هل اتفاق طابا يقرب الفلسطينيين من اهدافهم الوطنية ؟

بقلم ممدوح نوفل في 01/10/1995

من الآن ولفترة طويلة لاحقة سيبقى اتفاق طابا موضع جدل ونقاش في الأوساط السياسية الفلسطينية والعربية. وانطلاقاً من المقولة السياسية القائلة بأن الأمور تقاس بنتائجها وبمدى تأثيرها على تحقيق الهدف الأساسي، فإن رصد كل النتائج والاثار التي سيتركها هذا الاتفاق على الوضعين الفلسطيني والاسرائيلي عملية ليست هينة. فالاتفاق لم يبلغ من العمر سوى أيام، وتقييم الكائنات الحية يبقى ناقصاً ومجزوءاً اذا لم يتابعها طيلة مراحل حياتها. صحيح أن هذا الاتفاق ولد بعد مخاض مؤلم وعسير، وان الليكود وبقية الاحزاب اليمينية يهددونه بالقتل والاغتيال، وان في الساحتين الفلسطينية والعربية قوى كثيرة تتمنى له الوفاه اليوم قبل الغد، لكن الثابت، لكل من يريد ان يرى الحقيقة، أن هذا الاتفاق ولد في ظل مناخ اقليمي ودولي يساعده على البقاء على قيد الحياة. واعتقد أن الأوضاع الاقليمية والدولية القائمة الآن والمرئية لفترة طويلة لاحقة قادرة على حمايته، وان توفر النوايا الصادقة، وتطبيقه بامانة تمكنه من النمو بتسارع شديد، ومن فرض ذاته على الارض، ومن احداث تغييرات نوعية في حياة الفلسطينيين والاسرائيليين. وهو على كل حال الابن الثاني لاتفاق اوسلو (الاول بروتوكوات القاهرة) وكلهم نتاج موازين قوى دولية واقليمية ومحلية فلسطينية واسرائيلية. ولن يعود اتفاق طابا بعد التوقيع عليه في حديقة البيت الابيض يوم 28/9/1995ملكاً خاصاً لمن صاغوه أو من وسيوقعوه، وأظنه لن يكون بعد هذا التاريخ ملكاً لا للاسرائيليين ولا للفلسطينيين، بل سيصبح ملكاً للمجتمع الدولي وللقوى الدولية الكبرى، مثله مثل اتفاق اوسلو، كل الاتفاقات الدولية الكبرى .
وبغض النظر عن الموقف الرافضة أو المؤيد له أو المتحفظة عليه، لعل من مصلحة الجميع عدم الوقوع في الأوهام وعدم المبالغة في القدرات الذاتية، وخاصة تلك الهادفة الى قتله. ومن البديهي القول ايضا ان الوصول الى اتفاق طابا، لايعني ان السلام الشامل العادل بين الفلسطينيين والاسرائيليين قد تحقق، او ان المفاوضات اللاحقة مضمونة النجاح. فالاتفاق خطوة هامة على طريق طويلة ومعقدة جدا. وتخطئ السلطة الفلسطينية وكل الاتجاه الفلسطيني الواقعي ان هم اشاعوا بعد العبور الى جنين ونابلس وطولكرم وقلقيلية ورام الله والخليل، او تصرفوا وكأن السلام قد تحقق، واذا تراخوا في ملاحقة الحقوق التي نص عليها اتفاق اوسلو ولم يستطيعوا تثبيتها، او أغمضوا عيونهم عن متابعة تحصيل حقوقهم التي انتزعوها في طابا. فخلق مثل هذه الاجواء سيؤدي الى حالة احباط في صفوف الشعب الفلسطيني، ويقود الى تعطيل وتأخير تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق الجديد، وتبديد بعض الحقوق ، وتاخيرالدخول في مفاوضات جادة حول قضيا الحل النهائي.لاسيما وان تجربة عامين من عمر افاق اوسلو اكدت ان ليس كل ما يوقعه الاسرائيليون مع الفلسطينيين ينفذ بدقة وامانه.
وبما أن اتفاق طابا هو اتفاق مرحلي وليس معاهدة سلام، وعدد صفحاته وملاحقه تتجاوز ال300 صفحة فأظن ان قراءته بالجملة هوالاسلوب الأنسب للتحري عما سيعطيه للفلسطينيين، والتعرف ما اذا كان يقربهم من الهدف الذي حددوه لأنفسهم عند دخولهم المفاوضات، ام انه ابعدهم عنها؟ وفي هذا السياق يمكن رصد التالي:
أولاً – القراءة الهادئة والموضوعية للاتفاق تؤكد ان الجانب الفلسطيني لم يتمكن تضمين اتفاق طابا كل النصوص والصياغات التي كان يريدها، وذات الشيء ينطبق بصورة اقل على الجانب الاسرائيلي. فالوارد فيه هو القاسم المشترك الذي أمكن التوصل له بين طرفين احدهما قوي والاخر ضعيف. والاتفاق لا يتضمن أي نص يقطع الطريق أمام الشعب الفلسطيني لمتابعة الصراع من أجل تحقيق حقوقه الكثيرة المغتصبة. فما لم يستطع انتزاعه من حقوقه في السيطرة والسيادة على الارض، والمياه، والحرم الابراهيمي الشريف، وفي اخلاء الخليل من المستوطنيين، وفي اطلاق سراح كل المعتقلين الفلسطينيين، أجله مكرها، وأحاله للمفاوضات اللاحقة. لاشك ان هذا التأجيل فيه خضوع للابتزاز الاسرائيلي، وفيه هضم للحقوق، الا ان انصاف الحقيقة يفرض القول ان تأجيل بحث هذه الأمور لا يعني ضياعها كما هو الحال مع القضايا الكبرى التي احيلت في اتفاق اوسلو الى مفاوضات المرحلة النهائية المقدر لها ان تبدأ في الرابع من ايار القادم. وان الاتفاق بنصوصة وتفاعلاته اللاحقة يحسن من وضع الفلسطينيين فوق ارضهم ، ويقوي اوراقهم التفاوضية في المفاوضات اللاحقة. واذا كان للجانب الاسرائيلي تفسيره الخاص للأراضي، والحدود، والقدس، ووضع المستوطنات،والمياه..الخ فللفلسطينيين تفسيرهم. ولصنع السلام الحقيقي القابل للحياة استحقاقاته ايضا، وبدونها دفعها يتحول الى نوع من الهدنة او التسوية المؤقتة.
ثانيا/ اعتقد ان اشد المتحمسين لهذا الاتفاق بمن في ذلك المفاوضين الفلسطينيين لا ينكرون ان الاتفاق دون الطموحات الفلسطينية، وانه يتضمن الكثير من الاخطار والنواقص، وبالمقابل فان موضوعية التقييم تفرض الاقرار بأن الامنيات والرغبات الذاتية شيء وامكانية تحقيقها الان أو غدا شيء آخر. والتجربة العملية اكدت ان الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية دفعت ثمنا غاليا، نتيجة هيمنة النزعات الارادية وغياب الواقعية في الفكر السياسي العربي، وبسبب سياسية كل شيء او لاشيء. موضوعيا الاتفاق سوف يحرر بعد 28 عاما جزء (030%) عزيزا من الاراض الفلسطينية التي احتلت في عام 1967. صحيح ان هذا الجزء صغير، وتحريره ليس كاملا، ولكن الصحيح ايضا ان تحرير جزء قليل افضل من بقاء الكل تحت الاحتلال، وان نصف التحرير أو ربعه افضل من عدمه، وان تراكم مثل هذه الخطوات الجزئية وغير الكاملة، تخلق وقائع جديد تقرب الفلسطينيين من تحرير كامل اراضي الضفة والقطاع. واظنها كفيلة بمنع جيش الاحتلال من العودة الى شوارع المدن والبلدات التي سوف يرحل عنها. ولعل من المفيد تذكير كل الذين يصرون على رؤية النصف الفارغ من الكأس، ان لا ينسوا ان رفضهم لهذا الاتفاق ودعوتهم الى اسقاطه تتضمن من الناحية العملية بقاء هذا الجزء من الارض الفلسطينية تحت السيطرة المطلقة للاحتلال.
ثالثا/ لاشك ان اتفاق طابا سوف يحرر ايضا ما يزيد عن مليون فلسطيني من الاضهاد والاذلال والارهاب الذي مارسه الاحتلال ضدهم على مدى 28عاما. ومع استكمال التنفيذ سوف تنتقل أوضاع سكان الضفة الغربية الى حالة جديدة، وحياة أفضل، لا يمكن اطلاقا مقارنتها باوضاعهم في ظل الاحتلال، بدءا من ابسط الامور كحرية الحركة وانتهاء بالامور الاساسية الاخرى. ويخلق لاول مرة فرصة تاريخية لبناء الكيان الفلسطيني الموحد، واظن أن تحرير بضع الاف من المناضلين المعتقلين، وعودة بضعة الاف اخرى باسم الشرطة خير من بقائهم في سجون الاحتلال او خارج الوطن. ولا يجوز التقليل من تأثير مثل هذه الخطوات الجزئية على حياة الناس وعلى علاقاتهم الانسانية، وعلى أوضاعهم المعنوية بما في ذلك نضالهم من أجل انتزاع بقية حقوقهم المهضومة.
رابعا/ يعطي الاتفاق للشعب الفلسطيني حقه في انتخاب مجلس السلطة الفلسطينية، وانتخاب رئيس السلطة التنفيذية، بصورة مباشرة وبرقابة دولية. اعتقد ان ممارسة هذا الحق واجب على كل القوى الفلسطينية وكل ابناء الشعب الفلسطيني القادرين على الادلاء باصواتهم، بغض النظر عن الصلاحيات الممنوحة لهذا المجلس ولرئيس السلطة التنفيذية. فوجود جسم قيادي فلسطيني يستمد شرعيته من جزء من الشعب الفلسطيني (مليونين ونصف) يعطي للقضية الفلسطينية بعدا دوليا جديدا، ويفرض على اسرائيل نمطا جديدا من التعامل مع السلطة الفلسطينية ومع الاتفاقات التي توقعها معها. وانتخاب قيادة للشعب الفلسطيني خير الف مرة من الاستمرار في اعتماد قيادة استمدت شرعيتها عبر النضال وعبر تقادم الزمن على وجودها في مواقهعا القيادية. وأظن ان الاعتماد على التاريخ في تثبيت الشرعية القيادة لم يعد مقبولا ولا كافيا، بعد كل التطورات الكبيرة التي طرأت على القضية الوطنية وعلى بنية المجتمع الفلسطيني، وبنية م.ت.ف. وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية. والانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية الوحيدة القادرة على تحديد موقف الشعب من كل القضايا السياسية والتنظيمية المختلف حولها في الساحة الفلسطينية، بما في ذلك الموقف من المفاوضات ومن الاتفاقات التي تم التوصل لها. ان رفض المشاركة في الانتخابات (اذا تمت) يعني رفض لتعزيزالديمقراطية في الساحة الفلسطينية، واصرار على بقاءالتركيبة القيادية الفلسطينية على ما هي علية الان. اعتقد ان نضالا شاقا مع الذات يجب ان يبذل من اجل فرض اجراء الانتخابات، لاسيما وان هناك من يدعو لها بلسانه لكنه يتمنى من كل قلبه ان لا تتم، لانه يخشى نتائجها لانها سوف تعطي لكل ذي وزن في صفوف الشعب حجمه ووزنه.
خامسا/ لا يستطيع أشد المعارضين لاتفاق طابا تجاهل أنه هز أركان الفكر الصهيوني المتطرف، الذي يتعامل مع اراضي الضفة الغربية باعتبارها أرض الميعاد ويسميها يهودا والسامرا. وجعل مصير اراضي الضفة الغربية، ومصير المستوطنيين والمستوطنات، قضية صراعية من الطراز الاول بين الاحزاب اليمينية وبين الائتلاف الحاكم، بعدما كان قضية صراعية بين العرب والاسرائيليين فقط. وتعرف القيادات الاسرائيلية يمينها ويسارها ان تنفيذ اتفاق طابا وتفاعلاته اللاحقة، سوف يفرض آجلا او عاجلاعلى اسرائيل رسم حدودها الدولية مع جيرانها بما في ذلك الكيان الفلسطيني المجاور لها. وأن تنفيذ هذا الاتفاق سوف يفرض أمرا واقعا يقود مع الزمن الى التخلي عن فكرة اسرائيل الكبرى، وانتهاء العقلية التوسعية التي تحكمت في السياسة الاسرائيلية منذ قيامها وحتى الان. ولعل هذا الادراك هو الذي يفسر حالة الهستيريا التي يعيشها الان المستوطنون وكل الاحزاب اليمنية الاسرائيلية.
بعد هذا العرض والتقييم الاجمالي لاتفاق طابا يجدر القول أن ما تحقق يمكنه تحسين موقع القضية الفلسطينية في إطار الصراع الجاري، اذا احسن الفلسطينيون استثمار ما يعطيه الاتفاق لهم. ومن البديهي القول أن كل ذلك قابل للزيادة، كما هو قابل للمراوحة في ذات المكان وحتى للنقصان. والزيادة أو المراوحة أو النقصان لم تعد رهن بالعوامل الدولية والاقليمية الخارجية فقط، وإنما الأساس فيها، هو مدى قدرة الفلسطينيين على النجاح في بناء كيانهم وتعزيز ثقة الشعب به، ومدى قدرتهم على تعزيز مكانته العربية والدولية. والنجاح متوفر وممكن شرط وضع المصالح الوطنية العليا فوق كل الاعتبارات الأخرى، والالتزام بالديمقراطية كأساس لمعالجة الخلافات، وإحداث نقلة نوعية وتغيير جذري في أساليب العمل وفي الأدوات.. فهل سيجتاز الفلسطينيون الامتحان بنجاح؟ الجميع يراقب وينتظر..والجواب قادم من مدن الضفة الغربية.
والقيادة الاسرائيلية، وراعيي المفاوضات وكل القوى الدولية الطامحة الى صنع استقرار وسلام عادل وشامل ودائم في المنطقة، يعرفون ان الوصول الى هذا الهدف الانساني النبيل يتطلب ليس فقط اعطاء الجانب الفلسطيني حقوقه التي عجز عن أخذها في اتفاق طابا، بل وايضا انسحاب القوات الاسرائيلية انسحابا كاملا ونهائيا من كل الاراضي الفلسطينية والعربية التي احتلت عام 1967، واعطاء الشعب الفلسطيني كامل حقوقه الوطنية المشروعة وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، وحل مشكلة اللاجئين، والاعتذار له عن الظلم التاريخي الذي لحق به على مدى ما يقارب نصف قرن من الزمن.