اتفاق اوسلو يترنح تحت ضربات رابين فهل يمكن انقاذة؟

بقلم ممدوح نوفل في 13/02/1995

لم يكن التنبؤ بفشل اللقاء الاخير الذي عقدة رابين مع ابو عمار يوم الخميس الماضي 9/ 2/ 95بحاجة لعبقرية سياسية خارقة . فالتدقيق السريع في مقدمات وظروف انعقاد ذلك اللقاء كان كافيا لاستباق الامور واستنباط النتيجة السيئة سلفا. فالرجلين توجها الى اجتماع ايرتز وكلاهما متشنج من الاخر. وقبل ايرتز التقى الرجلان في القاهرة وخرجا من الاجتماع الرباعي يوم 2 شباط الجاري، وهما متوتران من بعضهما البعض . والى ايرتز ذهب رابين وهو يحمّل ابو عمار المسؤلية عن الازمة التي تعيشها حكومته، ومسؤلية تدهور شعبيته في الشارع الاسرائيلي ومقتنع بتقارير استخباراته التي تقول بان ابو عمار لا يريد السيطرة على الارهابيين، ولا يريد قطع شعرة معاوية مع حركة حماس ، وانه يريد ان يبقى غزة تعيش في حالة من الفوضى المسيطر عليها، ويريد ان يبقى على المعارضة ونشاطها العسكري ورقة مساومة بيدة. وبالمقابل ذهب ابوعمار الىاجتماع ايرتز وهو مقتنع بأن رابين يعمل على اضعافه واضعاف سلطته، ويريد ان يجعل منه انطوان لحد ثاني (قائد دولة لبنان الحر في جنوب لبنان) ، ولا يريد تسليمه الضفة الغربية، ويماطل في سحب الجيش الاسرائيلي من المناطق المأهولة بالسكان، ويبالغ في الحديث عن الامن الاسرائيلي وعن الارهاب الفلسطيني، وعن تقصيرات الشرطة والامن الفلسطيني في ملاحقة الارهابيين. ويريد ان يبقي على قضايا اطلاق سراح المعتقلين، واعادة المبعدين، وتعزيز الشرطة الفلسطينية بقوات اضافية من الخارج، ومنع العمل في اسرائيل، اوراق ابتزاز يستخدمها في وجه الفلسطينيين ويساومهم عليها .
واظن ان لا حاجة لان يكون الانسان نبيا حتى يقول ان نتيجة اللقاء القادم بعد اسبوع بين الرجلين، -هذا اذا عقد بعد اسبوع – لن تكون في جوهرها افضل من نتائج لقاء ايرتز ولقاء القاهرة. فالمشكلة بين الرجلين معقدة جدا ولايمكن حلها خلال اسبوع اوشهرين ، وفشل لقاء ايريتز لم يكن بسبب ضيق الوقت الذي منح للاجتماع. ولا بسبب قلة التحضير له. فالاجتماع فشل بسبب ما حضره وحمله كلا منهما في حقيبته. ولا اضيف جديدا اذا قلت ان العلاقة بين الرجلين مأزومة منذ فترة، ومحكومة بعدم الثقة وبالشكوك المتبادلة، وان تأزمها ازداد بعد لقائي القاهرة وايريتز. وان لكل منهما همومه واولياته وحساباته الخاصه، المتعارضه مع اولويات وحسابات الاخرفي هذه الفترة، واظنها ستبقى متعارضة حتى تاريخ الانتخابات الاسرائيلية. صحيح ان كليهما لا زالا يتحدثان عن علاقات السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ويشددان على ضرورة تطويرها وعدم الخضوع لابتزاز الارهاب، ويؤكدان يوميا على تمسكهما باتفاق اوسلو، الا انهما يعرفان ان حديثيهما لايزيل القلق حول مصير عملية السلام ولا يخرجها من مأزقها الذي تعيشة الان . فالانتقال بالعلاقة الفسطينية الاسرائيلية خطوات نوعية، والخروج من الحلقة المفرغة التي يدور حولها الطرفان منذ اواخر الصيف الماضي، واخراج عملية السلام من المأزق الحقيقي الذي تمر به ، باتت تتطلب قرارات حاسمة يبدو ان كليهما لاعتبارات داخلية وخارجية ليس في وارد اتخاذها الان. ويمكن تشخيص حالة الرجلين على النحو التالي: رابين قرر منذ فترة طويلة الاخذ برأي وتوصيات المؤسسة العسكرية(وهو احد اركانها ومن مؤسسيها)المتعاكسة تماما مع الرغبات الفلسطينية، والمتحفظة على نصوص الشق الثاني من اتفاق اوسلو وليس على توقيت تنفيذها. اما ابوعمار فلا زال مترددا في اتخاذ القرار ويعيش حالة ترقب وانتظار.
وبالتمعن في اولويات رابين من الان وحتى انتخابات الكنيست الرابعة عشر، وفي موقفه الحقيقي من تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو تجعل الرهان على عودته بعد اسبوع الى الالتزام بتنفيذة اضغاث احلام . ومن امكانية التوصل معه في الاجتماع القادم او في الشهور القادمة الى اتفاق حول جدول زمني لانسحاب قوات الجيش الاسرائيلي من كل المناطق المأهولة بالسكان، واعادة نشرها من جديد في اماكن يتفق عليها الطرفان وفقا لنصوص الاتفاق مضيعة للوقت ورهان على سراب . وذات الشيء ينطبق ايضا على كل من يراهن على وقوع ضغوط خارجية تفرض على رابين الالتزام بتنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو. لقد جرب الفلسطينيون بعد اوسلو اكثر من مرة الاستنجاد براعيي عملية السلام وبخاصة الراعي الامريكي، وبالامم المتحدة، وبدول السوق الاوروبية المشتركة، الا ان جهودهم باءت بالفشل ، وكان الجواب: ان من توصل مع الاسرائيليين الى اتفاق من حجم ونوع اتفاق اوسلو قادر على التوصل الى حلول للقضايا المختلف حولها، لا سيما وانها قضايا تفصيلية واصغر من اتفاق اوسلو. وفي كل مرة كانوا يتلقون النصائح بالتحلي بالصبر والاستمرار في المفاوضات.
والتمعن في موقف المؤسسة العسكرية الاسرائيلية يمكن ببساطة رؤية تحفظها على نصوص اتفاق اوسلو، وادراك ان تحفظها ليس جديدا كما تحاول اظهاره الان ، وانه لم ينشأ بعد العمليات العسكرية التي نفذتها حماس والجهاد الاسلامي في شارع ديزينغوف وسط تل ابيب وعند مفرق بيت ليد. فبعد التوقيع على اتفاق اوسلو ظهرت في صفوف المؤسسة العسكرية الاسرائيلية حركة احتجاج، بعضها كان بسبب عدم اشراك الجيش في مفاوضات اوسلو، وبعضها الاخر طال العديد من بنود الاتفاق، وهي نفس البنود المختلف حولها الان، (التوقيتات الزمنية للانسحاب من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية وخطة اعادة انتشار قوات جيش الدفاع في مواقع محددة يتفق عليها). وفي حينها طرحت المؤسسة العسكرية حاجتها الى فترة زمنية اطول من تلك المنصوص عليها في الاتفاق، حتى تتمكن من تنفيذ الانسحاب واعادة الانتشار دون الاضرار بأمن اسرائيل والاسرائيليين المقيمين في الضفة والقطاع (المستوطنيين) . واستجابة لمطالبها لم يتردد رابين في حينها في وضع نصوص اتفاق اوسلو على الرف ، والخروج الى العلن بتصريحات قال فيها لا تواريخ مقدسة في الاتفاق مع الفلسطينيين. وفي تلك الفترة ارتكب المستوطنون مجزرة الحرم الابراهيمي في الخليل، ولم تقع عمليات في لا شارع ديزنغوف ولا في مفرق بيت ليد. وكانت المعارضتان الفلسطينية والاسرائيلية تعيشان حالة ارتباك من هول الصدمة التي احدثها الاتفاق المفاجىء.
وبعد دخول قوات الشرطة الفلسطينية الى غزة واريحا وقبل شروع حماس والجهاد الاسلامي في تنفيذ عملياها العسكرية النوعية، وجهت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية ضربات قوية لاتفاق اوسلو، وعطلت تنفيذ العديد من بنود بروتوكولات القاهرة. وظهرت داخلها اصوات مهمة، كان اعلاها واقواها صوت اهود براك رئيس الاركان ،الخليفة المنتظر لرابين ، شككت في امكانية تحقيق الحد الادنى من الامن للمستوطنيين في حال تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو، ووضعت المؤسسة العسكرية حكومة اسرائيلية بين خيارين اما تأجيل تنفيذ الانسحاب وتاجيل اعادة الانتشار في الضفة الغربية، واما اعادة النظر في انتشارالمستوطنات وفي حركة المستوطنيين على طرقات الضفة الغربية. ومنذ ذلك التاريخ لم تغيرالمؤسسة العسكرية رأيها، ووجدت في عمليات حماس والجهاد الاسلامي ذرائع ومبررات اضافية. وعطلت تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو فترة ستة شهور كاملة حتى الان ،وبالتدقيق في حديث ومفهوم رابين للفصل بين الشعبين يمكن الاستنتاج ان رابين سوف يستمر في تعطيل تنفيذ الشق الثاني من اوسلو حتى يحين موعد المفاوضات حول المرحلة النهائية، وحتى يتم تجاوز الانتخابات الاسرائيلية في حزيران 96، وحتى تتضح نتائج الانتخابات الرئاسة في خريف 96. فرابين يعتقد ان التصلب في المفاوضات مع الفلسطينيين، والتشدد في موضوع الامن، والتساهل مع المستوطنيين، تساعده على استعادة شعبيته التي فقدها، وتساعده على الفوز في الانتخابات القادمه.والواضح ان فوز الحزب الجمهوري الامريكي في انتخابات مجلسي الكونغرس والشيوخ الامريكيين قد دخل في حسابات رابين، وهو على قناعة بأن الادارة الامريكية الحالية اعجز من ان تمارس اية ضغوطات عليه،وانها فقدت بشكل مبكر قدرتها على التاثير في الاوضاع الدولية وخاصة اوضاع الشرق الاوسط، ويعتقد ان بيع الشق الثاني من اتفاق اوسلو للادارة الامريكية القادمة افضل من بيعه لادارة ضعيفة اغلب الظن انها راحلة .
ومن الان وحتى ذلك التاريخ ستبقي المؤسسة العسكرية تكيل الضربات لاتفاق اوسلو اما رابين فسوف يحاول اطالة امد المفاوضات قدر المستطاع واغراقها في قضايا الامن والارهاب، وحول اسس الانتخابات الفلسطينية، وحول اطلاق سراح بعض المعتقلين،.”وحتى لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم” وابقاء عملية السلام على قيد الحياة ، سيحاول استرضاء الجانب الفلسطيني ببعض الخطوات الصغيرة من نوع الرفع التدريجي للطوق الامني عن الضفة والقطاع ، واطلاق سراح بضع عشرات من المعتقلات والمعتقلين. اما بشان الانسحاب ، فأقصى ما قد يعرضه لاحقا وليس الان هو فقط تسليم طوباس وجنين للسلطة الفلسطينية بعدما رفضت المؤسسة العسكرية فكرة الانسحاب من بيت لحم لاعتبارات تتعلق بأمن القدس.
لقد تأخر معظم المفاوضون الفلسطينيون كثيرا قبل ان يدركوا ان رابين قرر تجميد الشق الثاني من اتفاق اوسلو الى ما خريف 96، وأظن ان بعضهم يدركها ولا يريد الاقرار بها كي لا يحمل المسؤلية عن التضليل وعن نقل المعلومات االخاطئة، والبعض الاخر لا زال يتصرف بسذاجة وبنفسية الضعيف المهزوم ويصدق ما يقال له من بعض الاسرائيليين حول الارهاب والارهابيين، ويضع رغباته وامنياته الشخصية بديلا للحقائق. لا شك ان رابين وجه صفعة قوية للمفاوض الفلسطيني في اللقاء الاخير. ويفترض ان يكون رفضه في ايريتز الاستجابة للمطالب الصغيرة التي طرحها ابو عمار ورفضه أي بحث في القضايا الكبيرة العالقة بين الطرفين كافية لاقناع السلطة الفلسطينية وكل المفاوضين الفلسطينيين بان الوقت قد حان لوضع رابين امام خيارات جديدة غير تلك التي اختارها. واعتقد ان (دبة الصوت) التي قامت بها السلطة الفلسطينية مؤخرا مفيدة لكنها تبقى ناقصة وبدون تأثير اذا لم تتلوها خطوة عملية ملموسة.واعتقد ان اعلان السلطة الفلسطينية عن تعليق المفاوضات لحين تقدم الجانب الاسرائيلي بجدول زمني لتنفيذ المادة 15من اتفاق اوسلو، والتي تنص على انسحاب الجيش الاسرائيلي من المناطق الفلسطينية المأهولة بالسكان، خطوة باتت ضرورية للدفاع عن الحقوق الفلسطينية التي نص عليها اتفاق اوسلو. وضرورية لتحريك الراعيين وكل القوى التي ساندت عملية السلام بصورة جدية لانقاذ عملية السلام من الدمار الذي ستلحقه بها خيارات رابين المفروضة على المفاوضات الان . واظن ان الاقدام على هذه الخطوة الان يأزم الاوضاع داخل حزب العمل وداخل حركة ميرتس وداخل الحكومة ، ويضعهم جميعا امام احد خيارين، اما تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو او تحمل مسؤلية تعطيل عملية صنع السلام امام العالم وامام قوى السلام وجمهوره في اسرائيل.
فهل ستقدم السلطة الفلسطينية على هكذا خطوة جريئة ام انها فقد القدرة على القيام باية مبادرات ؟ سؤال مطروح على السلطة كهيئة جماعية وكأفراد وقوى حزبية ؟ .