التطورات السياسية ومهام المرحلة

بقلم ممدوح نوفل في 16/02/1995

بفوز حزب العمل، وفشل الليكود في الانتخابات الاسرائيلية، يمكن القول أن المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، أصبحت على أعتاب مرحلة جديدة.واذا كان من الضروري والهام عدم المبالغة في قراءة تأثير النتائج الايجابية للانتخابات الاسرائيلية على أوضاع المنطقة عامة، وعلى مسار عملية السلام خاصة، فلعل من الخطأ أيضا عدم رؤية التباينات العقائدية والسياسية بين معسكر الليكود، أو حصر قراءة نتائج وآثار التغيير في اسرائيل من زاويته المحلية الاسرائيلية فقط، وبمعزل عن ربطها بالسياسة الامريكية ازاء قضايا الصراع في المنطقة، وعدم رؤية العلاقة الخاصة القائمة راهنا بين حزب العمل ورابين شخصيا مع الادارة الامريكية ومدى قدرة هذه الادارة راهنا على التأثير في القرارات التوجهات السياسية لرابين وحزبه وكل معسكره.
لا شك أن اصطدام المجتمع الاسرائيلي في ظل قيادة الليكود مع توجهات الوضع الدولي الجديد، ومع مصالح القوى القيمة على اعادة ترتيبه وتنظيمه، ومع الاسس والقواعد الاولية التي أرسيت أوليا له في منطقتنا (عملية السلام) كان له دور فاعل في وقوع هذا التغيير وميل المجتمع الاسرائيلي نحو الواقعية، وظهور بدايات تخلخل في بعض أسس ومرتكزات الفكر الجامد للحركة الصهيونية (تصريحات شامير وأرينز حول موضوع أرض اسرائيل التوراتية). وفي هذا السياق لا يجوز التقليل من دور الانتفاضة وتواصلها، والخط السياسي الواقعي الذي انتهجته م.ت.ف في صنع مثل هذه التحولات في المجتمع الاسرائيلي وفي الوصول الى النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات الاسرائيلية. فسقوط شامير وسقوط بعض القوى اليمينية الاخرى المتطرفة، وتقدم قوى اليسار في الانتخابات يمكن اعتباره بداية تكيف للمجتمع الاسرائيلي مع التحولات الجارية في الوضع العالمي، وبداية وعي لحقائق الصراع في المنطقة، وبداية ادراك لسبل معالجته بما يضمن حقوق ومصالح جميع أطرافه. لقد بذل شامير كل جهد ممكن لمقاومة هذا التكيف، وأقام الحواجز والمعوقات أمام مسار التوجهات الامريكية في اعادة ترتيب أوضاع المنطقة وفقا لرؤيتها وبما يخدم مصالحها، وأعاق عن سابق وعي واصرار كل تقدم ممكن في المفاوضات وعلى مساريها الفلسطيني الاسرائيلي والعربي الاسرائيلي. بالمقابل من الواضح حتى الان أن لرابين وبرنامج حزبه منحى آخر غير الذي سار فيه شامير والليكود.
ولا نغالي اذا قلنا أن التعاطي الفلسطيني والعربي مع هذا المنحى الاسرائيلي الجديد سوف يكون أكثر صعوبة وأشد تعقيدا، لا سيما وأنه سوف يتوجه بالاساس نحو تجريد الجانب الفلسطيني من الانجازات والمكاسب السياسية والمعنوية التي حققها على الصعيد الدولي، وفي مجال التمسك بقرارات الشرعية الدولية. ولأنه سوف يتوجه لمخاطبة فئات محددة من الشعب الفلسطيني. واذا كان من المبكر التنبؤ سلفا بالمواقف النهائية التي سوف يرسو عليها البرنامج التفاوضي للحكومة الاسرائيلية الجديدة، فالواضح منذ الان ان حزب العمل حريص كل الحرص على الظهور بمظهر الذي يتمسك بعملية السلام، والحريص على تقدمها على الطرق المرسومة لها في رسائل الدعوة، وفي كتاب التطمينات الامريكية المقدم لاسرائيل. ولعل تصريحات رابين عن تواصل المفاوضات وتجاوز نظام الجولات المتباعدة، وأحاديثه الغامضة عن الوصول الى اتفاق حول الحكم الذاتي الانتقالي خلال عام، وعن انتخابات فلسطينية، وتصريحاته حول الاستيطان وحول حقوق الانسان الفلسطيني..الخ من التصريحات المعسولة ليست سوى مؤشرات لحركة سياسية هجومية يستعد رابين لشنها على جبهة المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية. ويأتي تأجيل جولة المفاوضات الجديدة الى ما بعد زيارته للولايات المتحدة الامريكية في اطار تحديد موقع انطلاق هذا الهجوم. وهدف رابين المرئي سلفا من هذه المواقف والتصريحات هو:
1) اضعاف الموقف التفاوضي الفلسطيني، وارباك العلاقة الفلسطينية الداخلية.
2) اضعاف الموقف التفاوضي العربي وارباك علاقة م.ت.ف مع الاطراف العربية الاخرى المشاركة في عملية السلام.
3) الاسراع في ازالة كل النتائج السلبية والآثار الضارة التي ألحقتها سياسية الليكود بالموقف السياسي الاسرائيلي وساهمت في عزلتها الدولية، والتي شوهت صورة مفاوضيها ووترت علاقة اسرائيل مع الادارة الامريكية، وعقدتها مع دول العالم وخاصة دول المجموعة الاوروبية وحرمتها من الحصول على المساعدات الاقتصادية الضرورية لانقاذ اقتصادها وخاصة ضمانات القروض.
لا شك أن مثل هذه التطورات المتوقعة، ودخول المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية أبواب مرحلة جديدة تضع الفكر السياسي الفلسطيني أمام اختبار جديد حاسم، وتفرض على م.ت.ف والقوى الوطنية الفلسطينية وكل قوى الشعب الاستعداد لها والتحضير لمواجهتها وضمان الفوز فيها. وفي هذا السياق لا مبالغة في القول ان الشهور التسعة القادمة شهورا حاسمة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، ومصيرية في رسم مستقبل القضية الوطنية. وان عبورها بنجاح يتطلب العمل الجاد، وتوظيف كل طاقات الشعب من أجل النهوض بمهام العمل المطلوب وانجاحها على شتى محاور النضال التالية:
أولا – محور المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– مواصلة التعاطي الايجابي مع عملية السلام بشقيها الثنائي والمتعدد الاطراف وانجاز التحضيرات المطلوبة لجولة روما القادمة والجولة الثالثة للمتعدد الاطراف. والحرص على استمرار الجانب الفلسطيني في الامساك بزمام المبادرة في المفاوضات خاصة بعدما تقدم الوفد الفلسطيني بأوراق العمل المساعدة في ذلك (P.S.G.A + الاجندة) وذلك بالتحضير للدخول في مناقشة قضايا المرحلة الانتقالية من منظورها الفلسطيني، وبوضع راعيي المؤتمر بصورة دائمة امام مسؤولياتهما وجرهما للتدخل لصالح قرارات الشرعية الدولية.
– التمسك بتطبيق اتفاقيات جنيف الرابعة على الوضع في الاراضي المحتلة والضغط لوقف كل اشكال الانتهاكات الاسرائيلية لحقوق الانسان الفلسطيني والمطالبة بالحماية الدولية. ومطالبة الادارة الامريكية الايفاء بتعهداتها الواردة في رسالة التطمينات حول الموضوع.
– مواصلة الضغط لوقف الاستيطان وقفا كاملا وبكل أشكاله وفي كل الاراضي الفلسطينية المحتلة بما في ذلك القدس. والتسلح بما ورد في رسالة التطيمنات الامريكية المقدمة للجانب الفلسطيني حول هذا الموضوع. ومطالبة الادارة الامريكية والدول الاخرى المشاركة في مؤتمر السلام بمواصلة الضغط الاقتصادي والسياسي على الحكومة الاسرائيلية، والزامها بوقف الاستيطان الشامل والتام باعتباره عملا يتناقض وقرارات الشرعية الدولية ويتعارض مع الاسس التي قامت عليها عملية السلام ويعطل التقدم في هذه نحو بحث ترتيبات المرحلة الانتقالية.
– العمل على ابراز مشروع الانتخابات التشريعية الذي تقدم به الوفد الفلسطيني، واعداد الاوراق التكميمية الضرورية له. والتمسك بالانتخابات كمقدمة ضرورية لاقامة سلطة الحكم الانتقالي الفلسطيني المؤقت. والمطالبة بانسحاب الجيش الاسرائيلي وتوفير الحماية والمراقبة الدولية على هذه الانتخابات لضمان سيرها بصورة حرة وديمقراطية ونزيهة.
– ابراز الحرص الفلسطيني على نجاح عملية السلام في كل مراحلها. والتمسك بضرورة وضع الضوابط والاسس الكفيلة بربط الفترة الانتقالية بالحل الدائم والشامل والعادل. باعتبار ذلك ضرورة أساسية لنجاح عملية السلام وانهاء الصراع في المنطقة، وحل القضية الفلسطينية من كا فة جوانبها، وتوفير الامن والسلام لجميع شعوب ودول المنطقة.
– من الواضح أن صراعا قاسيا سوف يدور حول سلطات وصلاحيات الحكم الانتقالي ومرجعيتها وحول نطاق سلطة الحكم الانتقالي في مجال السيادة على الارض والثروات الطبيعية والحدود والقضاء والتشريع. مما يستدعي التحضير الجدي للرد على كل المناورات الاسرائيلية. والتمكن من انتزاع الحق في قيام سلطة انتقالية منتخبة، تمارس كامل سلطاتها التشريعية والقضائية على كل الاراضي الفلسطينية التي احتلت صبيحة الخامس من حزيران 67.
– العمل على تعزيز وتطوير مستوى التنسيق والعمل المشترك بين الاطراف العربية المشاركة في عملية السلام بشقيها الثنائي والمتعدد واعتبار اللقاء السباعي العربي وتكريسه كصيغة ثابتة ودائمة خطوة البداية في هذا السبيل. والحرص على تعزيز العمل المشترك الفلسطيني الاردني في اطار الوفد المشترك وعلى قاعدة ما ورد في نصوص الاتفاق الثنائي المشترك بين الطرفين. ومطالبة الاطراف العربية بدعم المفاوض الفلسطيني في انتزاع حكم ذاتي كامل الصلاحيات خلال المرحلة الانتقالية. ووضع الاسس القادرة على تأمين الترابط في الحل الشامل والنهائي على كل الجبهات العربية.
ثانيا – محور الانتفاضة والوحدة الوطنية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا شك ان شق الصف الفلسطيني وخلق صراعات متنوعة داخله، وتفتيت وحدة شعبنا وضرب م.ت.ف باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا اضافة لوقف الانتفاضة سوف تكون من الاهداف الاساسية للحكومة الاسرائيلية الجديدة وستعمل بشتى السبل (داخل المفاوضات وعلى الارض) لتجريد الموقف الفلسطيني من ورقة الانتفاضة باعتبارها ورقة اساسية من اوراق القوة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال (على الارض وفي المفاوضات).

ان احباط هذا الهدف الاسرائيلي المباشر يتطلب العمل لضمان تواصل الانتفاضة، وضمان تفعيل دورها في مواجهة الاحتلال وفي تقديم الدعم والاسناد الفعال للمفاوض الفلسطيني. وضمان الحفاظ على وحدة الموقف والصف الفلسطيني في مواجهة العدو الرئيسي والمتمثل في الاحتلال.
ان احباط وافشال المخططات والاهداف الاسرائيلية على هذا الصعيد يستدعي:
– العمل على ضمان تواصل الانتفاضة طالما هناك احتلال، والعمل على توفير كل سبل الحماية السياسية والجماهيرية لها، وتخليصها من كل السلبيات التي علقت بجسمها والتي تعيق تطورها وتعطل تصعيد نضالاتها في مواجهة الاحتلال. والعمل على معالجة اوضاع القيادة الوطنية الموحدة وتوسيع صفوفها وتمكينها من النهوض بمهامها القيادية الوطنية بصورتها الشمولية والفعالة. والعمل على استكمال بناء أطرها وهيكلها الجماهيري، واعادة بناء ما تهدم منها في سياق النضال وخاصة القاعدية منها.
– الحرص على تعزيز المكانة السياسية للمنظمة في صفوف شعبنا داخل وخارج الارض المحتلة وفي العلاقات الفلسطينية العربية والدولية. ووضع المصلحة الوطنية العليا، ومصلحة م.ت.ف باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا فوق أية اعتبارات أخرى. ولا بد هنا من التنبه الشديد الى ان قيام سلطة انتقالية فلسطينية لا يعني الغاء او اضعاف دور م.ت.ف التمثيلي ومسؤولياتها عن الشعب الفلسطيني بأسره وعن حقوقه وقضيته. وهذا الامر يشكل مؤشرا خطيرا في السياسة الامريكية والاسرائيلية لتحويل الحل المؤقت الى حل نهائي.
– العمل على تصليب الوحدة الوطنية الفلسطينية، ومعالجة كافة مظاهر الخلل التي برزت في مجال علاقات القوى الوطنية بعضها مع بعض. والسعي من أجل الوصول الى اتفاق شرف، يصون الوحدة في مواجهة الاحتلال، ويحرم كل أشكال الاقتتال الداخلي واللجوء الى العنف في حل الخلافات الداخلية، ويرسي العلاقات الوطنية على أسس ديمقراطية، تعطي لكل الاتجاهات السياسية والفكرية حقوقها وتصونها في اطار المصلحة الوطنية العليا ولا يعرقل مسيرة النضال ضد الاحتلال على مختلف محاور الصراع وشتى ميادين النضال.
– التركيز على بناء المؤسسات الوطنية البديلة لمؤسسات الاحتلال وتكريس المجالس العليا المتخصصة والعمل على ضمان خلق مرتكزات قوية وقواعد ثابتة لسلطة الحكم الانتقالي المؤقت. مع الحرص على تجنب الفئوية الضيقة التي تتسبب في خلق صراعات في هذا المجال.
ثالثا – محور العمل على الجبهة الاسرائيلية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستطيع كل مدقق في نتائج الانتخابات الاسرائيلية تلمس التحولات الجزئية التي طرأت على موقف الجمهور الاسرائيلي من مسألة الحرب والسلام. فقد برزت قوى اجتماعية جديدة تطالب بحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي والعربي الاسرائيلي بالطرق السلمية وبعيدا عن التوسع والحرب والعدوان. لا شك أن تواصل الانتفاضة، وتفاعلات التطورات الدولية المتلاحقة وانتهاء الحرب الباردة، وتواصل الخط السياسي الواقعي لمنظمة التحرير، واستمرار العملية التفاوضية هي عوامل سوف تساعد في خلق مزيد من القناعات عند الشعب الاسرائيلي بضرورة حل الصراع العربي والفلسطيني الاسرائيلي حلال عادلا وشاملا وجذريا. الا أن ذلك لا يعني بقاء الدور والفعل الفلسطيني والعربي مجمدا بانتظار نتائج ما يحققه الزمن. بل يفرض فعلا عربيا موحدا ومنسقا يسرع في وقوع المزيد من مثل هذه التحولات. ولعل تعزز مواقع بعض القوى الاسرائيلية المؤمنة بدولتين لشعبين في الكنيست الجديدة يساعد التحرك في هذا المجال. كما أن شن هجوم سلام منظم على المجتمع الاسرائيلي يسهم في اضعاف القوى الصهيونية اليمينية المتطرفة ويقوي مواقع القوى الاسرائيلية المؤمنة بالتعايش والسلام بين الشعبين. وهذا يتطلب:
1) توجيه المزيد من فعاليات الانتفاضة باتجاه مخاطبة المجتمع الاسرائيلي مباشرة.
2) العمل على تطوير العلاقة مع قوى السلام في اسرائيل، وتفعيل دور المؤسسات الفلسطينية داخل الوطن المحتل على هذا الصعيد.
) وضع خطة اعلامية متكاملة قادرة على اختراق الاسوار الحديدية التي بنتها الحركة الصهيونية حول الرأي العام الاسرائيلي، وتعريف المواطن الاسرائيلي بحقائق الصراع، وحقيقة الموقف الفلسطيني والعربي في المفاوضات.
وفي الختام لا بد من القول أن فوز شعبنا في هذه المعركة الطاحنة الدائرة على أكثر من محور وجبهة من جبهات الصراع، يعتمد الى حد كبير على قدرة القوى الوطنية الفلسطينية في تحديد المواقف والاتجاهات السياسية الصحيحية والواقعية والمبنية على حساب دقيق لموازين القوى بعيدا عن النزعات والرغبات الذاتية. ويتوقف ايضا على مدى قدرتها في تحديد أوليات العمل في كل فترة من فترات النضال.
ان مواجهة مستحقات المرحلة الجديدة، والنهوض بمهام العمل المطلوب انجازها في الشهور القليلة القادمة يفرض بالضرورة تعبئة طاقاة الشعب كل الشعب وتشغيلها بصورة جماعية ومنظمة لانجاز المهام المباشرة وفي مقدمتها بناء مؤسسات الدولة، وتفعيل الانتفاضة والتحضير للانتخابات التشريعية الفلسطينية.
– هذه مادة مساهمة في ندوة الحوار