هل فقدت السلطة الفلسطينية قدرة الاعتراض على المشاريع الاسرائيلية

بقلم ممدوح نوفل في 21/12/1994

قبل تثبيت الصيغة النهائية لاتفاق اوسلو، وعند نقاش بند- تسوية المنازعات-اكثر المفاوضون الاسرائيليون من الحديث عن حرص دولة اسرائيل على الالتزام الحرفي بالمواثيق والاتفاقات التي توقعها مع الاخرين . وأكثروا اسئلتهم حول التزام عرفات بما يوقع عليه. وبعد التوقيع على الاتفاق في حديقة البيت الابيض قال رابين وبيريز لبعض اركان القيادة الفلسطينية : المعروف عن الاسرائيلي انه مفاوض متعب ومزعج ، لكنه مريح في التنفيذ. فهو يحترم توقيعه، ويحرص على الالتزام الكامل والدقيق بتنفيذ كل ما يوقع عليه..! اما مع الراعيين فقد ابديا تخوفاتهما من عدم احترام عرفات لتوقيعه. في حينه تبنى الراعي الامريكي المخاوف والشكوك الاسرائيلية. وافرد لها الرئيس كليننتون فقره خاصة في خطابه الذي القاه في حفل التوقيع يوم 13/9/93. ولاحقا على التوقيع تبنى المفاوضون الفلسطينيون تلك الاقوال، وصدق الكثير من اعضاء القيادة تلك المواقف، وبنوا عليها الكثير من الحسابات الفلسطينية .
وبعد مضي خمسة عشر شهرا على التوقيع، وتعثر تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو. وبقاء الكثير من بنود غزة اريحا اولا معلقة برسم النقاش . اعتقد ان لا ظلم ولاتجن على اي من الطرفين، اذا أتهم (الاول )، رابين وبيريز والمفاوضون الاسرائيليون ، بممارسة الدجل والابتزاز ، وبالبراعة في التضليل وفي تمويه المواقف ، واجادة كسب الاصدقاء . واذا اتهمت القياد الفلسطينية (الطرف الثاني) بتبسيط الامور وتسطيحها ، والتسرع في اطلاق الاحكام . وعدم اجادة الدفاع عن مواقفها وعن حقوقها ،وعدم القدرة على كسب الاصدقا وبناء التحالفات الضرورية لتدعيم مواقفها . واذا اتهم الطاقم الفلسطيني المفاوض ايضا، بالتساهل، والتقصير في استخدام الاوراق المتوفرة بين يديه . وبهدر المواعيد التي ثبتت في الاتفاق . والانجراف مع التكتتيكات الاسرائيلية التي ابعدت المفاوضات عن تنفيذ اعلان المبادىء والبروتوكولات المنبثقة عنه. والتجاوزات الاسرائيلية الكثيرة شواهد على ذلك ، بدء من عدم اطلاق سراح آلاف المعتقلين ، ورفض اعادة المبعدين ، مرورا بقضية المعابر ووضع الفيتوات على عبور هذا القائد او ذاك الكادر وانتهاء بتجميد الاتفاق الاقتصادي ، ومساحة اريحا، ونقل السلطات المدنية، واجراء انتخابات مجلس السلطة الفلسطينية..الخ.
والان يكثر الحديث في اسرائيل حول اتفاق اوسلو، ويتساءل العديد من الوزراء والرسميين الاخرين ، مدنيين وعسكريين، ومن ضمنهم بيريز ورابين ، عما اذا كان على الفلسطينيين والاسرائيليين اجراء تعديلات على بعض نصوصه ، بعدما ثبت- حسب اقوالهم- انها غير قابلة للتنفيذ . وبعضهم مضى الى ما هو اخطر من ذلك ، حين طالبوا بتغيير نصوص الاتفاق من جانب واحد ، اذا رفض الجانب الفلسطيني اجراء التعديلات الضرورية. ضاربين عرض الحائط نصوص الاتفاق التي وقعوا عليه، ومن ضمنها نصوص تحدد اسس تسوية النزاعات . غير مكترثين بانعكاس ذلك على عملية صنع السلام بين الشعبين ، وعلى مصير الاتفاق ، وعلى علاقة السلطة الفلسطينية مع شعبها .
والنصوص غير القابلة للتنفيذ، من وجهة نظر حمائم وصقور الجيش والحكومة،هي بنود المادة 13 التي تنص على اعادة نشر قوات الجيش الاسرائيلي في الضفة الغربية، وعلى انسحابها من المناطق المأهولة بالسكان ، وتسليمها لقوات الشرطة الفلسطينية قبل اجراء الانتخابات . وهذه النصوص هي من النصوص القليلة التي- اذا طبقت- قد تحدث بعض التغيير في حياة الناس، وتشعرهم ببدء زوال كابوس الاحتلال . وهي بالتأكيد نصوص سياسية وليست فنية عسكرية امنية . فهي تتعلق بمستقبل اتفاق اوسلو ، وبمصير المستوطنين والمستوطنات ، وتتضمن اعترافا اسرائيليا ضمنيا بان قواتها قوات غريبة عن اهل وارض الضفة الغربية ، وعليها ان تتمركز في المرحلة الانتقالية خارج التجمعات السكانية الفلسطينية. وانها وفق منطق صنع السلام بين الطرفين سوف تتواجد في مواقع انتقالية مؤقتة تنسحب منها لاحقا الى مواقع داخل حدود اسرائيل ، بموجب قرار مجلس الامن الدولي رقم 242 الذي نص على انسحاب القوات الاسرائيلية من الاراضي التي احتلت في حزيران 67.
وتعرف القيادة الاسرائيلية ان تثبيت هذه النصوص اخذ ساعات طويلة من النقاش ، وانها لم تكن خلال المفاوضات في اوسلو سقفا للموقف الفلسطيني بشأن انسحاب جيش الاحتلال من الضفة والقطاع . وهذا السقف على كل حال اقل من سقف اتفاقات كامب ديفيد التي وقعها بيغن زعيم تكتل الليكود مع الرئيس السادات عام 78. والتي نصت على : (سيتم انسحاب القوات الاسرائيلية،وسيكون هناك اعادة انتشار للقوات الاسرائيلية المتبقية.وسيتم انسحاب الحكومة وادارتها المدنية مباشرة بعد انتخاب مجلس السلطة الفلسطينية). واذا كانت حكومة رابين اكتشفت الان ان بعض بنود اتفاق اوسلو لاتناسب مصالحها الامنية والاستيطانية التوسعية ، وان تنفيذها يلحق الضرر بمواقعها في انتخابات الكنيست القادمة ،فواجب المفاوض الفلسطيني تذكيرها بتحفظاته الكثيرة على بنود عديدة من الاتفاق ، وان بعضها الحق اضرارا كبيرة بالمصالح الوطنية الفلسطينية العليا . وان اتفاق اوسلو لم يعطي ايا من الطرفين كل ما يريد وما يطمح له. وانه من وجهة نظر غالبية الفلسطينيين لا يلبي الحد الادنى من المطالب الفلسطينية التي تضمن لهم تحقيق اهدافهم الوطنية المشروعة التي من اجلها تم الدخول في المفاوضات .
والحديث الاسرائيلي عن تعديل اتفاق اوسلو ، وعن الانسحاب من بعض مدن الضفة (رام الله ونابلس وجنين) ،والبقاء لاسباب امنية في بقية المدن والقرى الاخرى ،هو استمرار لذات السياسة التفاوضية الابتزازية التي انتهجها مع الفلسطينيين بعد اوسلو . والتي افلحت في تجزأة المواضيع ، وفي استهلاك المواعيد ، وتفتيت نصوص اتفاق اعلان المبادىء وملاحقة، الى اجزاء صغيرة متناثرة هنا وهناك . والواضح ان رابين واركانه من سياسيين وعسكريين يحاولون الان مقايضة انتخاب مجلس السلطة الفلسطينية بالتسليم بالشروط الامنية الاسرائيلية. صحيح ان انسحاب الجيش الاسرائيلي من مدن رام الله ونابلس وجنين وبيت لحم، ودخول الشرطة الفلسطينية اليها مكسب وطني فلسطيني هام ، وان اجراء انتخابات فلسطينية لمجلس السلطة مكسب ثاني اهم . الا ان الصحيح ايضا ان القبول بهما وحدهما وفي الاطار الذي يطرحه الاسرائيليون ، يتضمن تفريطا بحقوق ومكاسب وطنية اخرى تضمنها اتفاق اوسلو . فالاتفاق ينص صراحة على انسحاب الجيش الاسرائيلي من كل المناطق الفلسطينية المأهولة بالسكان ، وليس من بعضها . والمساومة المعروضة ليست حول مسائل فنية وتقنية بل حول جوهر الاتفاق ، وحول اسس العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية، وحول مصير المستوطنات، ومصير الارض الفلسطينية . والقبول الفلسطيني بهذه التجزئة لنصوص اتفاق اوسلو يلحق اضرارا فادحة بالمصالح الوطنية الفلسطينية ابرزها :
اولا- اطالة امد المفاوضات حول المرحلتين الانتقالية والنهائية، وجعل الحكم الذاتي في الضفة الغربية غطاء للاحتلال ، اقلة من الان وحتى الانتهاء من انتخابات الكنيست في صيف1996. فالمرجح ان تكون هذة الخطوة الاسرائيلية هي الخطوة الاخيرة مع الفلسطينيين في عهد الحكومة الاسرائيلية الحالية . واصرار رابين على هذا التجاوز لنصوص اتفاق اوسلو نابع من تفكيره الصهيوني التوسعي الذي لم يتخلى عنه ، ومن حرصه على عدم التصادم مع المستوطنين والمتدينين وقوى اليمين قبل انتخابات الكنيست . ظنا منه انه بسرقة برنامج الليكود يكسب بعض اصوات اليمين الى جانب اصوات اليسار المضمونه.
ثانيا- تقوية امكانية تحويل الحكم الذاتي سقفا نهائيا للحل الوطني الفلسطيني وليس مرتكزا لتوسيع افاق العبور الى الاستقلال الوطني . فالمشروع الاسرائيلي المعروض لا يؤجل مصير المستوطنات (الامنية والسياسية) . وانما يحاول استباق مفاوضات المرحلة النهائية وحسم مصيرها لجهة تكريس وجودها كمدن وقرى اسرائيلية خاضعة للسيادة الاسرائيلية،وخارج نطاق سلطة السلطة الفلسطينية.ولمعرفة جوهر المشروع المطروح ، اظن ان من المفيد للقيادة الفلسطينية استذكار ما طرحه المفاوض الاسرائيلي في الجولتين السادسة والسابعة من مفاوضات واشنطون ، وتقسيمه للارض الفلسطينية الى ثلاثة اقسام : الاول اراض خاضعة لسيادة السلطة الفلسطينية ، والثاني اراضي خاضعة للسيادة الاسرائيلية والثالث اراض متنازع عليها يحسم امرها في المفاوضات.
ثالثا- خلق سابقة في العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية ، واجازة مبدأ المساومة حول قضايا سبق وحسمت في اتفاقات رسمية . وخطورة هذه السابقة تكمن في امكانية استخدامها لاحقا في التعامل مع اتفاقات المرحلة النهائية، هذا اذا كان هناك مثل هذه المرحلة. وايضا في تحويل اتفاق اوسلو من وثيقة رسمية مطروحة للتنفيذ الى مجموعة نقاط ومبادىء يسترشد بها وفقا للمصالح الاسرائيلية في هذه الفترة او تلك . في الشهور الماضية نجح رابين والمفاوض الاسرائيلي في تثبيت سابقة “لا تواريخ مقدسة مع اللفلسطينيين” ،ويحاول الان تثبيت سابقة اخرى اكثر خطورة هي:”لانصوص مقد سة في اي اتفاق مع الفلسطينيين”.اعتقد ان من المفيد للقيادة الفلسطينية ولوفدها المفاوض ان يسألوا انفسهم السؤال التالي : لماذا لم تفعل القيادة الاسرائيلية في اتفاقات كامب ديفيد وفي الاتفاق مع الاردن ما فعلته وتفعله في اتفاق اوسلو ؟ هل موازين القوى هي السبب الوحيد ام ان القصور والتخبط في المفاوضات شجعها على ذلك؟
رابعا-اعتقد ان الموافقة الفلسطينية على مشروع “بيت لحم نابلس جنين ثانيا”، سوف تعزز وتقوي شكوك الشعب الفلسطيني (القوية) في النوايا الاسرائيلية. ويزيد في اهتزاز ثقته في السلطة الوطنية ، وفي قدرتها على ادارة المفاوضات وفي انتزاع حقوقه وتخليصة من الاحتلال . وتكرس القناعة عند النازحين واللاجئين بان لا امل في حل قضايهم من خلال المفاوضات الجارية. وتنمي الميول والاتجاهات الفلسطينية المعارضة لاتفاق اوسلو، ولكل عملية السلام التي انطلقت من مدريد عام 1991.
بعد هذا العرض للخسائر والاضرار التي قد تلحقها موافقة القيادة الفلسطينية على مشروع “بيت لحم نابلس جنين”، يتبادر للذهن بعض الاسئلة منها : هل فقدت السلطة الفلسطينية قدرة الاعتراض على المواقف والمشاريع التي يطرحها الاسرائيليون ؟ وهل بامكانها الان اتخاذ موقف يلزم الجانب الاسرائيلي تنفيذ ما وقع عليه ؟ ام ان موازين القوى تجعل من قبول السلطة الفلسطينية لما يعرضه الاسرائيلي خيارا وحيدا وقدرا لا مفر منه ؟ .وهل ستتمسك السلطة الفلسطينية بنصوص اتفاق اوسلو وتصر على تنفيذه ام انها سوف تخضع للابتزازات الاسرائيلية ، وتقدم لرابين وسياستة التوسعية غطاء فلسطينيا ؟
في سياق البحث عن الاجوبة قد يقول البعض ان من المبكر اطلاق احكام نهائية الان. والرد على ذلك بسيط: تجربة المفاوضات في الشهور الماضية لا تبشر بالخير. ولا يجوز في القضايا الوطنية الكبرى انتظار وقوع الفاس في الراس…