكرون في الانسحاب من المفاوضات من الان وحتى ذلك التاريخ. وأظن أن الاتفاق على المسار السوري الاسرائيلي وبالتالي اللبناني الاسرائيلي لن يحصلا قبل ربيع 1997، اي بعد تولي الادارة الامريكية الجديدة مسؤولياتها في البيت الابيض. فحزب العمل غير موحد حول الانسحاب من الجولان وحول فكفكة المستوطنات، وبعض اعضائه في الكنيست صوتوا بجانب اتفاق طابا مقابل تعهد من رابين بتأجيل الاتفاق على وضع الحولان. وعلى كل حال سبق لرابين وان اعلن التزامه امام الكنيست، بانه سيعرض أي اتفاق حول الوضع في الجولان على استفتاء شعبي. ولا اظنه ساذجا لاجراء مثل هذا الاستفتاء، وانتخابات الكنيست باتت على الابواب، وفي وقت تشير كل نتائج استطلاع الرأي الاسرائلي الى تدني شعبيته. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف على ان أي اتفاق على المسار السوري الاسرائيلي يحتاج الى ادارة امريكية قوية وقادرة على انتزاع قرارات من الكنغرس بارسال قوات ومعدات امريكية الى هضبة الجولان، وتلبية المتطلبات المالية الكبيرة المطلوبة لتمرير مثل هذا الاتفاق. بعضها ستكون مساعدات دائمة لسوريا على غرار المساعدات المالية السنوية التي تقدم لمصر واسرائيل، وبعضها الاخر ثمن للمستوطنات وللتعويض على المستوطنيين الذين سيغادرون الجولان .
والتتقييم الموضوعي لحصاد المفاوضات، يجب ان ينطلق من مقارنة وضع القضية الفلسطينية قبل اربع سنوات(قبل مؤتمر مدريد) مع وضعها االتي اصبحت عليه الان. ومقارنة وضع الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع قبل اتفاق اوسلو وقبل اتفاق طابا ووضعه الان، وليس من منطلق ما يجب وما نريد ونرغب في ان يكون علية الان وغدا. فالامنيات والرغبات الذاتية شيء، والامكانات المتاحة شيء آخر. واعتقد ان نتيجة مثل هذه المقارنة الموضوعية تؤكد ان الدخول في المفاوضات، كان هو الخيار الاسلم والافضل، وان الاستمرار في التفاوض، رغم ضآلة الحصاد، خير من الخروج منها، ومن الانسحاب من الملعب. وانتزاع بعض الشيء خير من عدم انتزاع أي شيء .
والدفاع عن ضرورة الاستمرار في المفاوضات باعتباره الوسيلة المتاحة امام الفلسطينييين، لا يعني ان ليس بالامكان ابدع مما كان. ولا يعني للحظة واحدة التمترس في الخنادق، والاستبسال في الدفاع عن حصاد المفاوضات الذي جناه الشعب الفلسطيني في مفاوضات طابا، وفي المفاوضات التي اوصلت الى اتفاق بروتوكولات القاهرة. فما رشح عن تلك المفاوضات يشير الى أنه كان بالامكان الحصول على نتائج أفضل، لو كان هناك مؤسسة فلسطينية تدير المفاوضات. ولو ان المفاوضين الفلسطينيين تمترسوا فترة اطول خلف نصوص اتفاق اوسلو الواضحة، وتمسكوا بما نص عليه ذلك الاتفاق بشأن الانسحاب من المناطق المأهولة بالسكان، واعادة الانتشار، ونقل السلطات. واحسنوا استغلال كل الاوراق المتوفرة بما في ذلك رغبة رابين والادارة الامريكية في الوصول الى الاتفاق .
ودعوة البعض للتعلم من المفاوضات الجارية على المسارات الاخرى لا تساعد في تصحيح الدور الفلسطيني في المفاوضات. فالتصحيح والتحسين والتطوير يتم بالنضال من داخل المؤسسة الفلسطينية وخارجها. فالتركيز مثلا على دعوة المجلس المركزي الفلسطيني للانعقاد لمراجعة الاتفاقات، وللتدقيق في ادارة المفاوضات، واعادة المسؤولية عن المفاوضات الى مؤسسات المنظمة، اجدى من الدعوات الاخرى واكثر عملية وواقعية .