تقييم المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية خلال عام

بقلم ممدوح نوفل في 06/09/1994

تقييم المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية خلال عام
ميزاتها وخصائصها، مسيرتها، نتائجها، آفاقها اللاحقة

مقدمة:
في 30 اكتوبر القادم تكمل عملية السلام العربية والفلسطينية- الاسرائيلية عامها الاول. وخلال هذا العام عقد المتفاوضون 6 جولات من المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف، وسابعتها ستعقد في 21 اكتوبر القادم. كما عقدت جولتان من المفاوضات المتعددة الاطراف. وبجانب ذلك كله وفي العام ذاته بذلت جهود مضنية وكبيرة، وعقدت لقاءات متعددة، وتمت اتصالات سرية وعلنية، شارك فيها الكثير من الدول والافراد على أعلى المستويات. وقبل وخلال جولات المفاوضات أعدت عشرات الدراسات والمشاريع، شارك فيها عشرات بل مئات من الباحثين والخبراء، وعدد غير قليل من مؤسسات الابحاث والدراسات. وهذا كله تم كما هو معروف في اطار البحث عن السلام في الشرق الاوسط على قاعدة المبادرة التي أطلقها الرئيس الامريكي بوش في آذار 91.
في هذه الدراسة سنحاول القيام بتقييم اجمالي للمفاوضات على امتداد عام، مركزين على المفاوضات الثنائية باعتبارها هي الاساس، وعلى دور الراعي الامريكي باعتباره صاحب وراعي المبادرة، وعلى مواقف طرفين من أطراف النزاع اسرائيل والفلسطينيين باعتبارهما قطبي الصراع. معتمدين في ذلك على ما توفر من وثائق ومعلومات عامة او خاصة تتعلق بالمفاوضات. آملين ان تتمكن الدراسة المساهمة في تقييم الجهد الضخم المبذول حتى الان. وان نقدم للقاريء صورة موضوعية عن واقع ومجريات المفاوضات. وان تساهم في رسم صورة أولية عن آفاقها ومستقبلها.. ولتسهيل ذلك فقد تم تقسيم الدراسة ألى أربعة أقسام: الأول يبحث في ميزات وخصائص العملية الحالية والثاني يبحث في مسيرة المفاوضات ومواقف الاطراف خلالها، والثالث: يتعلق بالنتائج التي اسفرت عنها، والرابع يستقريء آفاق العملية ومستقبلها.
وكمقدمة لذلك كله يمكن القول اذا كان من المتعذر الان استقراء كل النتائج التي ستتركها والمتغيرات التي ستحدثها مفاوضات السلام العربية-الاسرائيلية مستقبلا على اوضاع دول وشعوب المنطقة، وعلى نمط علاقات بعضها ببعض، فليس عسيرا على كل من تابعها وراقبها رؤية التفاعلات السياسية والفكرية والاجتماعية الاولية التي بدأت تحركها في في المنطقة منذ الان.
فالمعروف أن مؤتمر السلام بشقيه الثنائي والمتعدد الاطراف انطلق في 30 اكتوبر 91 من مدريد آخذا على عاتقه معالجة كل أوضاع منطقة الشرق بعقدها التاريخية، وصراعاتها المستفحلة، وعلاقاتها العدائية المستحكمة. وسار بها برعاية أمريكية (وأمريكية روسية اسمية) نحو مرحلة جديدة تختلف في نظمها ومفاهيمها وعلاقاتها السياسية والاقتصادية والامنية والفكرية والثقافية اختلافا جوهريا عن تلك المفاهيم والعلاقات التي سادت المنطقة مدى نصف قرن من الزمن.
ومنذ الافتتاح أثار مؤتمر السلام الكثير من التساؤلات. القليل منها وغير الحاسم، أجابت عليها جلسات المفاوضات التي عقدت حتى الان. أما الاسئلة الاخرى الهامة والمعقدة فلا زالت بدون اجابات شافية حاسمة. قبل عام من الان طرح في الساحة الفلطسينيةو العربية والدولية سؤال هام، هل ستتواصل المفاوضات؟ وهل سيتمكن مؤتمر السلام من تحقيق الاهداف التي حددت له في مبادرة بوش وفي رسالة الدعوة (1) ورسائل التطمينات أم أن مصير هذه المحاولة سيكون كسابقاتها؟. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الان لا زال هذا السؤال مطروحا على كل المعنيين بعملية السلام.

في الاجابة على هذا السؤال انقسمت مواقف أهل المنطقة وكل المراقبين والمهتمين بقضايا الشرق الاوسط بين متفائل ومتشائم. ولم يخلو الامر من وجود بعض المتشائلين. والان وبعد مضي احدى عشر شهرا على بدء عملية السلام، لا زال الاختلاف والانقسام قائما، وبذات الحدة تقريبا مع تسجيل حركة تنقلات خفيفة بين الموقفين او الثلاثة مواقف.
بالتدقيق في مقومات ومستندات المواقف المتباينة، يتبين ان لكل منهما ما يبرره، ومعه من الحقائق والوقائع ما يلزم لدعم واسناد موقفه. ولعل عدم توصل المتفاوضين (حتى الان) الى اتفاقات ملموسة، وعدم ظهور الدخان الابيض فوق اي محور من محاور المفاوضات العربية الاسرائيلية الثنائيات منها او المتعددة الاطراف يساعد على بقاء مثل هذا الانقسام، ويمكن كلا من الموقفين المحافظة على وحدة وتماسك انصاره ومؤيديه، ويزيد من صعوبة اعطاء تقديرات حاسمة حول النتائج النهائية لمؤتمر السلام. وأظن ان كل محاولة للجزم منذ الان بصحة ودقة اي الموقفين والرأيين سيكون فيها شيئا من التسرع وكثير من الامنيات والرغبات الذاتية.
الا أن عدم القدرة على اصدار أحكاما جازمة حول قدرة مؤتمر السلام على وصول محطته النهائية وقطع كل المسافات الزمنية(2) بتوقيتاتها المحددة، وتجاوز المنزلقات والمنعطفات الحادة الكامنة في طريقه الطويل، والمحافظة على استمرارية مشاركة كل الاطراف المعنية بالصراع وكل الاطراف الملتحقة للمساعدة …الخ. فان كل ذلك لا يمس دقة الحكم القائل بان العملية التفاوضية الجارية تتمتع بسمات وميزات لم تتوفر لأي من المحاولات التي سبقتها. وانها بسبب هذه الميزات استطاعت الصمود حتى الان وضمنت لنفسها التواصل عاما كاملا، متخطية الكثير من الصعوبات وعمليات الاعاقة والعرقلة الطبيعية والمتعمدة التي تعرضت لها.

القسم الأول
خصائص وميزات العملية السياسية الحالية:
بتفحص عملية السلام الحالية يمكن رصد الخصائص والميزات التالية فيها:
1) غياب الاستقطاب والتجاذب السلبي الخارجي:
بانهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة اصبحت الولايات المتحدة الامريكية القوة المهيمنة على الوضع الدولي، وضمنت لنفسها افضلية في القرار الدولي واحتفظت لنفسها من تحديد أولويات التنفيذ. في ظل هذا الوضع أطلق الرئيس بوش مبادرته بتاريخ 6 /3/91 حول الشرق، محددا فيها معالم سياسة ادارته على النحو التالي: حل ازمة الشرق الاوسط على اساس قرارات الامم المتحدة 242 و 338، والارض مقابل السلام، الامن والاعتراف باسرائيل، الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني.
وعلى هدى هذه التوجهات تحرك الوزير بيكر الى المنطقة وزار دولها في عدة جولات مكوكية(3). ولم تواجه لا مبادرة الرئيس بوش ولا الجهود الميدانية للوزير بيكر اية منافسة من اية قوة دولية كما لم تواجه جهوده اية عرقلة او مشاغبة خارجية. بل انضم لها ودعمها الاتحاد السوفياتي (سابقا) ودول السوق الاوروبية المشتركة وبهذا تهيأ لهذه العملية وضعا دوليا لم يتهيأ لسواها من قبل. فكل المحاولات الامريكية(4) السابقة التي طرحت لمعالجة قضية الشرق الاوسط كانت تصطدم دوما بقانون الاستقطاب والتجاذب المضاد الذي تحكم في العلاقات الدولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط سور برلين وتوحد الالمانيتين. واذا كنا لسنا بصدد اجراء مراجعة شاملة لتأثيرات الحرب الباردة على القضية الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني، فلعل من المفيد تثبيت خلاصة رئيسية تقول اذا كان اغتصاب اسرائيل لمساحات واسعة من الاراضي الفلسطينية في عام 47 وتهجير مئات الالوف من الفلسطينيين واحدة من افرازات الحرب العالمية الثانية، فاحتلال اسرائيل للضفة الغربية والجولان وجنوب لبنان وسيناء وتشريد مئات الالوف في عام 67 وتحول اسرائيل الى قوة اقليمية كبرى وتغذيتها بمئات الالوف من المهاجرين وبكل صنوف المعدات الحربية الحديثة والفتاكة كانت هي الاخرى افرازا من افرازات الحرب الباردة.

2) المشاركة الدولية الواسعة:
في نطاق سعيها لانجاح مبادرتها الجديدة، وبالاستناد لوضعها المقرر في السياسة الدولية، عملت الادارة الامريكية على زج كل الاطراف المعنية بصورة مباشرة وغير مباشرة بالصراع في المفاوضات المباشرة. حيث شاركت ولأول مرة دول المغرب العربي ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر واليمن اضافة لسوريا ولبنان والاردن والفلطسينيين واسرائيل. كما اشركت العديد من دول العالم وتجمعاتها، السوق الاوروبية المشتركة والصين واليابان وكندا. وابتكر الوزير بيكر اطارا تفاوضيا جديدا “Multilateral” استوعب كل هذه الدول وحولها الى أطراف مشاركة في المفاوضات ومعنية بالتالي عن تواصلها ونجاجها. وبهذا وجدت الاطراف المعنية بالصراع المباشر نفسها محاصرة من كل الاتجاهات الدولية وواقعة تحت ضغط دولي كبير، لم يقتصر فعله وتأثيره في ارغامها على تجنب تحمل المسؤولية عن انهيار المفاوضات فحسب، بل وتعرض كل من حاول الاعاقة والتعطيل الى نقد وضغط دولي معنوي وسياسي شديد مقرونا بضغوطات اقتصادية. ومثل هذا حصل مع شامير ابان معركة ضمانات القروض، حين رفضت دول السوق الاوروبية واليابان تقديم اية ضمانات بديلا عن الضمانات الامريكية. وفي اطار اظهار اهتمام الادارة الامريكية بعملية السلام وحشد أوسع مشاركة دولية، شارك الرئيس بوش شخصيا في افتتاح مؤتمر مدريد ونجح بيكر في حشد عدد كبير من وزراء خارجية عدد من دول العالم بالاضافة للرئيس (السابق) غورباتشوف ورئيس وزراء البلد المضيف.

3) نهوض العملية على أسس متينة:
في جولاته المكوكية التي سبقت افتتاح مؤتمر السلام نجح الوزير بيكر في ارساء مشروعه الكبير على أسس متينة، كفلت له حتى الان الثبات وعدم الانهيار واضافة بعض (المداميك) الجديدة اليه. فقد أقنع كل أطراف الصراع بجدية التحرك الامريكي وتصميمه على الانطلاق في العملية بشقيها وان المتعدد سيعقد بمن حضر(5)، وأقنعها بان المشاركة في مؤتمر السلام ستكسبها كثيرا مقابل تضحيات وخسائر بسيطة لا تذكر. وأفهمها ان المقاطعة ثمنها كبير. أوجد مرجعية قانونية للعملية قرارات 242 و 338. وترك للاطراف حرية تفسيرها وفقا لمصالحها. أعطى للاطراف الحرية في التفاوض المباشر(6)، وأوجد بذات الوقت رعاة للعملية Cosponsors لهم الحق في التدخل لدفع المفاوضات قدما للامام. حاول التجاوب مع الطلبات الاساسية للاطراف، ومالم يستطع تثبيته في رسالة الدعوة ثبته في رسائل التطمينات الامريكية التي اعطيت لكل الاطراف. استفاد من فشل بعض المحاولات السابقة ومن ضمنها فشل مبادرته التي أطلقها عام 89، وفشل مبادرة الرئيس ريغان وكل ماسبقهما، فاعتمد اسلوب الغموض البناء، وتجنب اثارة القضايا الشائكة في المرحلة الاولى مثل القدس وألزم أو اقنع الاطراف بذلك. ركز على المصالح المباشرة والبعيدة للاطراف المشاركة والمساندة، واقنعها بالابتعاد عن المباديء والعقائد والشعارات. درس وحدد نقاط القوة ونقاط الضعف عند كل طرف واستخدمها بفعالية. استخدم اسلوب العصا والجزرة واشهر سيوفه عندما اضطر لذلك ورمى بثقل الادارة الامريكية فوق الجميع.
وفي نطاق هذا الاسلوب وتكيكاته وافق للفلسطينيون على (اختيار اعضاء وفدهم الذين لا يخضعون لفيتو من اي كان رتط). وأعطى لاسرائيل (لا يمكن الزام طرف بالجلوس مع أي أحد لا يريد الجلوس معه رتط). انتزع من الفلطسينين عدم مشاركة منظمة التحرير وبذات الوقت قال لهم اذهبوا وتشاوروا وقولوا ل م.ت.ف في تونس اذا سهلت نسهل واذا عقدت فستدفع الثمن. وترك الباب مفتوحا أمام مشاركة م.ت.ف في مفاوضات الحل النهائي. قال للفلسطينيين لا لأي تغيير في حدود بلدية القدس(7). وقال واعطى للاسرائيليين القدس ستبقى موحدة). تجاوب مع رفض اسرائيل للدولة الفلسطينية المستقلة(8)، وأعطى للفلسطينيين امكانية قيام كونفدرالية مع الاردن. الزم الفلسطينيين بالتفاوض في اطار الوفد المشترك الاردني الفلسطيني وبالمقابل اعطاهم مسارا مستقلا.

هذا وقد أكدت وقائع ومجريات المفاوضات مرونة ونجاعة هذه الاسس، وقدرتها على استيعاب التوترات والاشكالات التي تخللتها حتى الان. منها على سبيل المثال الاشكال الاول الذي تعرضت له المفاوضات حول مسألة الوفد الفلسطيني المستقل والوفد المشترك والمسار الفلسطيني الاسرائيلي وعلاقته بالوفد المشترك وبالمسار العربي الاسرائيلي. وذات الشيء ايضا عندما وقع اشكال حول مشاركة فلسطينيين من الخارج في لجان المتعدد الاطراف، وهو اشكال لا زال معلقا في بعض جوانبه حتى الان.

4) انعدام الخيارات أمام الاطراف:
لا شك أن توقيت الادارة الامريكية واطلاقها لمبادرة صنع السلام في الشرق الاوسط جاءت بعد حسابات دقيقة للاوضاع والظروف المحيطة باطراف الصراع في المنطقة. فانهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه أنهى وجود طرف كان يطمح لمشاركتها في تقاسم النفوذ في المنطقة. وتحول الى طرف ضعيف جاهز لتسهيل سيطرتها عليها مقابل مساعدته على تجاوز حالته وتجنب الانهيار الشامل.

ومع انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي انفتحت شهية شامير والليكود على استجلاب ملايين اليهود وتوطينهم في اسرائيل. ونمت احلامه باسرائيل الكبرى. وزادت حاجته للمساعدة الامريكية في نقل المهاجرين الجدد واستيعابهم. وخلال المفاوضات التمهيدية الاسرائيلية-الامريكية اخذ شامير كل الشروط والاسس التي طلبها مقابل مشاركته في عملية السلام. ولم يبقي له بيكر منفذا للتهرب من المشاركة في مؤتمر السلام. ولم يكتف شامير بما نصت عليه رسالة الدعوة فطالب بتأكيدات خطية تتضمن كل ماقيل له شفويا في المباحثات مع بيكر ونال ما يريد في رسالة التطمينات الامريكية الخاصة باسرائيل.

أما الجانب العربي فقد جاء توقيت المبادرة الامريكية ودعي للمشاركة في عملية السلام وهو يمر في ظروف صعبة. فانهيار الاتحاد السوفياتي افقد سوريا ومنظمة التحرير قوة مساندة. وبانتهاء الحرب الباردة فقدت امكانية اللعب على تناقض مصالح الدول العظمى. وحرب الخليج انتهت بتعمق التفكك والانقسام العربي. وبروز الولايات المتحدة الامريكية كقوة ذات تواجد مباشر وكبير في المنطقة. وذات عصا غليظة لم تكتف بالتلويح بها بل استخدمتها.

في ظل هذه الظروف لم يكن امام سوريا ومعها لبنان سوى خيار الاستجابة للمطلب الامريكي والدخول في عملية السلام مبدية استعدادها للتكيف مع الوجهة الدولية الجديدة. واستعدادها للتعامل مع متطلباتها وتوجهاتها على صعيد المنطقة. ويمكن القول ان سوريا دخلت عملية السلام وامامها هدفين الاول محاولة ايجاد تقاطع بين مصلحتها في استعادة الجولان وتعزيز نفوذها في لبنان وبين مصالح الادارة الامريكية في صنع استقرار دائم في المنطقة يضمن لها مصالحها لسنوات طويلة. اما الهدف الثاني فهو التكيف مع متطلبات السياسية الامريكية في المنطقة وتجنب المعاقبة على مواقفها وسياستها السابقة شبه المنحازة للاتحاد السوفياتي قبل انهياره، وعلى امل شطب اسمها من قائمة الدول الارهابية في وقت اخذت المطاردة والمحاصرة تزداد ضد كل المتهمين بالارهاب وحتى لبعض المشتبه بهم.

ولم يكن الاردن في حالة أفضل من الحالة السورية. فحرب الخليج انتهت واصابع الاتهام الامريكية تشير له باعتباره طرفا متهما بمساندة نظام صدام ابان اجتياحه للكويت. وباعتباره طرفا رفض التجاوب والتفاعل مع السياسة الامريكية واعمالها العسكرية ضد العراق ورفض الانضمام للتحالف الدولي العربي الذي بنته الادارة الامريكية لهذا الغرض.
وجاء دخوله لمؤتمر السلام في محاولة لفك العزلة السياسية وكسر الحصار الاقتصادي وكتعبير عن استعداده للانسجام مع المتغيرات الدولية وللتوجهات الامريكية الجديدة آخذا بعين الاعتبار وضعه الخاص والمعقد خاصة بعد وصول ما يقارب 300 الف فلسطيني واردني هجروا من دول الخليج. وبعدما اصبح محاصرا سياسيا واقتصاديا من كل الجهات التي كانت تدعمه سابقا.

اما الجانب الفلسطيني فقد جاءته الدعوة للمشاركة في مؤتمر السلام وهو يمر في اصعب واعقد الظروف. فانهيار الاتحاد السوفياتي افقده الدعم والاسناد الذي كان يتلقاه. وحرب الخليج انتهت بتهجير مئات الالوف من الفلسطينيين من دول الخليج، وتوقف كل اشكال الدعم الاقتصادي الذي كانت تتلقاه المنظمة من دول الخليج او الذي كان يتلقاه ابناء الضفة والقطاع من الجالية الفلسطينية هناك. ناهيك عن الحصار السياسي الذي ضرب حول عنق م.ت.ف وتوتر علاقاتها مع العديد من الدول العربية. وكل ذلك جاء مترافقا مع هجرة يهودية واسعة ونمو جنوني في حركة الاستيطان التي اخذت تأكل ما تبقى من الارض.

في ظل هذه الاوضاع حاولت م.ت.ف جاهدة تحسين اسس وشروط المشاركة الفلسطينية، بما يضمن وحدة الشعب في الداخل والخارج، ويوقف سرطان الاستيطان، وأن تحسن من صيغة التمثيل، وبما يضمن مستقبلا وصول الشعب الفلسطيني لممارسة حقه في تقرير المصير. وتوجهت لمن استطاعت الوصول له من العرب على امل الوصول الى موقف عربي موحد أو على مستوى الاطراف المعنية مباشرة بالصراع وان تصل معها الى اتفاق بعدم الاعلان عن الموافقة علىا لمشاركة في مؤتمر السلام الا بعد انتهاء المباحثات التمهيدية الفلسطينية-الامريكية. وسعت لأن يتبنى بعضهم موضوع القدس بعدما تبين انه سيؤجل للمرحلة الانتقالية، الا ان جهودها اصطدمت بالمصالح الخاصة لكل طرف من اطراف العربية. وبالتمزق والانقسام العربي وتآكل الفكر القومي. ووجدت م.ت.ف نفسها امام احد خيارين لا ثالث لهما. اما القبول بالمشاركة وفقا للصيغة والاسس المجحفة أو الرفض وتحمل تبعات ونتائج ذلك.

وبعد بحث معمق داخل وخارج المؤسسات التشريعية والتنفيذية الفلسطينية، اختارت (9) م.ت.ف المشاركة تجنبا لخسائر كبيرة مؤكدة، وأملا في تحقيق بعض المكاسب غير مؤكدة التحقيق. وعقدت العزم على النضال من داخل العملية مع التمسك بالثوابت وتحسين الموقف التفاوضي الفلسطيني بصورة تدريجية.

وبالتدقيق في ظروف انعقاد مؤتمر السلام، وفي انعدام الخيارات الاخرى امام الاطراف، يمكن القول ان ذات الظروف وذات الاوضاع بقيت تتحكم في مواقف القوى على امتداد الشهور العشرة الماضية من المفاوضات وهي ذاتها التي مثلت عامل ضغط على كل الاطراف للاستمرار في التفاوض، بالرغم من اصطدام المواقف وتعثرها وتحولها في فترة سابقة الى مفاوضات من أجل المفاوضات.

لقد حاول الجانب الفلسطيني اكثر من مرة التمرد على قواعد وأسس العملية وفكر في التعليق أو (قلب الطاولة) الا أن محاولاته وأفكاره تلك اصطدمت بانعدام البدائل والخيارات. وعاد للانضباط قابلا ببعض الانجازات الشكلية التي كانت تقدم لها كترضيات (كما سيتضح لاحقا عند الحديث عن مسار المفاوضات).

ولم تتوقف محاولات التمرد على الجانب الفلسطيني وحده، فقد حاول شامير التمرد، وتصادم مع الراعي الامريكي حول الاستيطان، وهرب شامير نحو الناخب الاسرائيلي ونحو الكونغرس الامريكي والجالية اليهودية في الولايات المتحدة آملا في حماية تمرده وتدعيم مواقفه، فكانت النتيحجة خروجه وخروج حزبه من السلطة ومن العملية السياسية واستمرار المفاوضات.

والان وبعد عشر شهور من المفاوضات يمكن القول أيضا أن عامل انعدام البدائل والخيارات قد تحول بفعل ميكانيزم العملية ذاتها، ليس فقط عاملا ضاغطا للاستمرار في المشاركة في المفاوضات، بل وايضا عامل يضغط باستمرار باتجاه تحقيق بعض التقدم والانجازات الملموسة حتى ولو كانت محدودة.

5) مراكمة قوة دفع ذاتية:
لا شك أن استمرار العملية وتواصل المفاوضات مدة عام تقريبا، قد مكنها من امتلاك خاصية مراكمة قوة دفع ذاتية لم تتمكن أي من المحاولات الامريكية او الدولية السابقة من مراكمتها. فكل المبادرات التي سبقت مبادرة بوش-بيكر لم تعمر سوى أسابيع قليلة وبعضها ايام معدودة، باستثناء مفاوضات كامب ديفيد التي تواصلت عدة سنوات بعد توجهها نحو الحل الثنائي المصري-الاسرائيلي. فقوة الدفع الاولية الخارجية التي دفعت قطار مؤتمر السلام نجحت في تشغيل محركات ومولدات طاقته الذاتية. وبتشغيلها توفر للعملية طاقة اضافية. ومع تواصل الحركة وغياب الجذب السلبي تنامت هذه الطاقة أكثر فأكثر. صحيح أنها لم تبلغ حتى الان مستوى الاعتماد على الذات، بحكم عدم توصل الاطراف حتى الان الى اتفاقات رسمية أولية، الا أنه من الخطأ تجاهل قيمة وفعل التحول الذي حصل في مواقف معظم الاطراف المشاركة في المفاوضات وأثر ذلك على المسار الراهن واللاحق للمفاوضات.

وبتفحص عناصر ومقومات قوة الدفع التي روكمت حتى الان يمكن تثبيت العناصر التالية:
– وقوع تحول في مواقف الاطراف من العملية وتبدل في نظرتها لها. فسقوط شامير ونزوله من قطار السلام وصعود رابين وحزب العمل بدلا منه يجسد بعضا من هذا التبدل الهام. والذي يعني في حده الأدنى نزول راكب أساسي (مشاغب) كان يسعى لعرقلة وتعطيل المسيرة وصعود راكب جديد يتحدث عن ضرورة مواصلة المسيرة وضرورة تقدمها، وهو مضطر بالحد الأدنى لأن يوازن بين أقواله وسلوكه العملي. ومثل هذا التوازن يضمن عدم المشاغبة على الحركة. ويمكن أيضا رصد أن التبدل في المواقف والنظرة قد طال الجانب الفلسطيني والاردني والسوري ومعه اللبناني. فبدراسة المشاريع التي تقدم بها الجانب الفلسطيني يمكن تلمس تنامي شعور فلسطيني وخاصة عند القيمين على عملية المفاوضات بامكانية ليس فقط تجنب خسائر محققة بل وامكانية فعلية لتحقيق بعض الانجازات في الاهداف الاولية الهامة، والتي قد تساهم في تحسين أوضاع وظروف الشعب الفلسطيني داخل الارض المحتلة، والتقليل من معاناته المتنوعة بسبب الاحتلال، وتحسين ظروف وامكانات متابعة النضال لاحقا من أجل الاهداف الاساسية. ومثل هذا التبدل في الموقف والنظرة للمفاوضات يسهم ولا شك في اعطاء العملية قوة دفع ذاتية اضافية، فهو يبدل ويغير الموقف الفلسطيني من عنصر كان يتحرك بفعل الضغط الخارجي الى عنصر تتوفر فيه مقومات الاندفاع الذاتي نحو القيام بحركة نشطة وفاعلة تدفع بالمسيرة خطوات الى الامام.
– تجاوز حالة التردد والتحفظ التي طغت على الجولات الاولى من المفاوضات. وأظن ان دخول الاطراف في مناقشات القضايا الجوهرية كما يجري الان في الجولة السادسة من المفاوضات، وتقديم المشاريع والمشاريع المضادة يعطي أيضا ميكانيزم وآلية عمل تسهم في خلق قوة دفع ذاتية متنامية باستمرار. وكل ذلك يعزز ولا شك قوة الدفع الخارجية والتي ستبقى بمثابة العنصر الحاسم في حركة عملية السلام الجارية ما لم تتوصل الاطراف الى اتفاقات ملموسة ومقبولة. وقادرة على تحويل الرغبة في السلام الى حركة وفعل ذاتي قوي يخفف من الاعتماد على الدفع الخارجي.

بعد هذا التلخيص لخصائص العملية السياسية الجارية منذ عام ولتظهير ميزاتها عن سواها من العمليات والمحاولات التي سبقتها، يمكن القول انها تكمل بعضها البعض، وتشكل مجتمعة سورا قويا ومرتفعا يصعب على الاطراف المشاركة في المفاوضات والمعنية بالتوصل الى تسويات اختراقه او القفز عنه والفرار منه الى خارج حلبة الصراع. واعتقد أن صمود هذا السور (الخصائص) سنة كانت الاعقد والاصعب، يمكننا القول أن عبور المفاوضات ذكراها الاولى بنجاح شق الطريق ومهدها لتحيا عامها الثاني كاملا. وهي بخصائصها وميزاتها تعفي مثل هذا التقدير من الاتهام بأنه درب من الخيال.
ج
القسم الثاني

مسيرة المفاوضات في الجولات السابقة

أولا – م.ت.ف ودورها في المفاوضات:
لعل من الضروري قبل الدخول في البحث في استراتيجيات التفاوض التي اتبعتها الاطراف منذ بدء عملية السلام وحتى الان التأكيد على أن المفاوض الفعلي عن الطرف الفلسطيني كان ولا زال م.ت.ف. ولا نذيع سرا اذا قلنا أن قيادة م.ت.ف اشرفت على كل جلسات المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، وقبلها المفاوضات التمهيدية الامريكية الفلسطينية من ألفها الى يائها. وهي بالتالي المسؤولة راهنا ولاحقا وتاريخيا عن كل النتائج التي سوف تسفر عنها المفاوضات، وعن كل خطط واستراتيجيات التفاوض التي عمل بموجبها الوفد الفلسطيني الى مفاوضات السلام منذ الجولة الاولى وحتى الان.

فبيكر يعرف وشامير كان يعرف ان كل اللقاءات التمهيدية الفلسطينية الامريكية التي تمت في مرحلة المفاوضات التمهيدية تمت بموافقة م.ت.ف وان كل ما تمخض عن تلك المفاوضات من رسالة الدعوة مرورا برسالة التطمينات وصولا الى تشكيل وفد مدريد تم بقرارات رسمية من قيادة م.ت.ف. ولا نظن أننا بحاجة لتوكيد هذه الحقيقة باستحضار شواهدها المتعددة والمتنوعة بدءا من سفر الوفد من مدريد مرتين الى تونس والجزائر خلال فترة أعمال المؤتمر والتي لم تتجاوز الاسبوع وصولا الى آخر زيارة علنية قام بها بتاريخ 10 ايلول الجاري د. حيدر عبد الشافي الى تونس مع عدد من اعضاء الوفد حيث شاركوا في اجتماعات رسمية للقيادة الفلسطينية وعادوا الى واشنطن حاملين معهم توجيهات محددة من القيادة الفلسطينية. وفي هذا السياق تجدر الاشارة الى أن موقف الراعي الامريكي من هذه المسألة قد تراوح بين الموافقة الصامتة، والتشيجع في بعض الاحيان، وتقديم التغطية اللازمة لها وبين محاولة فرملتها واعتبارها عملا لا يساعد في تقدم عملية السلام، كما ورد في تصريح ناطق رسمي امريكي تعليقا على لقاء الوفد بصورة علنية ومصورة مع رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في عمان بتاريخ ….. اما شامير فقد تعامل مع المسألة وفقا للشكليات القانونية. ولم يشأ أن يجعل منها قضية تفجيرية. وأغلب الظن أن موقفه هذا كان نتيجة للتدخلات الامريكية واستجابة لطلبها.

ونظرا لخصوصية دور م.ت.ف في المفاوضات من المفيد القول ايضا ان القيادة الاسرائيلية السابقة والحالية تعرف ان عددا من اعضاء الوفد الرسميين هم اعضاء قياديين في فصائل اساسية في م.ت.ف (حركة فتح، الجبهة الديمقراطية/التجديد، حزب الشعب الفلسطيني/الشيوعي سابقا).
ولفهم مسار الموقف التفاوضي الفلسطيني لربما كان ضروريا توضيح آلية وميكانيزم العلاقة بين الوفد والقيادة الفلسطينية، وايضا الكيفية التي ادارت بها م.ت.ف المفاوضات.
قبل سفره الى مدريد طالب الوفد الفلسطيني قيادة م.ت.ف اصدار قرارات رسمية وكتب تكليف رسمية لكل عضو من اعضاء الوفد. انطلاقا من فهمهم لطبيعة المهمة الموكلة لهم، وشعورهم بثقل المسؤولية عنها. أما قيادة م.ت.ف فقد تعاملت مع المفاوضات باعتبارها (معركة مصيرية وحاسمة) أصعب واخطر من كل المعارك السابقة التي خاضها شعب فلسطين. وانطلاقا من هذا الفهم حرصت قيادة م.ت.ف على العودة الى المؤسسات التشريعية (مجلس وطني، مجلس مركزي) لاتخاذ القرارات الاساسية. كما حرصت ايضا على عقد العديد من الاجتماعات الموسعة للقيادة الفلسطينية(10) لمناقشة مسار المفاوضات. وشكلت لجنة عليا لمتابعة المفاوضات (11) بصورة يومية ودائمة. كما شكلت لجان(12) قيادية تشرف على عمل الوفود في مواقع التفاوض وتنظم صلتها مع اللجنة العليا للمفاوضات. ومن خلال هذا التنظيم تمكنت قيادة م.ت.ف من احكام اشرافها وقيادتها المباشرة لكل العملية التفاوضية بما في ذلك تقرير أدق وأصغر التعديلات في خطط وأوراق التفاوض.
ثانيا – تقييم المفاوضات في مراحلها الثلاث:
بمراجعة وثائق المفاوضات الاسرائيلية العربية والفلسطينية الاسرائيلية يتبين انها مرت في ثلاث مراحل اساسية. الاولى يمكن وصفها بالتمهيدية وهي تلك التي تمت بصورة غير مباشرة وعبر الوسيط الامريكي بيكر. ويمكن تأريخها من أول جولة قام بها الوزير بيكر لدول المنطقة وحتى افتتاح مؤتمر السلام في مدريد في 30 اكتوبر 91.
أما المرحلة الثانية فيمكن وصفها بمرحلة حوار الطرشان، عقدت خلالها الوفود العربية الاسرائيلية والفلسطينية الاسرائيلي خمس جولات كاملة من المفاوضات دون نتيجة ملموسة تذكر. ويمكن تثبيت تاريخها منذ ما بعد افتتاح مؤتمر مدريد وحتى الانتخابات الاسرائيلية وخروج الليكود من الحكم. اما المرحلة الثالثة فهي التي بدأت مع صعود حزب العمل بزعامة رابين للسلطة وبدء دخول الاطراف في المفاوضات الجدية.
وبدراسة مواقف الاطراف في المراحل الثلاث يتبين ان لكل مرحلة منها سماتها وميزاتها الخاصة التي اكتسبتها من المنطلقات والاهداف الخاصة التي حددتها الاطراف لذاتها، وسعت لتحقيقها عبر خطط واستراتيجيات تفاوضية خاصة بالمرحلة. وفي هذا الاطار يمكن رصد سلوك ومواقف الاطراف في كل مرحلة من المراحل الثلاث على النحو التالي:
أ- المرحلة التمهيدية (الأولى):
1. الموقف الامريكي: ليس سهلا الاجابة الان على سؤال هل كان الوزير بيكر واثقا من نجاح مبادرته في جمع الاطراف على مائدة المفاوضات مدة عام كامل؟ ام ان شكوكا معينة ساورته خلال تحركاته التمهيدية؟. وبغض النظر عن الجواب فالمؤكد لنا ان الجهود التمهيدية التي بذلها الوزير بيكر قد أسست لعملية سلام سارت في مساريها اللذين حددا لها، وعقدت جولاتها بتواصل وانتظام وحسب التوقيتات الامنية التي حددت لها. ولا مغامرة في القول أنها قابلة للتواصل والتعمير فترة أطول. وبمراجعة مواقف الادارة الامريكية في تلك المرحلة يمكن تسجيل التالي:
– كان الهم الاساسي والهدف الرئيسي للوزير بيكر هو ايصال واستدراج كل اطراف الصراع الى غرف وطاولات المفاوضات، مراهنا على Process العملية ذاتها في تطوير وتقريب المواقف المتنافرة للاطراف. ورغم تقديمه لنفسه كوسيط أمين الا أنه لم يتورع من اجل هذا الهدف في الضغط على الطرف الضعيف (الفلسطيني) وارغامه على تقديم التنازلات. ألزمه بحضور ناقص عن الاخرين واعتباره جزء من وفد مشترك اردني فلسطيني. وفرض عليه الدخول في مفاوضات هدفها الوصول الى حل على مرحلتين الاولى تدوم سنتين والثانية تدوم ثلاث سنوات من المفاوضات. وفي المرحلة الاولى لا تبحث مسألة القدس، ولا يشارك ممثلين عنها على طاولات المفاوضات..الخ من الشروط والاسس المجحفة(13) التي تضمنتها رسالة الدعوة وكل ذلك بهدف اقناع شامير واستدراجه الى طاولة المفاوضات.
– منذ البداية حرص الوزير بيكر على افهام كافة الاطراف بأنه ليس مسموحا لأحد سواه التحكم في مسار العملية، وثبت في وثائقها الاساسية ما يؤكد ضرورة امتناع المشاركين عن القيام بأية اعمال خلال المفاوضات تؤثر على سيرها او على نتائجها النهائية. وفي نص آخر ألزم نفسه بانجاح العملية(14). وثبت نيته وحددها بصورة رسمية وحاسمة (نيتنا ونية الاتحاد السوفياتي في لعب دور القوة الدافعة في هذه العملية لمساعدة الاطراف على التقدم في اتجاه سلام شامل رتط). ولعل مشاركة الرئيس بوش شخصيا مع الوزير بيكر والرئيس السوفياتي (السابق) ميخائيل غورباتشوف كان بمثابة رسالة تأكيد من الادارة الامريكية على التزامها بهذا الدور المسؤول عن توجيه عملية السلام.
صحيح ان الوزير بيكر لم يستطع فرض حضور الادارة الامريكية على طاولة المفاوضات كما كان حاصلا في المفاوضات المصرية الاسرائيلية في كامب ديفيد، لكن مسار المفاوضات اكد ان غياب الراعي الامريكي عن طاولة المفاوضات لم يقلل من دوره في التأثير فيها.

2. الموقف الاسرائيلي: عندما أطلق الرئيس بوش مبادرته في 6/3/91 وبدأ الوزير بيكر حركته كانت اسرائيل من الناحية الاستراتيجية في أفضل الاوضاع والمواقف الامنية والسياسية وفي مجال الطاقة البشرية. فأعدائها العرب مهزومين ومنهكين من حرب الخليج، مفككين متصارعين فيما بينهم. وخصمها حليف أعدائها (الاتحاد السوفياتي) يعيش حالة تفكك وانهيار دراماتيكي. ومئات الالوف من لمهاجرين الروس والاثيوبيين ينتظرون رحلات اساطيل الطيران للرحيل الى اسرائيل. ولذا يمكن القول ان شامير لم يكن في وارد المشاركة ناهيك عن المبادرة في التحرك نحو صنع سلام لا مع العرب ولا مع الفلسطينيين. ولهذا استقبل شامير مبادرة الرئيس بوش والزيارات الاولى للوزير بيكر بكثير من البرودة والفتور. واستغل تلك اللقاءات للحصول على ثمن سكوته ابان حرب الخليج وثمن الاذى الذي ألحقه صدام بهيبة وسمعة اسرائيل.. وبوضعها المعنوي، مركزا على مسألة هجرة اليهود السوفيات ودور الولايات المتحدة في نقلهم وفي تأمين مستلزمات حياتهم في اسرائيل. ولم يبخل الوزير بيكر في التجاوب مع طلبات شامير، ليس فقط لاستدراجه للدخول في عملية السلام بل باعتبار ذلك جزءا من التزامات الادارة الامريكية تجاه اسرائيل حليفها الاستراتيجي في المنطقة. اما ازاء موضوع المفاوضات فقد انتهج شامير منذ البداية سياسة تقوم على وضع العرب والفلسطينيين امام احد خيارين اما الخضوع والرضوخ لشروطه والدخول في المفاوضات وفقا لاسس وقواعد يرضى عنها، او رفض المشاركة وافشال محاولة الوزير بيكر مع تحمل نتائج وتبعات ذلك. وأغلب الظن انه كان يفضل دفع العرب نحو الخيار الثاني عملا بالحكمة القائلة “الباب الذي يجلب الريح سده واستريح”.
وبمراجعة رسالة الدعوة وكتاب التطمينات الامريكية الذي قدمه الوزير بيكر يمكن القول ان شامير حصل على ما يريد، وانتزع أقصى قدر ممكن من الشروط (ورد ذكر بعضها سابقا) بما في ذلك تقليص دور أوروبا الى أبعد حد ممكن، واستبعاد دور الامم المتحدة كليا. ووعود امريكية بالعمل على دفع بعض الدول الاساسية لاعادة علاقاتها الديبلوماسية مع اسرائيل مثل الصين والهند وسواها. ولعل قول شامير نفسه بعد فشله في الانتخابات الاسرائيلية (لو نجح الليكود في الانتخابات لاستمرت مفاوضات الحكم الذاتي عشر سنين وتم خلالها توطين مليون مهاجر يهودي في الضفةو القدس والقطاع) يكشف بوضوح حقيقة موقف شامير خلال المرحلة المفاوضات التمهيدية وما تلاها من مراحل لاحقة.

3) الموقف الفلسطيني في المفاوضات التمهيدية:
مع بداية المفاوضات وعلى العكس من شامير، ابدى الجانب الفلسطيني موقفا ايجابيا من رغبة الادارة الامريكية حل قضايا المنطقة وفي الوصول الى استقرار دائم فيها. فقد رحبت م.ت.ف رسميا بمبادرة الرئيس بوش(15). ورغم التباين الفلسطيني الداخلي حول اللقاء مع الوزير بيكر الا أن تعليمات القيادة (16) الفلسطينية للاخوة المعنيين داخل الاراضي المحتلة كانت ايجابية، حملت الموافقة على اللقاء ومعها الموقف المطلوب طرحه على الوزير بيكر.
وقبل اللقاء كان الجانب الفلطسيني يدرك أنه الطرف الأضعف بين كل الاطراف المطلوبة للمشاركة في عملية السلام التي دعت لها الادارة الامريكية. لكنه كان يعرف في الوقت ذاته ان لا مصلحة لعدوه في الدخول في عملية السلام. وكان يلمس ويرى ضخامة خطر سرطان الاستيطان خاصة بعدما فشل في اقناع الاتحاد السوفياتي (سابقا) بوقفها او الحد منها. وكان يرى بعينيه ويلمس بيده حالة التفكك العربي وتراجع الدفاع عن القضية الفلسطينية. في ظل هذا الوعي والادراك دخل الجانب الفلسطيني المفاوضات التمهيدية، واستجمع كل اوراق قوته للتقليل من تأثير نقاطه الضعيفة على موقفه التفاوضي في تلك الفترة. استرجع وأحيا ورقة قرارات الشرعية الدولية وتمسك بها وطالب الادارة الامريكية وكل المجتمع الدولي بتنفيذ قرارات الامم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية وخاصة القرارين 242 و 338. وطالبها بالكيل بمكيال واحد لا مكيالين في التعامل مع قرارات الشرعية الدولية مستفيدا من “الدفاع الباسل” والتنفيذ الشجاع الذي أبدته الادارة الامريكية في الدفاع عن القرارات التي أصدرها مجلس الامن ضد العراق.
والى جانب ورقة الشرعية الدولية أبرز الجانب الفلسطيني ورقة عدالة قضيته، وورقة الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني على مدى نصف قرن من الزمن تحت بصر وسمع الادارة الامريكية وكل دول العالم. واستثمر بصورة جيدة ارتفاع وتيرة الحديث الدولي بضرورة الدفاع عن الديمقراطية وعن حقوق الانسان، وطالب كل المدافعين عنها او المنادين بذلك بأن يقوموا بالحد الأدنى من واجباتهم في مواجهة الارهاب الفاشي الاسرائيلي الذي يمارسه جيش الاحتلال ضد الاطفال والشيوخ والنساء. وأن يبذلوا كل جهد ممكن ومستطاع لمساعدة الشعب الفلسطيني في انتزاع حقوقه مثله مثل بقية بني الانسان.
والى جانب هاتين الورقتين حول الطرف الفلسطيني رغبة الادارة الامريكية في الوصول الى استقرار دائم في المنطقة الى ورقة قوة استثمرها في مفاوضاته مع الوزير بيكر. موضحا له ان مفتاح الامن والسلام والاستقرار في المنطقة هو حل القضية الفلطسينية حلا عادلا ودائما وشاملا. مبينا وبالوقائع القريبة والبعيدة ان الحلول الاخرى لن تكون سوى مسكنات مؤقتة لاتنهي آلام شعوب المنطقة ولا تصنع الاستقرار. ولم ينسى الجانب الفلسطيني اشهار سيف الانتفاضة وتواصلها شهور وسنوات طويلة، مستثمرا هذه الورقة القوية وبقية الاوراق المذكورة في انتزاع ما يمكن انتزاعه من أسس وشروط تخدم موقفه في المفاوضات. وأيضا رفض قبول كل ما يمس حقوقه وأهدافه المباشرة أو اللاحقة، أو يؤثر سلبا على مسيرته النضالية الراهنة او اللاحقة من أجل الوصول لها. أي مالم يستطع أخذه الآن تعليق البت به وتأجيل بحثه لفترة لاحقة. مع الاحتفاظ بكامل الحقوق ومن ضمنها حق المطالبة اللاحقة بها.
حقا لقد خاض المفاوضون الفلسطينيون معركة التمهيد لمؤتمر السلام ببسالة، واظهروا جانبا كبيرا من الكفاءة، وكانوا محامين أقوياء لقضية محقة وعادلة. ومن باب ذكر الحقيقة والانصاف يسجل لهم أنهم استطاعوا تعريف الوزير بيكر بكثير من أبعاد وحقائق قضيتهم التي لم يكن على اطلاع كامل عليها. واستخلصوا بتواضع درسا مفاده يخطيء كل من يعتقد أن العالم على اطلاع ومعرفة كاملة بأبعاد وجذور القضية الفلسطينية بما في ذلك أعلى المستويات المقررة. وان جهودا جبارة لا بد من بذلها من قبل أصحاب القضية أنفسهم لتعريف العالم بعدالة قضيتهم. وتجدر الاشارة ايضا الى أن أية نواقص أو ثغرات قد تبرز اليوم أو غدا في أسس الدعوة وقواعدها كما وردت في رسالة الدعوة وكتاب التطمينات لا يتحمل مسؤوليتها المفاوضون الذين التقوا الوزير بيكر وانما قيادة م.ت.ف. فكل المفاوضات التمهيدية تمت باشراف مباشر من قبلها وكل الأوراق والمستندات استلمت بعد موافقتها عليها.
وفي اطار الحديث عن ما تمكن مفاوضوا المرحلة التمهيدية من تثبيته وما عجزوا عن تثبيته يمكن ادراج التالي: اضطروا للقبول بأن يكون الحل على مرحلتين(17)، لكنهم ثبتوا ترابطهما وتكاملهما. قبلوا مكرهين بالعمل ضمن صيغة الوفد المشترك، لكنهم ثبتوا حقهم في تسمية الوفد دون تدخل من أحد وثبتوا أيضا مسارا فلسطينيا مستقلا. قبلوا أن تسير العملية في مسارين ثنائي ومتعدد الأطراف لكنهم ثبتوا ترابط وتكامل مسيرة المسارين من بداية العملية وحتى نهايتها. قبلوا سلطة انتقالية، مؤقتة لكنهم ثبتوا انتخابها وثبتوا حقهم (في السيطرة على قراراتهم السياسية والاقتصادية وغيرها من القرارات التي تمس حياتهم ومصيرهم رتط).
لم يستطيعوا انتزاع موقفا واضحا بوقف الاستيطان خلال المفاوضات(18) لكنهم ثبتوا موقفا أمريكيا يعتبر الاستيطان عملا يعرقل مسيرة السلام، وموقفا امريكيا يقول بأنها ضد قيام أي طرف بأعمال تؤثر على النتيجة النهائية للمفاوضات.

%

ب- المرحلة الثانية : حوار الطرشان

1) الموقف الاسرائيلي:
بعد سقوطه في الانتخابات كشف شامير بكل وضوح عن السر والاسباب التي جعلت خمس جولات من المفاوضات تبقى تراوح في مكانها، ووصولها في نهاية الجولة الخامسة الى طريق مسدود. حيث قال شامير لجريدة معاريف انه كان يخطط لأن تستمر مفاوضات الحكم الذاتي عشر سنين، ويخطط لاسكان مليون مهاجر في اراضي الضفة والقطاع خلال ذات الفترة. وربما كان يخطط أيضا لتهجير مليون فلسطيني وهذا ما لم يفصح عنه. ومن باب الامانة لا بد من تقديم شهادة لروبنشتاين (رئيس الوفد الاسرائيلي في المفاوضات مع الوفد الفلسطيني والوفد الاردني) بأنه كان ناجحا بل وبارعا في ترجمة نوايا شامير داخل غرف المفاوضات، وتقديم شهادة اخرى ايضا للسيد يوسي بن أهارون رئيس الوفد الاسرائيلي (السابق) في المفاوضات مع الوفد السوري بأنه لم يكن اقل براعة ونجاح من زميله روبنشتاين. وفي سياق ترجمته الامينة لنوايا ورغبات شامير استحضر روبنشتاين كل خبراته التفاوضية العريقة وخاصة تلك التي اكتسبها في كامبد ديفيد واستنفر كل ملكاته وبراعته باتجاه:
– دفع المفاوض الفلسطيني والمفاوض الاردني الى الانسحاب من العملية وتحمل مسؤولية ذلك امام راعيي المؤتمر وامام الرأي العام العالمي المنادي بالسلام العادل في الشرق الاوسط، وأمام كل الاطراف المشاركة في المفاوضات. وفي محاولته تحقيق هذا الهدف لم يتورع روبنشتاين الخروج عن اللياقة وعن أصول الحديث في المفاوضات، بل وحاول التواقح في الكلام أكثر من مرة وفي أكثر من جولة على أمل استفزاز المفاوض الفلسطيني والاردني ودفعهما للوقوح في فخ الانسحاب او تعليق المفاوضات. وفي السياق ذاته أبدع واكثر روبنشتاين من تقديم الاوراق والمشاريع الشكلية التي لا تتضمن الحد الاقصى في الموقف الاسرائيلي وحسب بل وبلغة استفزازية وعنجهية وبمضامين لا تترك مجالا للحور والنقاش. ولا أظن أن من الضروري مراجعة تلك الاوراق التي تقدم بها روبنشتاين في الجولات السابقة بعدما أصبحت جزءا من أرشيف تاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وشاهدا على رفض حزب الليكود للسلام. ولدفش المفاوض الفلسطيني نحو اليأس والاحباط والخروج من المفاوضات تعمد روبنشتاين التطاول على أسس الدعوة وقواعدها المثبتة في رسالة رسمية. فسر بعض نصوصها الواضحة وفقا لمزاجه وبصورة لا تمت للمنطق بصلة. وحاول في أكثر من جلسة وجولة أن يظهر عجز الراعي عن التدخل. ولعل اغراق الجولة الاولى والثانية من المفاوضات في مناقشات عقيمة حول وجود مسار فلسطيني مستقل خير نموذج على كل ذلك.
– بعد فشله في دفش الوفد الفلسطيني والاردني نحو الانسحاب واصل روبنشتاين تكتيكه واضاف عليه اساليب وتكيكات جديدة نجحت في تضييع الوقت وقتله. وفي هذا السياق اكثر من ثرثرته واطال خطبه الخالية من كل شيء له علاقة بالمفاوضات. تفنن في اغراق المفاوضات في قضايا فقهية وتاريخية، أجاد النطنطة وعطل كل محاولة لتركيز البحث والنقاط حول اية قضية محددة. وبهذا الاسلوب نجح في قضم تسع شهور كاملة من المفاوضات وفي أكل خمس جولات كاملة من المفاوضات وابقاها تدور في حلقة مفرغة وحولها الى مفاوضات من اجل المفاوضات.
– ومع محاولاته دفع المفاوضين الفلسطينيين والاردنيين الى الخروج والانسحاب من العملية، ومحاولات قتل الوقت حرص المفاوض الاسرائيلي في كل جولات المرحلة الثانية على اظهار التزامه وتمسكه برسائل الدعوة والتطمينات المقدمة لاسرائيل. وحرص اكثر على كسب ود ورضى الراعي الامريكي والظهور بمظهر الجاد في المفاوضات والحريص على دفعها خطوات الى الامام. الا أن فجاجة مواقفه ولا موضوعيتها لم تساعده في اخفاء نواياه الحقيقية في شل وتعطيل المفاوضات. وبسبب من جموده العقائدي وتحجر مواقفه التفاوضية لم يستطع المفاوض الاسرائيلي في أواخر هذه المرحلة من المفاوضات التكيف او الانسجام مع نصوص الدعوة وبعض الاسس الواردة فيها. ولم يستطع ايضا قبول بعض آراء ومقترحات الراعي الامريكي، مما أدى الى اضطراره على مقاطعة لجنتين من لجان المؤتمر المتعدد الاطراف، والى التصادم المكشوف مع الراعي الامريكي حول مسألة الاستيطان وضمانات القروض.
2) الموقف الفلسطيني في المرحلة الثانية:
لعل من الضروري قبل مراجعة الموقف الفلسطيني في هذه المرحلة الاشارة الى مسألتين ربما كان لهما بعض الاثر على الموقف التفاوضي الفلسطيني:
أ. ان المفاوض الفلسطيني دخل المفاوضات المباشرة مع عدوه وهو لا يملك أية خبرة تفاوضية سابقة. ولا يستند الى أي تراث فلسطيني في مجال المفاوضات. فتاريخ الشعب الفلسطيني يخلو من ذلك، فقد حرم الفلسطينيين على امتداد سبعين عاما من الصراع مع الحركة الصهيونية من بناء كيانهم المستقل ولم تسمح لهم الدول العربية لا تمثيل انفسهم ولا مفاوضة عدوهم، فاوضوا نيابة عنهم وقرروا بدون وكالة منهم.
ب. دخل المفاوضات وهو مدرك للغبن الكبير الذي ألحقته رسالة الدعوة بتمثيله. وهو شاعر ايضا بأنه يدخلها ليواجه المحقق والسجان الذي لا زال يعتقل شعبه. فهو يفاوض والاحتلال يطارده ويضايقه وقائم فوق ارضه. ولعل ابرز ما تميز به الموقف التفاوضي الفلسطيني في هذه المرحلة:
– مواجهة المواقف الاسرائيلية المتطرفة والمتعنتة بمواقف مشابهة بل واكثر تطرفا وتعنتا منها في بعض الاحيان مما أظهره في الجولة الاولى والثانية من مفاوضات واشنطن بأنه الاكثر خروجا على رسالة الدعوة وعلى اسس مؤتمر السلام. خاصة عندما رفض الدخول الى قاعة المافوضات لمجرد احساسه بمحاولة روبنشتاين المس بالمسار الفلسطيني-الاسرائيلي. تمترس في ممرات مبنى وزارة الخارجية الامريكية في محاولة لتثبيت الوفد الفلسطيني كوفد مستقل عن الوفد الاردني الفلسطيني المشترك. ولتثبيت المسار الفلسطيني-الاسرائيلي كمسار مستقل تماما عن المسار الاردني الفلسطيني-الاسرائيلي.
– حرص على الاكثار من تقديم المشاريع والمقترحات ولم يكتف بطرح الحد الاقصى بل حرص على تضمينها كلها جميع الثوابت والاهداف (19) الفلسطينية بدءا من حق العودة وقرار التقسيم رقم 181 لعام 47 مرورا بالدولة المستقلة وانتهاء بال PISGA. ولم يتردد في وضع شروط مسبقة والمطالبة بتنفيذها قبل الدخول في اية مناقشات وخاصة بعدما قرأ المواقف المتطرفة والقصوى في الاوراق الاسرائيلية ولمس تهرب الجانب الاسرائيلي من الدخول في مفاوضات جدية.
– تسلح بالصبر والصمود في مواجهة الاستفزازات والابتزازات التي تعرض لها داخل وخارج غرف المفاوضات على الجسور عند الدخول والخروج. وأتقن الاستعانة براعي المؤتمر وطالبه بالايفاء بالتزاماته(20) وبقي متمرسا خلف المواقف التي نصت عليها رسالة التطمينات الامريكية خاصة ما يتعلق منها بمسألة وقف الاستيطان وقضايا حقوق الانسان. ولعل أبرز ما تميز به الموقف التفاوضي الفلسطيني في هذه المرحلة هو الحرص على خوضه المعركة وكسب الرأي العام العالمي بكل أبعادها. وحرصه على ضبط ايقاع حركته داخل وخارج غرف المفاوضات وفقا لحركة الشارع الفلسطيني داخل وخارج الاراضي المحتلة.
– لم يستسلم لنصوص رسالة الدعوة الخاصة بعلاقته مع م.ت.ف وبقي يحاول اختراقها تحت شعار “ما لم تستطع تثبيته في النص افرضه في الواقع”. حرص على حصر علاقته بالوفود العربية الاخرى في حدود التنسيق وتشدد في ابراز استقلالية موقفه واستقلالية قراره، فشارك في لجان المتعدد الاطراف رغم مقاطعة سوريا لها. وقلص دور الوفد المشترك الاردني الفلسطيني الى أبعد الحدود الممكنة.

3) الموقف الامريكي في المرحلة الثانية:
بعد اجتياز المرحلة الاولى، ونجاح في جمع الاطراف حول طاولة المفاوضات، حرص الوزير بيكر على متابعة مفاوضات المرحلة الثانية بصورة شخصية ومباشرة، ولهذا جعل من واشنطن مقرا لجولاتها الخمس. ولعل دافعه في ذلك قناعته وادراكه بأن ما تأسس في المرحلة الاولى لا يوفر ضمانة كافية لتواصل العملية. وان امكانية تعرضها للانتكاس وحتى للانهيار لا زالت قائمة. لا سيما وانه كان “سيد العارفين” بأن معظم الاطراف المتورطة في الصراع المباشر وخاصة اسرائيل دخلت العملية شبه مكرهة. ويعرف أن بعضها لن يتورع عن تحين الفرصة للهروب منها اذا استطاع الى ذلك سبيلا.
وبمراجعة مسيرة المفاوضات في مرحلتها الثانية يمكن رصد الموقف الامريكي خلالها على النحو التالي:
– ركز جهوده باتجاه تواصل المفاوضات ومنع أي من الاطراف من الانسحاب او التجميد او التعليق. ولتحقيق هذا الهدف لجأ في كثير من الاحيان الى فرض مواعيد واماكن الجولات عندما وقعت خلافات حولها. وأظهر للاطراف كافة وباساليب وطرق متعددة بأن الانسحاب ممنوع، واستعان بضغط اصدقاء ها الطرف او ذاك عندما اضطر لذلك. هذا على الاقل وقع مع م.ت.ف. كما حرص على اظهار اصراره على تواصل العملية في مساراتها المحددة بأي ثمن وبمن حضر، ولهذا عقد المؤتمر المتعدد في الزمان والمكان المحدد له بالرغم من المقاطعة الكاملة لسوريا ولبنان. ومقاطعة اسرائيل للجنة التنمية الاقتصادية واللاجئين بسبب مشاركة الخارج الفلسطيني فيها.
– حرص على عدم لتدخل العلني والمباشر في المفاوضات، لكنه كان الغائب شكلا والحاضر فعلا في كل جلسة من جلساتها مؤمنا ذلك من خلال تكثيف اللقاءات الرسمية وغير الرسمية قبل وبعد الجلسات ومع كل الوفود.
ويمكن القول ان الدعوة لجولة واشنطن الاولى(21) هي المرة الوحيدة التي تقدم فيها الجانب الامريكي بمقترحات خطية تفصيلية ومحددة. وكل ما عدا ذلك كان يقدم بطريقة غير رسمية وفي صورة آراء ونصائح شفوية في اللقاءات المتعددة والمتنوعة التي عقدها مع الاطراف. ولاستكمال الصورة عن موقف الادارة الامريكية وفهمها لكيفية التفاوض ولكيفية تناول الاطراف لقضايا الخلاف لا بد من القاء نظرة سريعة على بعض ما ورد من نصوص رسالة الدعوة لجولة واشنطن الاولى واعتقد ان التدقيق في نصوصها يساعد ايضا في فهم بعض ما يجري الان او قد يجري لاحقا على طاولة المفاوضات. فدعوة واشنطن كانت اقرب الى جداول اعمال مقترحة من الادارة الامريكية لكل مفاوضة من المفاوضات.
فحول تصنيف قضايا المفاوضات بين اسرائيل والوفد الفلسطيني الاردني المشترك نصت على (في المفاوضات بين اسرائيل والوفد الاردني الفلسطيني توجد مجموعتان متميزتان من القضايا تحتاج الى المناقشة د.واش) وفي نص آخر ورد (ان مصلحة جميع الاطراف خلق قوة دافعة لاثبات ان المباحثات الثنائية المباشرة بامكانها ان تباشر بالانكباب على القضايا الاكثر اهمية لكم د.واش). وبشأن تناول بعض القضايا في المفاوضات الاردنية الاسرائيلية اقترحت الدعوة (لقد قامت الاردن بتبليغنا وكذلك من المفترح تبليغ اسرائيل بأن هناك عددا من القضايا الحدودية غير المتعلقة بقرار مجلس الامن 242 تحتاج الى المناقشة. نحن لا نرى ان سبب لعدم اثارة هذه القضايا مبكرا في المفاوضات لكي يتمكن الخبراء من مباشرة العمل لفحص مطالب كل طرف والخلفية التاريخية د.واش). وفي نص آخر قالت (تستطيع اسرائيل والاردن ان تبحث بشكل مجدي عددا من القضايا الثنائية الاخرى مثل طبيعة السلام، تسوية المشاكل المائية في خليج العقبة، الادارة المشتركة لمشاريع تطهير المياه الملوثة، الانتاج المشترك للبوتاس، السياحة، الطيران المدني وما شابه).
أما بشأن المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وقضاياها فقد ورد في دعوة واشنطن (في هذه المفاوضات يوجد اتفاق مشترك على ان المرحلة الاولى ستركز على ترتيبات حكم الذات الانتقالية د.واش). ونصت في مكان آخر (فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالضفة وغزة فنحن ايضا نفهم ان الفلسطينيين سيتصدرون ولكن سيرافقهم اردنيون كجزء من الوفد الاردني الفلسطيني المشترك د.واش). وفي مكان آخر تقترح تجنب مناقشة مطولة لبعض القضايا (نحن نرتأي بأن كل من اسرائيل والفلسطينيين يجب ان يتفاديا بقدر المستطاع نقاشا مطولا حول مباديء من نوع مصدر السلطة وطبيعة سلطة الحكم الذاتي الانتقالي د.واش). وفي موقع آخر قدمت الادارة مقترحات محددة بما يمكن ان تبادر الاطراف لتقديمه وتبادله في المفاوضات حيث نصت (يمكن ان توافق اسرائيل والفلسطينيين على ان يقدم كل منهما في هذه الجلسة او الجلسة المقبلة نموذجا مقترحا لسلطة الحك الذاتي الانتقالية د.واش). ولم تكتف الادارة الامريكية بتقديم المقترحات والتصورات حول قضايا النقاش وطريقة تناولها، بل مضت الى ما هو ابعد من ذلك، فقدمت في دعوة واشنطن تقييما لدور الوفد الفلسطيني في مدريد ونصيحة مجانية (ان الاختراق الذي حققتموه في مدريد قبل عدة اسابيع لا يجب السماح بتبديده د.واش).
– على قاعدة رسالة الدعوة وكتب التطمينات التي قدمها لمختلف الاطراف، حاول الجانب الامريكي على امتداد المرحلة الثانية من المفاوضات اظهار شيئا من الحزم وبعضا من التوازن وعدم الانحياز لاي طرف من الاطراف. محتفظا لنفسه بزمام المبادرة، ولم يتورع عن اتخاذ مواقف رسمية وتوجيه ملاحظات نقدية رسمية وبصورة علنية لخرق هذا الطرف او ذاك لرسالة الدعوة، وعندما كان خرقه ذو تأثير على استمرار العملية وتواصل المفاوضات. فعل ذلك مع اسرائيل عندما صعدت وكثفت من عملية بناء المستوطنات. وفعله ايضا مع الجانب الفلسطيني عندما لاحظ انه يهتم ويدير مسائل الاعلام على حساب قضايا المفاوضات. وكررها عندما التقى الوفد الفلسطيني مع الرئيس ياسر عرفات بصورة رسمية وعلنية متلفزة.
من هذا العرض لمواقف الاطراف (الاسرائيلي والفلسطيني والامريكي) خلال المرحلة الثانية من المفاوضات يتبين ان هذه المرحلة انتهت دون حدوث اي تقدم حقيقي لا في المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ولا في المفاوضات الاخرى. ورغم ذلك لا يمكن القول بأن جولات المفاوضات الخمس التي عقدت خلالها كانت مضيعة للوقت، لأن من غير الصحيح تجاهل اثر تواصل المفاوضات ثمانية اشهر في تكريس العملية السياسية كجزء من حياة دول المنطقة. وكواقع قائم يضغط يوميا على الجميع ويلح في طلب العلاج. صحيح ان الوفد الفلسطينية والعربية والاسرائيلية غادرت واشنطن في نهاية المرحلة الثانية في ظل أجواء متوترة جدا، لكن الصحيح ايضا انهما غادرا وهما ملتزمان باللقاء من جديد. وكليهما يعرف انه (تورط) او دخل عن قناعة في عملية سياسية دولية كبيرة ليس سهلا عليه الانسحاب منها. ولا أظن أن أي تقييم موضوعي لمفاوضات المرحلة الثانية يمكنه القفز عن الاثار والنتائج المباشرة وغير المباشرة التي تركتها على دول وشعوب المنطقة (سنأتي على ذلك لاحقا)، او تجاهل دورها في التمهيد للمرحلة التي تلتها.

ج – المرحلة الثالثة (بدء الاشتباكات الاتفاوضية) The Engagement:
اذا كان سقوط شامير وفوز رابين في الانتخابات الاسرائيلية هو تاريخ بدء المرحلة الثانية من المفاوات العربية والفلسطينية-الاسرائيلية، فالحديث عن هذه المرحلة سيكون بالضرورة عن 1) ممهدات الجولة السادسة، 2) وقائع ومجريات الجولة السادسة التي انتهت اعمالها منذ ايام قليلة.
1) مقدمات الجولة السادسة:
بغض النظر عن طبيعة وحجم الدور الامريكي في صنع التغيير الذي وقع في اسرائيل والذي ادى الى سقوط الليكود وفوز حزب العمل وميرتس، فالمؤكد ان الادارة الامريكية استقبلت هذا التغيير بارتياح كبير. وأظن ان لا جدال حول ان عملية السلام والموقف منها كانت في صلب المعركة الانتخابية في اسرائيل، وكان موضوع السلام مع العرب واحدا من ابرز القضايا التي على اساسها منح الناخب الاسرائيلي صوته لهذا الحزب او ذاك. وأظن أيضا أن لا جدال حول أن مسالة استيعاب المهاجرين الجدد، ومسألة ضمانات القروض الامريكية كانت هي الاخرى عنصرا حاسما من عناصر المعركة الانتخابية فحسب بل وعاملا مقررا في نتائج الانتخابات. وفي هذا السياق من غير الانصاف تجاهل دور الانتفاضة وتواصلها ما يقارب الخمس سنوات في احداث هذا التغيير في المجتمع الاسرائيلي. وذات الشيء ينطبق على السياسة الواقعية التي انتهجتها م.ت.ف والتي بدأت بمبادرة السلام الفلسطينية عام 88، وانتهت في المشاركة بعملية السلام، اذ يمكن القول ان الانتفاضة هي صانعة مبادرة السلام الفلسطينية وهي قوة الدفع التي حركت السياسة الفلسطينية الواقعية خطوات الى الامام، ونضيف بأنه لولا المشاركة الفلسطينية في عملية السلام لما وقع خلاف امريكي اسرائيلي حول ضمانات القروض ولما نشأت مشكلة في اسرائيل اسمها الاستيطان واستيعاب المهاجرين الجدد.

والحديث عن مقدمات المرحلة الثانية يتطلب ايضا استكشاف فهم الادارة الامريكية واطراف الصراع لمدلولات التغيير الذي وقع في اسرائيل وأثره المتوقع على عملية السلام. فبعد ظهور نتائج الانتخابات في اسرائيل رحبت معظم الاطراف العربية والدولية المشاركة في عملية السلام بصورة او باخرى بالتغيير الذي وقع في اسرائيل، ورأت فيه دفعة قوية لعملية السلام، وبنت مواقفها المتفائلة (بافراط او بتحفظ) على ما ورد في قرارات المؤتمر الاخير لحزب العمل الذي عقد قبل الانتخابات وما صدر من مواقف وتصريحات علنية عن رابين نفسه وكل مرشحي حزب العمل وميرتس في الانتخابات. والتي أكدت بمجملها على التمسك بعملية السلام وعلى الرغبة في تحقيق تقدم جدي باتجاه صنع السلام مع العرب وفي حينها جرى تخصيص للفلسطينيين.
اما الادارة الامريكية راعية العملية السلمية، فقد رأت في التغيير فرصة نادرة لدفع مبادرتها خطوات كبيرة الى الامام. ووجدت في نزول شامير (الراكب المشاغب) وصعود رابين (المطيع لها) فرصة للانطلاق في قطار السلام بسرعة اكبر ووفق حساباتها للمسافات التي ينبغي قطعها في كل مرحلة من مراحل الرحلة الطويلة والشائكة. وفي ضوء هذا الفهم وهذه الرؤيا سارعت الادارة الامريكية لتجديد حركتها المباشرة مع اطراف الصراع في المنطقة، حيث قام الوزير بيكر في منتصف تموز بزيارة للمنطقة شملت الدول والاطراف الرئيسية المؤثرة في تحديد وجهة وسرعة مفاوضات السلام. ولم يكن هدف بيكر من الزيارة فقط الترحيب بانضمام رابين لعملية السلام او تهنئة رابين نفسه بالنجاح، وانما لدفع التطورات المحتملة وتركيزها في الاتجاهات التي تخدم رؤياها واهدافها وحساباتها الزمنية. ولمنع أي طرف كان من (اللغوصة) بدفع الامور في اتجاهات متعاكسة او متعارضة مع ذلك. ويستطيع كل من تابع وراقب المواقف والتصريحات الامريكية خلال تلك الزيارة ان يستخلص بأن الادارة الامريكية راغبة في تحقيق انجاز (ما) ملموس. والوصول الى اتفاقات (ما) خلال الفترة القصيرة القادمة. ولترتيب ذلك من زاويته العملية بادر بيكر في حينها الى الاعلان (بدون علم الطليان) عن انعقاد الجولة السادسة من المفاوضات في واشنطن وحدد تاريخها في 24 اكتوبر الجاري. علما بأنه سبق للاطراف المتفاوضة وان اتفقت على روما كمكان بديل لواشنطن.
ولعل حديث الوزير بيكر في حينها مع اطراف الصراع ومن ضمنهم الوفد الفلسطيني الذي التقاه في القدس هو الذي دفع بالبعض للقول بأن بيكر يرغب في تحقيق انجازات ملموسة قبل 30 اكتوبر. وظهر من حديثه بأن ما يطمح له في ضوء التغيير في اسرائيل لا يتوقف عند حدود المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية كما كان ظاهرا في حينها او كما نصت توقيتات رسالة الدعوة والتطمينات، وانما يطمح ايضا في التوصل الى اتفاقات جزئية (ما) على الجبهات العربية الاخرى وخاصة الجبهة السورية واللبنانية. فقد قال بيكر في أحد لقاءاته “احمل رسالة رسمية مطمئنة من رابين الى الرئيس الاسد..” وقال ايضا للوفد الفلسطيني الذي قابله في القدس “جهزوا اوضاعكم الذاتية، وجهزوا شعبكم لاستقبال اتفاقات عملية وملموسة خلال فترة قريبة”.
ثم جاءت تصريحات رابين الايجابية حول المفاوضات ومفهومه لها، وضرورة ان تكون متواصلة لتعزز تفائل المتفائلين ولتثير مخاوف المعارضين لعملية السلام، وتبعها احاديثه الكثيرة عن عملية السلام وعن امكانية التوصل لاتفاقات ملموسة مع الفلسطينيين، ولم يتردد رابين من تحديد مواعيد زمنية للاتفاق حول سلطة الحكم الذاتي الانتقالية وحول الانتخابات وسواها. ولعل توقيت زيارته للولايات المتحدة الامريكية قبل بدء الجولة كان بمثابة الاشارة القاطعة عند البعض بأن الاتفاقات قادمة. وان رابين ذهب لطبخها في واشنطن.
2) مجريات المفاوضات في الجولة السادسة:
في ظل هذه الظروف والمعطيات الايجابية الجديدة تحركت الوفود العربية الى واشنطن، وليس سرا القول ان الوفد الفلسطيني ذهب الى الجولة السادسة ومعه كل الملفات الضرورية لجولة شهر ك امل من المافوضات وأنه أخذ بعين الاعتبار كل الاحتمالات المتوقعة بما في ذلك امكانية تحقيق تقدم جدي وملموس حول بعض القضايا الجوهرية المطروحة على طاولة المفاوضات.
والان وبعد انتهاء الجولة السادسة من المفاوضات، يتردد في كل الاوساط السياسية السؤال التالي: هل أغلقت الجولة على لا شيء؟؟ وهل كانت نتيجتها مثل سابقاتها؟ . وفي مجال الاجابة على السؤال وفقا لما صدر عن الوفود ولما رشح من غرف المفاوضات يمكن رسم صورة أولية للجولة السادسة كبداية للمرحلة الثالثة من المفاوضات على النحو التالي:

أ – محور المفاوضات السورية الاسرائيلي:

بالرغم من التصريحات التي صدرت عن الوفدين وخاصة تصريح رئيس الوفد السوري، والذي اعلن فيها عن وصول المفاوضات السورية الاسرائيلية الى طريق شبه مسدود، وطالب الراعي الامريكي بالتدخل لانقاذها، الا أن ذلك لا ينفي أن تقدما نسبيا حصل في شكل ومضمون هذه المفاوضات. فاستبدال رئيس الوفد الاسرائيلي كان بمثابة أول اشارة بامكانية حدوث تغير في اسلوب وتكتيك التفاوض الاسرائيلي مع السوريين.

أما التقدم النسبي فهو ما ظهر في المواقف الجديدة التي تضمنتها الاوراق الرسمية التي تبادلها الطرفين. فالمعلومات المتوفرة تفيد أن الورقة الاسرائيلية نصت على (تقبل اسرائيل قرار مجلس الامن 242 بجميع اجزائه كأساس لعلمية السلام الراهنة، وتعتبره ينطبق على مفاوضات السلام مع سوريا. وفي نفس الوقت لا نعتبر الغرض من المفاوضات هو مجرد التركيز على صيغ تطبيق قرار مجلس الامن 242. ان موقفنا هو ان المفاوضات يجب ان تعكس الارادة السياسية لكلا الطرفين لعقد سلام بين دولتينا ولتحويل هذه النية السياسية الى معاهدة سلام مع الاستعداد لمناقشة كافة المواضيع والتصميم على تسوية كافة الخلافات في الرأي).

وفي موقع آخر نصت على (.. أن قرار 242 يتضمن صياغة حول الاستيلاء على الارض بواسطة الحرب). وأضافت الورقة الاسرائيلية (من جهتنا نعتبر الوضع القائم في الجولان منسجما مع أعراف الشرعية الدولية الى حين التوصل الى اتفاقية..). أما بشأن موضوع الانسحاب فقد نصت الورقة الاسرائيلية على أن (مسألة الانسحاب من “أراضي” والتي تشكل جزء من القرار سنتعاطى معها كبند على جدول الاعمال عندما نناقش مسألة الحدود والأمن والمعترف بها بين سوريا واسرائيل كما ينص عليها القرار ذاته).

وحول مفهوم اسرائيل للحل تقول الورقة (من أجل ضمان أن السلام الذي سنتوصل اليه فيما بيننا سيكون قابلا للديمومة وسيدوم نؤكد أنه يجب ان يجسد في معاهدة تفصيلية قائمة بذاتها كخطوة كبرى في توجهنا المشترك نحو حالة من السلام الشامل في المنطقة).

وبتمعن النص يتبين طبيعة التغيير الذي طرأ على الموقف الاسرائيلي في هذه الجولة على هذا المحور من المفاوضات. فالمعروف ان سلوك ومواقف المفاوض الاسرائيلي في عهد شامير لم تتعدى حدود استفزاز الجانب السوري، فلم تكن الجولات الخمس السابقة سوى حوار الطرشان. أما الجولة السادسة فقد حملت مواقف اسرائيلية قابلة للبحث والنقاش وعروضا جدية تقوم على اساس بناء معاهدة سلام سورية-اسرائيلية وفق مبدأ “الارض مقابل السلام” المتضمن في القرار 242 واقامة ترتيبات امنية دائمة تحمي الحدود وتصون الاتفاقات.

والتغيير النسبي في هذه الجولة على هذا الصعيد لم يقتصر على الموقف الاسرائيلي وانما شمل ايضا الموقف السوري. فالرد الرسمي السوري تجاوز موقف المباديء العامة التي طرحها الوفد الاسرائيلي، ودخل في صلب المواضيع وفصلها في مشروع تفصيلي متكامل وبآليات زمنية. واقترح ان تصدر في صيغة اعلان مباديء مشترك اسرائيلي سوري. ومشروع اعلان المباديء هذا يتكون من تسعة بنود يتحدث في بنده الاول عن هدف المفاوضات(22) ويحدده باقامة سلام عادل وشامل في المنطقة على أساس القرار 242. والبند الثاني يتحدث عن شمولية الحل والثالث عن الامن المتبادل. ولعل البند الخامس هو الاكثر وضوحا وتعبيرا عن مضمون التطور وصدق الموقف السوري هو القادر على كشف حقيقة المواقف الاسرائيلية، فهو يقترح آلية تنفيذ محددة ومتكاملة (يبدأ الطرفان محادثاتهما لبحث آلية وخطوات تنفيذ 242 ضمن برنامج زمني محدد يراعي التزامات الطرفين..):

“أ) الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الجولان السوري المحتل عام 67، واخلاء وتفكيك كافة المستوطنات التي أقيمت في الاراضي السورية المحتلة منذ ذلك التاريخ”.
ب) “اعلان انهاء حالة الحرب او الادعاء بوجود مثل هذه الحالة”.
ج) اقرار الجانبين واحترامهما للسيادة والاستقلال السياسي والسلامة الاقليمية لكل منهما، ولحقهما المتكافيء هما وسائر تلك الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها وفقا للمباديء الشرعية الدولية”.
وتقترح الورقة السورية انشاء مجموعات عمل تنفيذية وتدعو الى تشكيل لجان عسكرية ولجان فنية أخرى، والى تسجيل الاتفاق لدى الامم المتحدة كوثيقة رسمية. كما تضمنت الورقة السورية حديثا عن اقامة نقاط انذار الكترونية ومرابطة قوات من الامم المتحدة، أو امريكية وروسية في المناطق التي يتفق عليها في المفاوضات بين الطرفين.

ب – محور المفاوضات اللبنانية-الاسرائيلية:

ليس سرا القول أن الجانب الاسرائيلي في عهد شامير كان يتعامل مع الوفد اللبناني باعتباره ملحقا بالوفد السوري وأن من المستحيل تحقيق اي تقدم في المفاوضات مع لبنان ما لم يقع تقدم نوعي في المفاوضات السورية-الاسرائيلية. ورغم تبديل اسرائيل لرئيس طاقمها في المفاوضات مع سوريا، ورغم التطور في موقفها في المفاوضات مع سوريا الا ان هذا التطور لم يشمل النظرة الاسرائيلية للعلاقة مع الوفد اللبناني. فوثائق المفاوضات ومناقشاتها تؤكد استمرار اعتماد الوفد الاسرائيلي في عهد رابين على ذات التقييم للموقف والوضع التفاوضي اللبناني، حيث واصل الوفد الاسرائيلي التعامل مع الوفد اللبناني على ذات القاعدة السابقة. ومن ذات القاعدة، وبعد حصول التغير المذكور على محور المفاوضات الاسرائيلية-السورية كان من الطبيعي ان يقدم الجانب الاسرائيلي على (زحزحة) اولية للمفاوضات مع لبنان. صحيح ان الاوراق الاسرائيلية التي قدمت الى لبنان في هذه الجولة لم تحمل الكثير من التغيير، الا ان من الخطأ عدم اعتبار أنها لم تحمل أي جديد قياسا للجولات التي سبقتها. فاقتراح المفاوض الاسرائيلي في ورقة 14 /9 /92 تشكيل لجنة عسكرية مشتركة اسرائيلية-لبنانية تبحث في قضايا الامن، وموافقة اسرائيل في هذه الجولة على ان القرار 425 يشكل (عنصرا) من عناصر السلام يشيران الى دخول عناصر جديدة على هذا المحور. وهي عناصر لا ترقى الى المستوى الذي وقع على محور المفاوضات السورية الاسرائيلية. وعلى كل الاحوال سيبقى هذا المحور مرتبطا بمجرى المفاوضات على المحور السوري-الاسرائيلي.

ج – محور المفاوضات الاردنية-الاسرائيلية:

تفيد المعلومات المتوفرة عن المفاوضات على هذا المحور بأن تطورا اجرائيا وتحسنا في “الاجواء” قد دخل على هذا المحور لا يشكل على أي حال تقدم ملموس. ولعل السبب في اقتصاره على جوانب اجرائية وشكلية يعود في جزء منه الى الترابط والتشابك التنظيمي والموضوعي للمفاوضات الاردنية-الاسرائيلية مع المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية من جهة والى طبيعة القضايا المطروحة في المفاوضات بين الطرفين. وهي اذا استثنينا احتلال اسرائيل لبعض مساحات من الاراضي الاردنية في مناطق الاغوار الجنوبية والشمالية فبقية المسائل تنتمي الى قضايا الحل النهائي والى المسار الثاني من المفاوضات اي المتعدد الاطراف. ولذا فان اتفاق الطرفان على تشكيل فرق عمل فنية تبحث في قضايا الامن والمياه والبيئة والطاقة هو اتفاق اجرائي لا ينبغي قراءة أبعاد سياسية له الان، لكنه يحمل آفاق في حال وقوع تقدم جدي في المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية، ومرشح للمراوحة اذا بقيت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية تراوح في مكانها.

د – محور المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية:
بقيت المفاوضات على هذا المحور تعاني من التعثر بسبب تعنت الموقف الاسرائيلي. فالمشاريع والاوراق التي تقدم بها الطرف الاسرائيلي تختلف فقط في اللغة وفي بعض النصوص الشكلية عن تلك التي تقدم بها ذات الطرف في عهد شامير وخلال الجولات الخمس السابقة. ان تضمن الاوراق الاسرائيلية نصا يقول (بأن المرحلة الثانية تقوم على اساس القرار 242) ونصوصا تقول (بأن أعضاء المجلس الاداري ليسوا موظفين عند الحكم العسكري الاسرائيلي، وانهم سيكونون مسؤولين امام ناخبيهم، ويمارسون صلاحياتهم في نطاق ما يتفق عليه) يمكن اعتباره “زحزحة” شكلية في الموقف الاسرائيلي في مجال فهم بناء السلطة الانتقالية وصلاحياتها.

وبقراءة آخر الاوراق التي تقدم بها الوفد الفلسطيني (الاجندة، مشروع الاطار)(23) يتبين انه أدخل تغييرا في اللغة والصياغة وابتعد عن الخطابية كما سعى الى تحويل المباديء والاهداف الى صياغات وتعبيرات تفاوضية ملموسة بدلا من ابقائها صياغات عامة. فالجانب الفلسطيني اعاد صياغة مشروع الاجندة والاطار قافزا عن العناوين الفرعية وبعض التفاصيل، كل ذلك بهدف الوصول الى اجندة مشتركة تمهيدا للدخول في مناقشة اعلان مباديء. لكن تكتيك المماطلة والمراوغة الذي سار عليه الوفد الاسرائيلي عطل امكانية الدخول في مفاوضات حول القضايا الجوهرية. وفي بداية الاسبوع الثالث من المفاوضات حاول الوفد الفلسطيني بعد اقرار الجانب الاسرائيلي انطباق قرار 242 على الجبهة السورية، انتزاع موقفا مشابها، الا أن جهوده اصطدمت بتعنت اسرائيلي متسلح بنصوص رسالة الدعوة التي تشير الى انطباق 242 على مؤتمر السلام ككل وعلى المرحلة النهائية في المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية.

هـ – محصلة الجولة الاولى من المرحلة الثالثة (السادسة):
بعد هذا العرض الموجز والسريع لأبرز مجريات مفاوضات الجولة السادسة ومواقف الاطراف خلالها، يمكن رصد حصيلة الجولة السادسة وآفاقها المستقبلية في النقاط الاساسية التالية:
1) بدء مفاوضات فعلية على محور واحد من المفاوضات وهو محور المفاوضات السورية الاسرائيلية، وحصر التغيير على المحورين الاردني واللبناني في قضايا اجرائية بحتة ومراوحة المفاوضات على المحور الاسرائيلي الفلسطيني. والتقدم الحاصل على المحور السوري لا يغطي قصوره وتعطله على المحور الفلسطيني او محدوديته وشكله في المحاور الاخرى.
2) بالتدقيق في تكتيك المفاوض الاسرائيلي في هذه الجولة تظهر بوضوح محاولات المفاوض الاسرائيلي احداث شرخ في الموقف التفاوضي العربي. ومحاولة استخدام تقدم المفاوضات على المحور السوري للضغط على المحاور الأخرى، ولابتزاز الموقف التفاوضي للمفاوض الفلسطيني. على أمل ارغامه على القبول بمشاريعه التي طرحها على طاولة المفاوضات. كما ويظهر أيضا ان رابين يسعى للوصول الى اتفاقيات جزئية ومرحلية على الجبهات السورية واللبنانية وليس في وارد تسريع المفاوضات على الجبهة الفلسطينية وهذا يتعاكس مع كل ادعاءاته السابقة، ويظهر زيف وخداع أحاديثه وتصريحاته عن الجداول الزمنية(24) حول الانتخابات الفلسطينية وحول نقل السلطة للفلسطينيين، وحول الحلول الشاملة مع الاطراف العربية الأخرى.

وبالتدقيق في الأوراق التي تقدم بها الوفد الاسرائيلي على المحور الفلسطيني يتبين أنها أقرب الى برنامج الليكود منها الى برنامج حزب العمل. وتذرع بعض أوساط حزب العمل بالاوضاع الداخلية في اسرائيل لا يفسر تراجع حزب العمل عن برنامجه وتباطؤ الحركة في المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية. وابقاء روبنشتاين على رأس الوفد الاسرائيلي والذي كان مترجما أمينا لسياسة شامير وفجا في سلوكه التفاوضي.
3) أظهرت الجولة السادسة مثل سابقاتها فعالية دور الراعي الامريكي، وفعالية الميكانيزم وقوة الدفع الذاتي الذي راكمته المفاوضات عبر تواصلها، واستمراريتها عشر شهور كاملة. فوقائع المفاوضات (غير المعلنة) تؤكد ان اللقاءات الجانبية السرية والعلنية التي عقدها الراعي الامريكي مع مختلف الوفود كانت فاعلة وحاسمة في حل وتجاوز كثير من العقد والاشكالات التي برزت هنا او هناك. وهي القوة الخفية التي ساهمت في صنع كل تقدم صغير او كبير وقع على هذا المحور او ذاك. وتؤكد الوقائع ايضا ان لا غنى عن هذا الدور في كل عملية المفاوضات وكل مراحلها وايضا للوصول الى الاتفاقات الاولية او النهائية.
الا ان جهود الادارة الامريكية في الجولة لم تكن متناسبة مع ما طرحه الوزير خلال جولته في المنطقة والتي مهدت للجولة السادسة من المفاوضات. فالراغب في دفع الاطراف للتوصل الى تفاقات (كما فهم من بيكر في حينها) مطالب اما بتقديم مقترحات لحلول وسط او ممارسة ضغط جدي على الاطراف لدفعها للتقدم بهذا الاتجاه. فهل احجام الادارة في هذه الجولة عن القيام بمثل هذا الدور ناجم عن مغادرة بيكر لوزارة الخارجية الامريكية وانشغالها في الانتخابات؟ أم أنها اجلت مثل هذا الدور الى الجولة القادمة التي تحددت في 21 اكتوبر؟ أم أن درجة اهتمامها بالعملية السياسية تراجعت الى ما بعد نتائج الانتخابات.
اسئلة مطروحة ستظهر الاسابيع القادمة ملامح الاجابة عليها.
4) ان المبالغة في التفاؤل التي رافقت ذهاب الوفود العربية الى واشنطن دفعت بهذه الوفود في بداية الجولة الى اصدار العديد من التصريحات حول ايجابيات الموقف الاسرائيلية وحول اقتراب الفرج. مما ساعد رابين على تكريس صورته الايجابية عند الراعي الامريكي وعند الاوربيين والرأي العام العالمي (وشهد شاهد من أهله). كما ساهمت تلك التصريحات في تقوية موقف المفاوض الاسرائيلي، وصعبت لاحقا على المفاوضين الفلسطينيين فضح ألاعيبه ومناوراته التي مارسها معهم.
5) أكدت مفاوضات الجولة السادسة على أن معركة المفاوضات ستكون طويلة وشاقة، وأن ما تحقق هنا أو هناك لا يشكل الا بدايات استطلاعية لبدء المعركة. واذا كان من المبكر الان الحديث عن كل النتائج الاجمالية للجولة السادسة فالواضح أنها كانت أول جولة شهدت مفاوضات حقيقية على بعض الجبهات تشير بالاساس الى طبيعة التكتيك الاسرائيلي الساعي الى تفتيت الموقف العربي واستخدام تحسن علاقات اسرائيل مع الولايات المتحدة للضغط على الاطراف العربية مجتمعة وكل على حدة.

)
القسم الثالث

تقييم النتائج الاجمالية للمفاوضات

بعد هذا العرض لمجريات المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية في مراحلها الثلاث، وبعد اظهار خصائص وميزات العملية التفاوضية ككل، لا بد من اجراء جردة شاملة للنتائج الاجمالية لجولات المفاوضات حتى الان. وتظهير انعكاساتها الملموسة المباشرة او اللاحقة على دول وشعوب المنطقة. قد يكون من السابق لاوانه اعطاء مواقف جازمة بشأن النتائج النهائية لعملية السلام وانعكاساتها وآثارها على المدى البعيد على أوضاع القوى المشاركة وعلى المنطقة ككل. لكن ذلك لا يعني بالضرورة تأجيل عملية رصد وتقييم نتائج العملية حتى نهاية المبارزات، فالشرط الأول (سنة) انتهى بتثبيت عدد من النقاط لصالح هذا الفريق أو ذاك. صحيح ان ما يرصد الان من نتائج وآثار يندرج تحت خانة انجازات اولية او انجازات قيد التثبيت النهائي، ولكن الصحيح ايضا ان بعضها الاخر تحول الىواقع معاش، وبعضها الى فعل وحركة مادية دخلت في حياة دول وشعوب المنطقة. من هذا المنطلق يمكن تقسيم النتائج والاثار الى نوعين: – أولا: نتائج وآثار عامة شملت الجميع. ثانيا: نتائج وانعكاسات العملية عند كل طرف من اطراف الصراع وخاصة الامريكي والاسرائيلي والفلسطيني.

أولا – نتائج عامة شملت معظم الاطراف:
1) تجمع مختلف القوى والاتجاهات السياسية العربية والفلسطينية، أن انطلاق وتواصل مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية قد وضع منطقة الشرق الاوسط على أبواب مرحلة جديدة تختلف نوعيا عن كل المراحل التي مرت بها. وفي هذا الاطار يمكن اعتبار مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الاوسط نقطة تحول فاصلة بين حقبة قديمة عاشتها المنطقة وأخرى جديدة لا زالت في طور التشكل والتكوين. ومسار حركة التاريخ يؤكد أن انتقال الشعوب من حقبة تاريخية الى أخرى نوعية جديدة يستوجب المرور في مرحلة أو مراحل انتقالية يتخللها جذب وصراع قد يطول وقد يقصر بين الماضي القديم فكرا وأدوات وبين الجديد القادم بفكرة والقادر على خلق ادواته وكل المستلزمات الضرورية لفرض الذات. وبغض النظر عن النتائج التي حققتها المفاوضات حتى الان، او تلك التي يمكن أن تحقق لاحقا، فالمؤكد أنها أغلقت ولاشعار آخر (سنوات) ملفات الحروب، وطوت ملفات حالة اللاحرب واللاسم التي بنيت عليهما الاستراتيجيات المتصارعة في المنطقة. وأن تواصل العملية حتى الان واحتمال تواصلها لفترة لاحقة، أرغم كل الاطراف او سيرغمها على تغيير استراتيجياتها الامنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، وعلى فتح ملفات جديدة لعلاقات جديدة حدها الادنى تجميد التفكير في حل الخلافات بالوسائل العسكرية، وقبول العيش ضمن حدود آمنة معترف بها. أما حدها الاقصى فقد يصل الى تطبيع العلاقات وسيادة نظم ومفاهيم وأشكال جديدة من التفاهم والتعاون والتعايش المشترك.

لا شك ان انهيار المعسكر الاشتراكي ونتائج حرب الخليج كان لها دورها في دفع المنطقة نحو هذه المرحلة الجديدة لكن انطلاق مفاوضات السلام وتواصلها كانت بمثابة الناقلة التي تحركت حاملة الجميع نحو الاتجاه الجديد ولولاها لبرزت احتمال الاندفاع باتجاهات مختلفة ومنها احتمال السكون والجمود لسنوات مديدة.
2) اسهمت عملية السلام بفعالية في تنمية اتجاهات الفكر السياسي الواقعي في اسرائيل وعند الجانب الفلسطيني والعربي، وهي في حال تواصلها وتوصلها الى نتائج عملية ملموسة تلبي قسما من طموحات وتطلعات شعوب المنطقة، ستعزز أكثر فأكثر من قوة التيارات والاتجاهات السياسية الواقعية عند كل أطراف الصراع. وبالمقابل لا بد من القول ان النتيجة المؤكدة في حال تعثرها لفترات زمنية طويلة او فشلها في تحقيق كل او اقسام رئيسية من اهدافها ستؤدي الى اضعاف مميت للاتجاهات الواقعية، واحياء أكيد للتطرف والتعصب بكل اشكاله الديني والقومي في المنطقة ككل ومساعدته في السيطرة وتولي دفة قيادتها لسنوات طويلة، وزجها في صراعات دموية طائفية ودينية وعرقية يصعب التكهن بنتائجها منذ الان.
3) مع انطلاق عملية السلام وتولي الاتجاهات الواقعية دفة القيادة، كان من الطبيعي ان تنشأ ردود أفعال وان يكون رد فعل القوى الاصولية الدينية والقومية استنفار طاقاتها الذاتية والعمل على توحيد صفوفها في مواجهة العملية ومواجهة الاتجاهات الواقعية ومحاولة عرقلة توجهاتها السياسية. ولعل ما تشهده الساحة الاسرائيلية والساحة الفلسطينية وبعض الساحات العربية الأخرى من استنفارات شاملة للقوى والاتجاهات المتطرفة والمحافظة والاصولية الدينية منها والقومية ليست سوى شواهد ملموسة على ذلك ومؤشرات واضحة للمنحى الذي يمكن ان تدفع فيه المنطقة في حال تعثر او فشل عملية السلام.
4) من بداية انطلاقتها اصطدمت عملية السلام بوجود خمس شعوب في اربع كيانات متصارعة (فلسطينيون وسوريون واردنيون ولبنانيون واسرائيليون) على الوجود والحدود، فدفعت العملية بالمجتمع الدولي ودول المنطقة الاربع (سوريا، الاردن، لبنان، اسرائيل) نحو الاقرار بأن وجود الكيان الخامس للشعب الفلسطيني ضرورة لا غنى عنها. ومنذ انطلاقتها والصراع يدور ليس حول وجود هذا الكيان بل حول حدوده وحول طبيعته وطبيعة علاقاته مع جيرانه وحول حدود ممارسته للسيادة. وأظن اننا لا نتسرع اذا قلنا ان الاقرار بوجود هذا الكيان وترسيمه في المنطقة يفتح في المجال على المدى المتوسط والبعيد نحو اعادة رسم الخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة. ان تصاعد الحديث عن كونفدرالية ثلاثية اردنية، فلسطينية، اسرائيلية وثنائية اردنية-فلسطينية ليس سوى نتيجة من نتائج العملية السياسية الجارية. وأعتقد أن تواصل المفاواضت وتوصلها الى نتائج ملموسة كفيل بتحويل هذا الحديث النظري الى واقع مادي ملموس بصيغة أو بأخرى.
5) ان انتهاء حالة الحرب، واقفال وضع اللاحرب واللاسلم في المنطقة سيؤدي بشكل مباشر الى تراجع قضايا الصراع القومي والوطني ضد العدو الخارجي ممثلا باسرائيل عند العرب، والعرب عند اسرائيل. وتراجع هذا الصراع سيكون لصالح نمو الصراع الاجتماعي والطبقي داخل الكيانات الخمس ولكن بأشكال ومستويات متفاوتة داخل كل كيان.

ثانيا – نتائج وانعكاسات العملية على الاطراف:
أ) الراعي الامريكي:
لا شك ان تولي الادارة الامريكية مهمة الاشراف على العملية السلمية الجارية، جعلها طرفا رئيسيا في جني جزءا اساسيا من نتائجها، سواء أكانت هذه النتائج سلبية او ايجابية. وفي اطار تقييم النتائج التي حققتها الادارة الامريكية حتى الان من اطلاقها للعملية ومن قيادتها يمكن تثبيت :
* باطلاقها لمبادرة صنع السلام في المنطقة وتنظيمها لدور التجمعات الدولية فيها، عززت الادارة الامريكية دورها وموقعها القيادي المقرر للوضع الدولي، وأعطته صيغته الملموسة والعملية خاصة في علاقاتها مع اوروبا واليابان والصين. ويمكن القول ان تواصل عملية السلام الامريكية الجارية فترة عام كامل، كان بمثابة ترويض وتعويد للقوى الدولية على الانضباط في اطار نظام علاقات دولية تقوده الولايات المتحدة الامريكية بصورة منفردة. وان انضباط القوى الدولية والاقليمية في اطار العملية التفاوضية سنة كاملة والتزامها بالادوار التي رسمتها لها ادارة بوش عزز ولا شك من الهيبة والنفوذ الدولي للادارة الامريكية. وبما ان العملية السياسية الامريكية مرشحة للتواصل والاستمرار خمس سنوات كحد أدنى (مالم تقع تطورات مفاجئة)، فالثابت ان الشرق الاوسط ومفاوضات السلام ستبقى ميدانا رئيسيا تواصل فيه الادارة الامريكية مزيدا من الترويض والتعويد للقوى الدولية على الانضباط والالتزام بما تقرره لها وعند توصلها الى نتائج واتفاقات سيصبح الشرق الاوسط ميدانا دوليا تعرض فيه الولايات المتحدة الامريكية هيبتها وقدرتها. وتعزز فيه ومنه نفوذها. مثله مثل دول امريكا اللاتينية تقريبا.
* لا شك ان انتصار الولايات المتحدة الامريكية في حرب الخليج قد عزز من هيمنتها المباشرة على المنطقة، لكن المؤكد ايضا ان تواصل عملية السلام قد كرس اكثر فأكثر من هذه الهينمة. ويمكن القول ان نجاح المفاوضات وتوصلها الى حلول واتفاقات لقضايا الصراع في المنقطة وخاصة الفلسطيني الاسرائيلي سيزيد ويرسخ هذه الهيمنة ويثبت لها مرتكزاتها القوية. ويؤمن لها مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية لسنوات طويلة قادمة. فنجاح الادارة الامريكية في تسوية قضايا النزاع سوف يعني ارتباط دول المنطقة بالتزامات معينة اتجاه الولايات المتحدة الامريكية، وسوف يعني ايضا القبول بحضور عسكري وأمني على أراضي بعض دولها. ومثل هذا الحضور الميداني كان في الجولة السادسة من المفاوضات موضع تداول ومطلبا مجمعا عليه من معظم اطراف المفاوضات مع تفاوت محدود يتعلق بمواقع التموضع.
* تدرك الادارة الامريكية أن نجاح مبادرتها هو السبيل الى خلق استقرار دائم في المنطقة يؤمن لها ليس فقط مصالحها فيها بل وايضا امكانية توظيف كل ما فيها من طاقات اقتصادية وخاصة بترولها، وميزات استراتيجية (وخاصة موقعها) في خدمة استراتيجيتها الدولية على مدى زمني طويل في صراعها الاقتصادي مع القوى الاقتصادية الصاعدة دوليا (المانيا، واوروبا الموحدة، واليابان).
* وبالتدقيق في الوجه الاخر من النتائج اي السلبيات، فالواضح حتى الان ان مردود عملية السلام كان في محصلته الاجمالية ربحا صافيا للادارة الامريكية. ولم تلحق بها اية خسائر تذكر. وهذه النتيجة تحفزها ولا شك على التواصل والاستمرار في رعاية العملية التفاوضية لتواصل حصد مزيد من المكاسب والارباح. وتدرك الادارة الامريكية ان فشل مبادرتها سيكون له انعكاسات سلبية واسعة على صعيد مصالحها في المنطقة وفي اطار علاقاتها الدولية أيضا.
ب) نتائجها على الجانب الاسرائيلي:
اظهرت الانتخابات الاسرائيلية انقسام المجتمع الاسرائيلية على نفسه حول الموقف من عملية السلام ومن نتائجها المباشرةو اللاحقة. وحسب نتائج التصويت على برامج الاحزاب والمرشحين ظهر ان ما يقارب نصف المجتمع الاسرائيلية يرى ان نتيجتها النهائية الحاق خسائر استراتيجية باسرائيل تفوق الارباح التي قد تجنيها منها. وان ما يفوق النصف بقليل يرى عكس ذلك تماما. واذا كنا لسنا بصدد تقييم اي من الرأيين في اسرائيل ومنطلقات وحسابات كل منهما. فالواضح ان شامير دخل عملية السلام ولم يكن امامه معارضة حقيقية، فالمعارضة ممثلة بالعمل آنذاك، دعمته وأيدت المشاركة انطلاقا من قناعتها بايجابية مردودها. واي تقدم موضوعي للمشاركة الاسرائيلية في عملية السلام يثبت انها جنت وحصدت حتى الان النتائج التالية وفقا للترتيب الزمني:
1) دأبت الولايات المتحدة الامريكية على مدى سنوات طويلة على تشجيع الهجرة اليهودية الى اسرائيل. ومارست قبل اطلاق مبادرتها ضغوطا متنوعة على الاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا لاحقا لتسهيل هجرة اليهود الى اسرائيل. ورغم ان هذا موقفا امريكيا قديما الا ان ما نالته هجرة اليهود الروس من رعاية واهتمام امريكي وتسهيلات روسية خلال المرحلة التمهيدية التي سبقت افتتاح مؤتمر السلام لم يكن مقطوع الصلة عن التحضيرات التي كان يجريها الوزير بيكر في تلك الفترة. فالكل يعرف ان اسرائيل لم توافق على مشاركة الاتحاد السوفياتي (سابقا) في رعاية مؤتمر السلام، الا بعدما أعاد علاقاته الديبلوماسية مع اسرائيل. وبعدما وافق على تسهيل هجرة اليهود بدفعات كبيرة ووافق على نظام الرحلات وعلى فتح خطوط النقل المباشر الذي طلبته اسرائيل. والكل يعرف ايضا ان الادارة الامريكية قدمت مساعدات مالية كبيرة، وساهمت بصورة مباشرة في تهجير اليهود الروس الى اسرائيل، والكل يتذكر القيود على الكوتا التي حددتها الادارة لاستقبال المهاجري السوفييت في اراضيها. ولم تتوقف المساعدة الامريكية في مجال الهجرة عند حدود الضغط على السوفيات بل استجابت من حيث المبدأ لطلب شامير بالحصول على عشرة مليار دولار ضمانات قروض لاستيعاب المهاجرين. ورغم الاشكال الذي وقع بين الطرفين حول هذا الموضوع الا انه مكسب حققته اسرائيل لاحقا كان لمشاركتها في مفاوضات السلام دورا فيه.
2) قبل افتتاح مؤتمر السلام في مدريد اصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارا الغت بموجبه قرارا سابقا لها يدين الحركة الصهيونية ويشبهها بالعنصرية. واذا كان غير واضح لنا حتى الان الاسباب والدوافع الحقيقية التي دفعت الادارة الامريكية لاستصدار قرار الالغاء ذاك، فان توقيته قبل افتتاح مؤتمر مدريد، يدفعنا للقول انه كان بمثابة تقدمة او هدية قدمها بيكر لشامير تشجيعا له على المشاركة في عملية السلام. ومن حقنا الشك ايضا بان ذلك القرار جاء بناء على طلب مباشر من شامير ونتيجة لاستجابة امريكية لهذا الطلب. وبغض النظر عن ذلك كله يمكن اعتبار قرار الالغاء من الثمار التي جنتها اسرائيل بموافقتها على المشاركة في مؤتمر مدريد.

3) أما المكسب الثالث فقد تمثل في اعتراف الهند وبعض الدول الافريقية والباكستان والصين والدول الاشتراكية (سابقا) اضافة للاتحاد السوفياتي وبعض الدول الاخرى باسرائيل وتبادل العلاقات الديبلوماسية معها. ولم يكن سرا على احد ما قامت به الادارة الامريكية على هذا الصعيد. كما لم يكن مخفيا ايضا ان شامير قد جعل من ممارسة الولايات المتحدة لهذا الدور شرطا من شروط مشاركته في عملية السلام. صحيح ان المتغيرات الدولية التي وقعت في تلك الفترة وخاصة انهيار المعسكر الاشتراكي قد ساهم في دفع بعض الدول الى اعادة النظر في علاقاتها بدول الشرق الاوسط، ولكن الصحيح ايضا ان رغبة الادارة الامريكية في انجاح مبادرتها، وفي ضمان مشاركة اسرائيل فيها دفعها الى انضاج هذه الثمرة وتقديمها هدية لاسرائيل.
4) لا شك ان مشاركة كل الدول العربية (ما عدا ليبيا والعراق والسودان) يعتبر مكسبا رابعا كبيرا حقتته اسرائيل، فهذه اول مرة في تاريخ الصراع العربي-الاسرائيلي تجلس اسرائيل مع كل الاطراف العربية كوفود مستقلة تتفاوض معها من اجل (الصلح) وتطبيع العلاقات بمختلف اشكالها وانواعها. ان تقدم المفاوضات وتوصلها الى اتفاقات سيتيح لاسرائيل اقامة صلح دائم مع كل الدول العربية بما يعني قبولها رسميا كدولة من دول المنطقة ومشاركتها همومها وتتعاون معها في كل المجالات الممكنة وخاصة ما يتعلق منها بالتعاون الاقتصادي وقضايا البيئة والمياه. صحيح ان انسحاب اسرائيل من الضفةو القدس وغزة والجولان سوف يلحق باسرائيل بعضا من الخسائر الاقتصادية وتحديدا كل ما كانت ولا زالت تنهبه من الارض والاقتصاد والبشر في هذه المناطق ولكن الصحيح ايضا انها بتطبيع علاقاتها الاقتصادية مع جيرانها العرب سوف تجني اضعاف تلك الخسائر. فهي بتطورها الصناعي قد تكون قادرة على غزو الاسواق العربية، والاستفادة من الامكانات والطاقات المالية الكبيرة التي تملكها بعض الدول العربية. هذا الى جانب ما ستوفره من مبالغ كبيرة تنفقها عادة على قضايا الامن وصناعة واستيراد السلاح.
5) وبالمقابل ستضطر اسرائيل الى دفع ثمن هذه المكاسب، وتدرك القيادة الاسرائيلية ان الوصول الى سلام او تسوية شاملة في المنطقة سيفرض عليها العيش في حدود معترف بها دوليا. بما يعني التخلي عن بعض الاحلام المبنية على أوهام تاريخية، منها فكرة اسرائيل الكبرى، وأرض اسرائيل التاريخية وانكار وجود الغير (الشعب الفلسطيني). وبما يعني ايضا انتهاء كل العقلية التوسعية العدوانية التي تحكمت في السياسة الاسرائيلية منذ ما قبل قيام دول اسرائيل وحتى الان. ولعل هذا الادراك هو الذي دفع شامير ليحول المفاوضات الى ساحة للمناورة وكسب الوقت على مدى ثمانية أشهر كاملة. ولا شك ان الائتلاف الحاكم -حزب العمل، ميرتس، شاس- سيواجه مشاكل مع المعارضة اليمينية ومتاعب (25) ليست بسيطة في حال تقدم المفاوضات وعندما تحين ساعة دفع الاستحقاقات. فالتخلي عن أرض اسرائيل الكبرى، وعن المستوطنات والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ضريبة ستدفعها اسرائيل ثمنا للتسوية الشاملة آجلا او عاجلا. صحيح انها ضريبة مكلفة، لكن الصحيح ان بديلها مكلف أكثر بأضعاف مضاعفة. فالحروب ستتواصل، وحالة الكراهية والعداء لاسرائيل سوف تتعمق وتتجذر عند الفلسطينيين وعند العرب وبعض المسلمين أكثر فأكثر.

ويخطيء من يعتقد أن السلام الحقيقي والدائم يمكن أن يبنى قسرا، بفرضه على الفلسيطنيين والعرب. ان فرض حلول غير مقنعة وغير عادلة يؤدي الى تسويات مؤقتة، تهديء الصراع وتسكنه لفترة، لكنها تبقي النار متأججة تحت الرماد.
وفي السياق ذاته من المفيد ان تعي قيادة حزب العمل والمتحالفين معها في الحكومة، بأن شعب فلسطين وقيادته قدموا الكثير من التضحيات من أجل السلام قبل الوصول الى طاولة المفاوضات بفترة زمنية طويلة. لقد أقروا في مبادرة السلام التي أطلقها المجلس الوطني الفلسطيني عام 88 بحق اسرائيل في الوجود فوق الاقسام الاساسية من ارضهم، وقبلوا بالخضوع لفترة اختبار مدتها خمس سنين كاملة وان يكون حل قضيتهم على مرحلتين، كما قبلوا من اجل نجاح التحرك نحو السلام بالكثير من النواقص التي غابت عن الذكر في رسالة الدعوة. ويمكن القول اذا كانت القيادة الاسرائيلية مطالبة بدفع رسوم وضريبة السلام، فالشعب الفلسطيني دفعها مقدما لهم وللقيمين على عملية السلام.
ان الطريق الى السلام الدائم والشامل لا زال طويل وشاق وتسهيل الحركة عليه يتطلب من القيادة الاسرائيلية ومن راعي العملية تقديم ما عليهم لتعبيده وتمتين ارضيته. وهذا يفرض بالضرورة تصفية الماضي ومآسيه وذلك لا يمكن ان يتم الا باعتراف القيادة الاسرائيلية بمسؤوليتها عن الظلم التاريخي والجرائم الفظيعة التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني منذ عام 48 وحتى الان. ان مطالبة القيادة الاسرائيلية بهذا الاعتراف حق مشروع للشعب الفلسطيني. ألم تطالب القيادات الاسرائيلية وقيادات اليهود في العالم دولة المانيا بالاعتراف بجرائمها التي ارتكبتهافي الاربعينات ضد اليهود. اننا ونحن نؤكد عدالة المطلب الاسرائيلي واليهودي العالمي من دولة المانيا، نعتقد أن من حقنا مطالبة اسرائيل بالاعتراف بعدالة مطلب الشعب الفلسطيني. وأعتقد ان مثل هذا المطلب الفلسطيني يفترض توجيهيه ايضا للحكومة البريطانية باعتبارها صاحبة وعد بلفور 1917 وباعتبارها دولة الانتداب على فلسطين منذ ذلك التاريخ وحتى قيام دولة اسرائيل والمسؤولة عن تهجير مئات الالوف من اللاجئين. وأظن ان اقدام الحكومة البريطانية على تقديم مثل هذا الاعتراف، قد يساعد القوى الاسرائيلية المؤمنة بالسلام العادل والدائم الارتقاء بمواقفها والتوجه نحو معالجة القضية من جذورها. لقد أظهرت نتائج الانتخابات الاسرائيلية تنامي الفكر السياسي الواقعي في اسرائيل بشكل بطيء ومحدود، واذا كان من الضروري عدم الوقوع في الاوهام حول قدرات القوى الواقعية الاسرائيلية، وحول مدى تطورها، فلا بد لهذه القوى ان تعي حجم وطبيعة القضايا الفكرية والسياسية والاخلاقية التي ستواجهها آجلا ام عاجلا. ومما لا شك فيه ايضا ان تواصل عملية السلام وتوصلها الى اتفاقات ملموسة، وتواصل الانتفاضة وتواصل الخط السياسي الواقعي الفلسطيني وتواصل الحوارات الفلسطينية-الاسرائيلية على مختلف المستويات ومن مختلف القطاعات الشعبية، اسهمت وتسهم اكثر فأكثر في تعميق الفكر الواقعي في اسرائيل. وفي افساح المجال لمناقشة كل القضايا الشائكة والمعقدة العالقة بين الطرفين. واظن ان بامكان قوى السلام الاسرائيلية ان تزيد من حركتها في صفوف الشارع الاسرائيلي متسلحة بما قدمه الفلسطينيون من اجل السلام وبما حققته عملية السلام من مكاسب لاسرائيل حتى الان، وما يمكن ان تحققه في ظل تعايش الشعبين في دولتين غير معاديتين لبعضهما البعض. واظهار ان السلام يجلب الامن والاستقرار، وهو خير للشعبين او اعتباره بالحد الادنى شر لا بد منه.

ج) نتائجها عند الجانب الفلسطيني
من الطبيعي ان لا يكون هناك تقييم فلسطيني موحد لنتائج عملية السلام. فالساحة الفلسطينية منقسمة على نفسها أصلا حول قضية المشاركة ذاتها. ورغم ذلك فهناك عددا من النتائج والاثار يفترض ان لا تكون موضع خلاف، خاصة بعدما أكدتها وقائع الحياة على الارض وفي العلاقات وبعدما تحولت من قضايا كانت موضع افتراض او احتمالات وتوقعات الى حقائق ذات وزن ولها ثقلها في كل التحركات السياسية الجارية. وقبل الدخول في مناقشة وعرض النتائج والانعكاسات العملية التفاوضية على الجانب الفلسطيني لا بد من التأكيد والتشديد سلفا على نقطتين:
1) لا شك ان هناك الكثير من الملاحظات والنواقص والثغرات في الاسس التي قامت عليها عملية السلام منها على سبيل المثال تقسيم الحل الى مرحلتين انتقالية ونهائية، ومنها عدم التزام اسرائيل بوقف الاستيطان وقفا كاملا خلال المفاوضات..الخ. لكن ما يجب تذكره ان موازين القوى التي كانت سائدة لحظة انطلاق المفاوضات، وكذلك الظروف العربية والدولية التي كانت تحيط بالقضية الفلسطينية وبمنظمة التحرير آنذاك. وكذلك الخيارات والبدائل المطروحة في حينها، وتذكر ان اعلان م.ت.ف عن موافقتها على المشاركة في عملية السلام جاء بعد بضعة اسابيع من اعلان سوريا وكل الدول العربية الاخرى عن قبولها بذلك. واكدت مجريات العملية السياسية ان النواقص الكثيرة والثغرات الواسعة قد أعاقت الجانب الفلسطيني على تحقيق مزيد من المكاسب والانجازات. وأكدت في الوقت ذاته أن هذه النواقص وتلك الثغرات لم تحل دون تحقيق بعض المكاسب والانجازات لشعبنا وقضيتنا وم.ت.ف وان الصبر والحكمة في المفاوضات كفيلان بردم الثغرات وسد النواقص التي احتوتها رسائل الدعوة والتطمينات.
2) أكدت الوقائع ان قضايا الصراع العربي الاسرائيلي وجوهرها المسألة الفلسطينية هي اعقد القضايا الدولية على الاطلاق، وهي متشعبة ومتعددة الاوجه والمواضيع، عمرها يزيد على 44 عاما، تخللها عدة حروب، تراكم خلالها احقاد وعداوات عميقة، واختلط الحق المشروع والمقر دوليا بالباطل المفروض واقعيا. ولهذا فان المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية كانت في عامها الاول بمثابة حرب شرسة وقاسية من اجل انتصار الحق الفلسطيني ودحض الباطل الاسرائيلي. ولم تقل في صعوبتها وآلامها عن الحروب العسكرية التي خاضها الشعب الفلسطيني خلال ربع القرن الاخير دفاعا عن الوجود وعن التمثيل وعدم السماح بضياع وتبديد الحقوق. انها “أم المعارك الفلسطينية” اذا جاز التعبير. ومن هذا المنطلق يمكن النظر الى العام الاول من مؤتمر مدريد بأنه كان جولة ساخنة من جولات هذه الحرب الطويلة والقاسية استعرض فيها كل طرف اسلحته وقواه الذاتية أمام خصمه وامام العالم أجمع. وفيها تمت ايضا عمليات استطلاع بالنيران (كما يقال عسكريا)، وخلال هذا الاستطلاع وقعت احتكاكات مباشرة واشتباكات محدودة كانت حصيلتها فلسطينيا على النحو التالي:
أولا) ثبت الشعب الفلسطيني حضوره، وملأ مقاعده بوفد من ابنائه جلسوا وجها لوجه مقابل عدوهم في محفل دولي اريد له ان يعالج قضية شعبهم وسواها من قضايا المنطقة. وهذه أول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي والعربي يستطيع فيها الفلسطيني ان يفرض وجوده، وأن يمثل نفسه بنفسه. ولهذا يمكن القول ان المشاركة الفلسطينية نسفت والى الابد المقولة الصهيونية القائمة على انكار وجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني. ونسفت الى الابد الوصاية والبدائل العربية التى كان يجري فرضها عادة على التمثيل الفلسطيني في مثل هذه التحركات الدولية الحاسمة. واذا كانت الارادة الدولية مجمعة على جعل مؤتمر السلام محطة فاصلة لحل قضايا المنطقة واعادة ترتيب اوضاعها من جديد، فبالامكان القول ان الشعب الفلسطيني حجز مكانه في الترتيبات الجديدة وقطع الطريق على كل محاولة لشطبه واستثنائه. ولم يضيع الفرصة التاريخية، كما كان يحصل سابقا، بل التقطها في الوقت المناسب، وبطريقة ملائمة مكنته من اثبات وجوده وتكريس حضوره. ويخطيء كل من يقرأ استقبال الشعب الفلسطيني لوفده عندما عاد من مفاوضات مدريد كاستقبال الابطال ناشيء عن أوهام بانجازات سريعة، او تعبير عن تعب من الانتفاضة. ان القراءة الصحيحة هي التي تقول ان الشعب الفلسطيني يعرف أن طريق المفاوضات طويل وشائك، ولكنه ابتهج بالانجاز التاريخي الذي حققه بفرض وجوده وفرض تمثيله الخاص بعدما غيبا فترة تزيد على ال 70 عاما. وانه عبر عن بهجته بحركة انتفاضية يعرف أنها (في ظروفه الخاصة) هي الافعل في ارباك العدو وفي مقاومة أعماله العدوانية.
ثانيا) نجح الوفد الفلسطيني في عرض قضية شعبه، وبين عدالتها. واستخدم في عرضه لغة العصر التي يفهمها عالم اليوم، واظهر الوجه الحضاري للشعب الفلسطيني، وقدرته على التعامل مع الواقع الدولي الجديد ومتطلباته. لم يستجد حلولا، لكنه بين أن استمرار غياب الحل العادل يضر بمصالح شعوب المنطقة وكل الشعوب المحبة للسلام. وبهذا نجح في ايصال رسالة شعبه الى الرأي العام العالمي وكل القوى المؤيدة للسلام، ووضع الجميع امام مسؤولياتهم بعدما جعل قضيته ذات الاولوية في المعالجة الدولية. وقدم لها حلولا واقعية تستند بالاساس الى الشرعية الدولية.
والمشاركة الفلسطينية مكنت الشعب الفلسطيني من توسيع وترسيخ جبهة اصدقائه، ومن كسب العديد من القوى المحايدة، وحيد بعض القوى التي كانت معادية او شبه معادية له، وجرد عدوه من بعض اسلحته ومواقعه وحشره في زاوية ضيقة بعدما افقده بعض اوراقه وخاصة ورقة تذرعه الدائم برفض العرب للمفاوضات المباشرة.
ثالثا) من خلال المشاركة في مؤتمر مدريد، وبحسن اداء الوفد لمهامه، تم تكريس وحدة الشعب، ووحدة القيادة ووحدة التمثيل واستقلاليته. صحيح ان المشاركة الفلسطينية تمثلت رسميا بوفد شخصيات وطنية من الداخل وفي اطار وفد مشترك اردني-فلسطيني، ولكن الصحيح ايضا ان الاعمى سياسيا وحده الذي لم ير ولم يستوعب وحدة الشعب ووحدة القيادة ووحدة التمثيل واستقلاليته في العملية كما تجسدت. فكل الاطراف المشاركة في المؤتمر وكل المتابعين للتحضيرات التي سبقته والمناقشات التي تخللته يعرفون ان م.ت.ف هي المفاوض الحقيقي ويعرفون ان الوفد الفلطسيني قد تشكل بقرار من قيادة م.ت.ف، وانها راعت في تشكيله كل خصوصيات الوضع الفلسطيني وان القدس والخارج لم تكن غائبة عن المشاركة العملية في اعمال المؤتمر. فالكل يعرف ان لجنة التوجيه جزء أساسي من مكونات الوفد، ولها مهام مباشرة في تخطيط وتوجيه الدور الفلسطيني في المفاوضات وانها تشكلت بموافقة قيادة م.ت.ف وبالاسماء، وهي تضم في عضويتها ممثلين عن القدس وعن الشتات. وانها هي ومعها مجموعة العمل التي شكلتها اللجنة التنفيذية من الخارج تقوم بدور همزة الوصل بين الوفد الفلسطيني والوفود العربيةو الاجنبية المشاركة في المؤتمر، والوصل مع القيادة الفلسطينية.
ولعل التدقيق في مدلولات لقاء مسؤولين امريكيين مع اعضاء من اللجنة الاستراتيجية ومع لجنة التوجيه، وكذلك متابعة ما قام ويقوم به الاخ نبيل شعث وفيصل الحسيني والاخت حنان عشراوي، وبقية اعضاء لجنة التوجيه واللجنة القيادية المتواجدة مع الوفد يبين طبيعة الدور التفاوضي القيادي العملي المسند من قيادة م.ت.ف لهذه اللجنة. وليس صعبا على كل من يريد رؤية الحقيقة ان يلمس الحضور الفلسطيني المستقل، والذي حرص الاخوة في الجانب الاردني على اظهاره باستمرار وفي كل المناسبات. والجميع يعرف ان المفاوضات الثنائية لفلطسينية-الاسرائيلية جزء من الاسس التي قام عليها المؤتمر. واصرار الوفد بصورة متواصلة على تكريس م.ت.ف كمرجعية وحيدة له، واصراره على اشهار ذلك في كل اللقاءات والمناسبات قطع الطريق على كل تفكير أو أوهام بخلق بدائل لمنظمة التحرير او بدائل لقيادتها الشرعية.
رابعا) لا شك ان المشاركة الفلسطينية في المؤتمر، والمواقف الواقعية والمسؤولة التي اتخذها الوفد والتي تمت الاشادة بها دوليا وعربيا، قد أعادت لمنظمة التحرير الفلسطينية مصداقيتها على المستوى الدولي، بعدما تشوهت صورتها ابان وبعد حرب الخليج. فالعالم اجمع يعرف ان المشاركة الفلطسينية تمت بقرار من قيادة م.ت.ف والكل يعرف ان المواقف التي اتخذها الوفد الفلسطيني خلال كل اعمال المؤتمر تمت بتوجيه مباشر من قيادة م.ت.ف وبعد مصادقتها على الاساسي منها وبقرارات رسمية بعضها معلن. وأن العديد من القرارات والنتائج التي تم تحقيقها ما كان لها ان ترى النور وان تبعث للحياة بدون قرارات رسمية ومعلنة من م.ت.ف. وان الوصول لاحقا لبعضها يتطلب مفاوضات مباشرة مع قيادة م.ت.ف. مثل الامن المتبادل وبعض المسائل المتعلقة ببناء الثقة، وانتهاء بقضية اللاجئين وسائر القضايا الجوهرية الاخرى. ولا يمكن لعاقل ان يتصور مثلا مطالبة اسرائيل للوفد الفلطسيني في المفاوضات بأن يتخذ قرار بتجميد او وقف العمليات العسكرية الفلسطينية الموجهة من الخارج او التي تتم في الداخل ضد الجيش والمنشآت الاقتصادية والعسكرية الاسرائيلية. فالكل يعرف ان جواب الوفد الفلسطيني سيكون مختصرا ومفيدا خلاصته ابحثوا هذا الامر وما شابهه مع المقاتلين والعسكريين الفلسطينيين وقيادتهم معروفة لكم وللجميع بأنها م.ت.ف. ولهذا يمكن القول اذا كانت المشاركة في مؤتمر مدريد قد اوجدت للشعب الفلسطيني مكانا رسميا في الخارطة الجديدة للشرق الاوسط، وأعطت قضيته زخما جديدا، فهي في الوقت نفسه حمت م.ت.ف من الشطب والتدمير وخلصتها من طوق العزلة والحصار الذي كان مفروضا عليها ومضروبا حولها. وأعطتها مصداقية دولية عالية، واظهرت قيادتها بأنها قادرة على تحمل مسؤولياتها الدولية عن صنع السلام. وبهذا عززت مكانتها باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
خامسا) فتحت المشاركة الفلسطينية في عملية السلام ميادين وقضايا جديدة للصراع مع العدو، وخلقت ظروفا افضل لمتابعة وتطوير اشكال النضال الاخرى التي يخوضها الشعب الفلسطيني منذ سنين طويلة.
وتمكنت الانتفاضة خلال جولات المفاوضات من تعريف العالم بأهدافها وبنضالاتها اليومية، وتحولت قضايا القتل والقمع والاعتقال والابعاد..الخ التي يمارسها جيش الاحتلال في مواجهة الانتفاضة من مسائل محلية الى قضايا سياسية دولية، تفرض نفسها على المفاوضات. وباتت تجد من يحملها الى العالم ومن يدافع عنها ويتضامن معها اكثر من السابق. ووفرت المشاركة الفلسطينية في المفاوضات حماية سياسية اوسع للانتفاضة، ووضعت قيودا اضافية على حركة البطش والارهاب الاسرائيلي، فبات الترانسفير الجماعي مثلا شبه مستحيل، والابعاد الفردي قضية دولية كبرى. وفتحت آفاقا دولية لتوفير مزيدا من الدعم الاقتصادي لشعب الانتفاضة. ودعم قضايا حقوق الانسان الفلسطيني.
سادسا) تكريس وجوه وشخصيات وطنية داخل الارض المحتلة باعتبارها امتدادا لقيادة م.ت.ف، وترافق ذلك مع توفر شيء من الحماية السياسية الدولية لهذه الشخصيات.
ان تكريس مثل هذا المكسب وتوسيعه يساعد ولا شك في الشروع الجدي في بناء بعض الاطر والمؤسسات الرسمية داخل الاراضي المحتلة. وفي هذا السياق فربما اصبحت اللحظة مناسبة الان لتسمية اعضاء المجلس الوطني واملاء شواغر ال 180 مقعدا المقررة للداخل ضمن عضوية المجلس. وأظن ان تسمية الاخوة أعضاء الوفد وفي لجنة التوجيه واللجنة القيادية والاخوة المستشارين الاعضاء في المجلس الوطني والمجلس المركزي أمرا يستحق التفكير فيه، والتدقيق في ردود فعل الاخرين عليه. وكذلك في فوائده وآثاره الايجابية على الصعيد الوطني.
سابعا) ركز المفاوض الفلسطيني على امتداد جلسات وجولات المفاوضات على قضية وقف وتجميد الاستيطان ويمكن القول انه نجح في تحويلها الى قضية دولية كبرى، حظيت باهتمام كل المشاركين في مؤتمر السلام. ووقفت قوى دولية الى جانب المطلب الفلسطيني العادل بشأن وقف وتجميد الاستيطان باعتباره عملا يعرقل السلام. واظن ان خروج الليكود من السلطة مكسبا آخر. ولا شك ان معركة القروض والاستيطان كانت سببا رئيسيا في ذلك. صحيح ان الجانب الفلسطيني بكل طاقاته وبراعته لم يستطع الزام اسرائيل بوقف او تجميد الاستيطان بشكل كامل، لكن اضطرار رابين الى الاعلان عن وقف بناء مستوطنات جديدة، وعن تجميد بناء سبعة آلاف وحدة سكنية كانت في طريقها للانشاء يعتبر مكسبا ما كان له ان يتحقق لو تمت مقاطعة عملية السلام. صحيح ان رابين سيواصل بناء أحد عشر ألف وحدة سكانية، ولكن الصحيح أيضا أن المفاوضات لا زالت متواصلة ومعركة الاستيطان لم تتوقف.
وأعتقد ان قيام سلطة فلسطينية انتقالية يسهل الى حد كبير خوض هذه المعركة وتحقيق انجاات مهمة فيها.
ثامنا) قبل افتتاح مؤتمر مدريد كانت الاوضاع العربية في أوج تفككها وكانت العلاقات في أوج توترها. ورغم استمرار هذا التفكك والضعف والتنافر العربي فالواضح ان عملية السلام، ودخول العرب فيها كانت عاملا مساعدا على عودة بعض الروح للتضامن العربي مع القضية الفلسطينية. لقد تبنى العرب المشاركين في عملية السلام موقفا من المتعدد والثنائي يقول بترابط التقدم بين المسارين وترابط الحل على الجبهات العربية كافة. وهذا ومعه ما صدر من مواقف وبيانات عن اجتماعات وزراء الخارجية الخماسي او السباعي تؤازر الموقف الفلسطيني يمكن اعتبارها مكاسب تحققت على ارضية المشاركة الفلسطينية في عملية السلام. واظن ان طريق المقاطعة كان سيقود حتما الى تعرضا لجانب الفلسطيني شعبنا ومنظمة الى ضغوط كبيرة نتائجها مدمرة ووخيمة.
تاسعا) ساهمت المشاركة الفلسطينية والسياسية الواقعية التي انتهجتها م.ت.ف في تمكين قوى السلام في اسرائيل من تعزيز مواقعها، وقدمت لها اسلحة فعالة للتعبير عن آرائها ومواقفها بكل صراحة ووضح. ان وجود أربعة عشر عضوا في الكنيست من حزب اسرائيلي ينادون بدولتين لشعبين وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ويعترفون بالمنظمة كممثل شرعي لهذا الشعب يعتبر ولا شك مكسبا للقضية الفلسطينية، وتزداد قيمته اكثر فأكثر عند احتساب عدد المؤمنين بذات المواقف من حمائم حزب العمل. وعند التدقيق في الصراعات المحتدمة الان بين الاحزاب الاسرائيلية حول عملية السلام ومتطلباتها، وحول الموضوع لفلسطيني ارضا وشعبا ومستقبل العلاقات، تحققت على ارضية المشاركة الفلسطينية في عملية السلام.
عاشرا) الواضح ان المشاركة في عملية السلام احدثت انقساما داخليا، وتسببت في ازدياد التصدع في نسيج الوحدة الوطنية، رصيد الشعب على مدى عشرات السنين من النضال. وفي سياق فهم هذا الاثر والانعكاس السلبي لعملية السلام على الاوضاع الفلسطينية الداخلية اعتقد ان من الضروري التأكيد على ان وقوع خلاف وانقسام سياسي حول المشاركة في عملية السلام أمر طبيعي تماما، وتعبير عن حالة صحية يعيشها الفكر السياسي الفلسطيني. فالعملية السياسية ليست حدثا عاديا في تاريخ القضية الفلطسينية. بل هي عملية تاريخية، سوف تمس بنتائجها المصير الوطني برمته. وقضية من هذا المستوى تستحق ان يختلف الشعب الفلسطيني وان تختلف وتتباين قواه السياسية حولها ومن ألفها الى يائها.
الا ان تحميل العملية السياسية كل المسؤولية عن كل الخلافات الحاصلة في الساحة الفلطسينية وعن كل التصدعات الكثيرة الموجودة في بنيان الوحدة الوطنية امرا فيه الكثير من التجني المفتعل، وفيه القليل من الموضوعية في اطلاق الاحكام. فالمعروف ان الساحة الفلسطينية لم تشهد منذ منتصف السبعينات توافقا سياسيا. وحتى لا يعمم الموضوع، يمكن القول انها لم تشهد طيلة فترة الانتفاضة، قبل وبعد المبادرة الامريكية ومؤتمر السلام اي توافق سياسي مطلق. ولا أظن ان الساحة الفلسطينية ستشهد يوما ما مثل هذا التوافق. فالخلاف مع حماس ليس جديد، وهو قائم منذ الايام الاولى للانتفاضة، ولم تكن المشاركة في عملية السلام ومؤتمر مدريد اول خلاف جوهري يختلف حوله داخل صفوف م.ت.ف خلال فترة الانتفاضة. فقد سبقه خلاف حول الموقف من القرار 242 وحول الموقف من اعلان الاستقلال ومن مبادرة السلام الفلسطينية. وكذلك الخلاف حول النقاط العشر المصرية وحول النقاط الخمس التي طرحها الوزير بيكر. موضوعيا يجب الاعتراف ان الخلاف الحاصل حاليا هو الاشد، وان نتائجه قد تكون اكثر خطورة خاصة اذا واصلت القوى المعارضة السير في الطريق الذي بدأت تسير فيه وتحديدا منذ وقوع الاشتباكات المسلحة بين حركة حماس وحركة فتح في قطاع غزة. ومنذ خرج الخلاف السياسي عن منحاه الديمقراطي ودخل في دهاليز الاتهامات، وسراديب الارهاب الفكري والجسدي احيانا. وايضا مع بدء دخول قوى عربية واسلامية(26) على خطوط الخلافات الفلسطينية الداخلية وشروعها في تغذية هذه الخلافات وفي دفع العلاقات الوطنية نحو اتجاهات ومسارات لا ديمقراطية. لقد اكدت تجارب الحركة الوطنية الفلسطينية على مدى ربع القرن الاخير ان كل الخلافات الفلسطينية واشدها تعقيدا يسهل حلها ومعالجتها طالما بقيت فلسطينية الاساس وفلسطينية الدوافع والمنطلقات. واكدت في الوقت نفسه ان ابسط القضايا الخلافية واصغرها يمكن ان تتحول الى متاريس اسمنتية يصعب اختراقها اذا كانت لها صلات وابعاد عربية.
وفي سياق الحديث عن دور عملية السلام في تأجيج الصراعات الفلسطينية الداخلية، لعل من الضروري الاشارة الى أن قرار المشاركة في مؤتمر السلام تم اتخاذه في الاطر التشريعية الفلسطينية، وفقا للأصول الرسمية وبطريقة ديمقراطية. فالكل يعرف ان المجلس الوطني وضع اساسا وضوابطا للمشاركة في عملية السلام، وكلف اللجنة التنفيذية بمتابعة الجهود والاتصالات مع القوى والاطراف المعنية من أجل تأمين هذه الاسس وتلك الضوابط، وبذات الوقت كلف المجلس الوطني صلاحية البت النهائي للمجلس المركزي(27) في ضوء نتائج الاتصالات التي تجريها ل.ت. وفي ضوء المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. ولاحقا وبتاريخ 18/10/29 عقد المجلس المركزي اجتماعه بالنصاب القانوني الكامل، وبحضور الشيخ عبد الحميد السائح رئيس المجلس الوطني والاخ ابو عمار رئيس اللجنة التنفيذية، ودرس نتائج الجهود التي بذلتها ل.ت واتخذ في ضوء تقديره للمصلحة الوطنية العليا قرارا صريحا لا لبس فيه بالمشاركة في العملية السياسية(28). حيث صوت مع القرار 54 عضوا، وصوت ضده 16 عضوا.
وبنتيجة هذا التصويت تمت المشاركة في مؤتمر مدريد، وبرز في الساحة الفلطسينية اتجاهان اقلية تعارض واغلبية تقود العملية مسترشدة بالقرار. ان الاعراف والتقاليد الديمقراطية الفلسطينية، تعطي للاقلية كما جرت العادة حقها في المشاركة في القيادة اليومية، مع احتفاظها في الوقت نفسه بحقها في التعبير عن رأيها وعن وجهة نظرها في كل القضايا السياسية والتنظيمية اليومية. وتفرض عليها في الوقت نفسه عدم القيام بكل ما من شأنه عرقلة او تعطيل قدرة الاغلبية على تنفيذ قرارات المؤسسة التشريعية.
وفي سياق المحاججة بين الاقلية والاغلبية طرحت مؤخرا فكرة اجراء استفتاء للشعب الفلسطيني(29) حول اي اتفاق يتم التوصل له بين الوفد الفلسطيني والوفد الاسرائيلي. ان طرح مثل هذه الافكار يساعد على ابقاء الصراع بين الاتجاهين ضمن دائرة الديمقراطية. ولا أظن ان فلسطينيا واحدا يرفض اشراك شعبه مباشرة في تقرير نتيجة مصيرية مثل الاتفاق مع اسرائيل (أي اتفاق). وحتى تأخذ هذه الفكرة مداها وتتحول من قضية وشعار يستخدم لتأجيج الصراع فلا بد من مناقشتها ضمن الاطر الشرعية للمنظمة، لأن مطلب الاستفتاء له موجباته، ومنه تشتق العديد من الاسئلة الاسياسية الكبرى. منها: هل نقبل باجراء استفتاء يشرف عليه جيش الاحتلال؟ وهل يمكن استفتاء كل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج؟ واذا تعذر اجراء الاستفتاء في الخارج هل نقبل نتيجة استفتاء الداخل..الخ من الاسئلة التي تحتاج الى قرارات مسؤولة تتخذها المؤسسات التشريعية الفلطسينية. وتحتاج الى توحيد الجهود لانتزاع القرارات الدولية الممكنة والقادرة على تهيئة افضل الظروف لشعبنا ليدلي برأيه بكل حرية وديمقراطية، وبعيدا عن كل اشكال القهر والابتزاز.
لا شك ان الخلاف والتباين حول عملية السلام سيزداد كلما تقدمت المفاوضات. ولا مبالغة ف يالقول ان الديمقراطية الفلسطينية والفكر السياسي الفلسطيني مقدمان في الاشهر القليلة القادمة على اختبار مصيري. شروط النجاح فيه متوفرة. في بناء معادلة تقوم على وضع المصلحة الوطنية فوق أية اعتبارات أخرى. وتمكن المعارضة الفلسطينية من التعبير عن رأيها بكل السبل والوسائل الديمقراطية. والحفاظ على المكاسب والانجازات التي تحققت حتى الان والعمل على تنميتها بغض النظر عن رأي المعارضة فيها. ومواصلة التعاطي الايجابي مع عملية السلام وفقا لقرارات الشرعية الفلسطينية.
بعد هذا الاستعراض الاجمالي لنتائج وانعكاسات عملية السلام على ثلاثة اطراف رئيسية فيها (الادارة الامريكية والفلسطينيين واسرائيل) يتبين انها جميعا حققت حتى الان مكاسب وحصدت نتائج ايجابية من مشاركتها في العملية، رافقتها بعض التفاعلات الداخلية التي تحمل في طياتها عددا من المؤشرات السلبية لم تصل في حدتها الى مستوى التأثير على مسار عملية السلام ككل او على استمرار مشاركة اي من الاطراف فيها.
ويمكن القول ايضا ان كل هذه الانجازات والمكاسب معرضة للتبخر السريع والاندثار وان قوة ثباتها واستقرارها وتطورها وتوليد مزيد من القناعات بقيمتها واهميتها عند هذا الطرف او ذاك ضمانته الوحيدة هو عدم العودة الى الوراء. وتحقيق مزيد من التقدم الجدي في المفاوضات. والوصول الى اتفاقات عادلة متوازنة وخالية من قاهر ومقهور.
فهل ستتمكن عملية السلام بخصائصها وميزاتها التي لا زالت تملكها، وبنتائجها التي توزعت على المشاركين فيها، وبما كرسته في جولاتها الستة السابقة، من دخول عامها الثاني بذات الزخم الذي بدأت فيه من مدريد؟؟. أم أنها شاخت في عامها الاول؟ ولا آفاق مستقبلية لها..؟. لا شك ان الجولة السابعة ستحمل بعض الاجابات الاولية على كل هذه الاسئلة المطروحة. وحتى ذلك الحين سنحاول في القسم الاخير (الرابع) من هذه الدراسة استشفاف بعض الافاق المستقبلية لمؤتمر السلام.
ب

القسم الرابع

الآفاق المستقبلية

في الاقسام الثلاث السابقة استعرضنا ميزات وخصائص العملية، ومسيرة المفاوضات في ست جولات، ونتائجها وانعكاساتها على الاطراف الرئيسية فيها. واستكمالا لعملية المراجعة والتقييم لا بد من محاولة استشفاف الآفاق المستقبلية القريبة لهذه العملية. ومن ضمنها مدلولات توقيت الجولة السابعة قبل الانتخابات الامريكية.
وأعتقد أن التباين الحاصل الان في صفوف الباحثين والمفكرين والسياسيين الفلسطينيين والعرب والاسرائيليين والمهتمين بشؤون المنطقة حول آفاق ومستقبل المفاوضات امر طبيعي وموضوعي. فالمعروف ان حمولة قطار السلام الشرق اوسطي ثقيلة ومتنوعة الصنوف والاشكال بما في ذلك قضايا قابلة للاشتعال وبعضها قابل للانفجار. والمعروف ان طريقه طويل جدا ومعقد وانه يسير وسط حقول من الالغام. وهذه القراءة لمستقبل عملية السلام تستند الى الوقائع والظروف والمعطيات القائمة حاليا، وهي حتما عرضة لنسبة من الخطأ والصواب وتندرج في باب التقديرات، وتتأثر بكل تطور دراماتيكي قد يقع هنا او هناك. ورغم التقدير باستبعاد مثل هذه التطورات، الا ان الشرق يبقى مسرحا وميدانا للمفاجئات. وعدم القدرة على الوصول الى تحديد دقيق وكامل لكل النتائج وللمستقبل النهائي للمفاوضات لا يعني اتخاذ موقف سلبي مسبق من المشاركة فيها، او تبني مقاطعتها او الدفع باتجاه تعليقها بانتظار الحصول على guaranty. فالمفاوضات ميدان مساومات. والمفاوضات ساحة صراع وميدان قتال والدخول فيها من عدمه يتم بناء على حسابات عملية دقيقة ومجردة من العواطف للظروف المحيطة لحظة اتخاذ القرار. اما نتائج المفاوضات فتقررها ولا شك موازين القوى وبراعة المفاوض في استخدام حججه واوراق قوته، وايضا قدرته على عزل خصمه، وتحييد ما يمكن تحييده من اعدائه وخصومه، وتوسيع جبهة حلفائه.
واستنادا للتحليل والتقييم الوارد في الاقسام الاولى من هذه الدراسة يمكن تثبيت ما يلي:

أولا – المفاوضات قابلة للتواصل:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل مغادرتهم واشنطن يوم 24 /9 /92 اتفق رؤساء الوفود الاسرائيلية والفلسطينية والسورية واللبنانية والاردنية مع الراعي الامريكي على العودة يوم 21 اكتوبر الحالي لعقد الجولة السابعة من المفاوضات، وحددوا مدتها الزمنية بشهر تقريبا. وبغض النظر عن الذي اقترح وحدد هذا التاريخ فالواضح ان الموعد يسبق الانتخابات الامريكية باسبوعين تقريبا، والجولة ستتواصل اسبوعين بعدها. فهل لهذا التوقيت علاقة بالانتخابات الامريكية؟ أم ان له مدلالوت اخرى تتصل برغبة الاطراف في تواصل المفاوضات؟ لا شك ان التوقيت ليس بريء من تهمة الاستخدام في الانتخابات، لكنه في الوقت نفسه، يأتي منسجما مع المعطيات الدولية والاقليمية المحيطة بعملية السلام والتي تدفع باتجاه تواصل المفاوات وعدم توقفها في كل الظروف وكل الاحوال.
واذا كان القرار بعقد الجولة السابعة يضمن تواصل المفاوضات حتى اواخر تموز 92 ، فالمعطيات الدولية والاقليمية تشير الى ان افق تواصلها مدة عامها الثاني مفتوحا على مصراعيه.
فنتائج الجولة السادسة لم تكن سلبية في مجال تواصل المفاوضات، بل انها اظهرت رغبة كل الاطراف في الاستمرار في التفاوض وتأكيدا حدد موعد جولتها الجديدة في وقت سيكون الراعي الاساسي في أوج انشغاله في قضاياه الداخلية. وكل الوفود غادرت واشنطن وهي تحمل في حقائبها ملفات فيها مشاريع واوراق عمل تحتاج الى دراسات معمقة. وبغض النظر عن امكانية التوصل الى نتائج محددة في الجولة السابعة بين هذا الطرف او ذاك او بين كل الاطراف، فالواضح والمؤكد ان ملفات الجولة القادمة سوف تكون بحاجة لوقت طويل والى جولات اخرى ثامنة وتاسعة وعاشرة قبل اختتام مناقشاتها ومناقشة ملحقاتها وتوابعها.
وبتمعن مواقف ومصالح الاطراف الدولية والاقليمية والراعي الاساسي من مسألة تواصل المفاوضات يتبين:
1) من قراءة الوضع الدولي بعد عام من بدء المفاوضات يمكن القول ان الاجماع الدولي حول دعم مسيرة السلام في الشرق الاوسط لا زال قائما كما كان عند انطلاق المسيرة. ولا يلاحظ لا فتور في الموقف ولا بروز منافسين او مشاغبين دوليين، ولا متضررين دوليين من تواصل عملية السلام في الشرق الاوسط، او من نتائجها التي تحققت حتى الان او تلك التي يمكن تحقيقها في العام القادم. فالملاحظ عكس ذلك، اذ يلمس حرص كل القوى الدولية على تواصل العملية، وعلى تقدمها. ويلحظ دفعها المتواصل للاطراف المتفاوضة نحو التقدم في المفاوضات ونحو التوصل الى اتفاقات. فالدول المشاركة في المتعدد الاطراف والبالغ عددها اربعين دولة تقريبا ابدت على امتداد العام الماضي، وفي الاجتماعات الاخيرة لبعض اللجان حرصا متزايدا على تواصل المفاوضات وعلى تقدمها.
2) اذا كانت دوافع ومحفزات الادارة لاطلاق مبادرتها نحو صنع السلام في الشرق الاوسط ورعايتها لها هي تأمين مصالحها الاستراتيجية لسنوات طويلة قادمة من خلال خلق استقرار دائم او شبه دائم فيها، فهذه المصالح ما زالت قائمة والمهمة لم تنجز بعد وبحاجة الى مزيد من المتابعة للاستكمال. ولعل الاستخلاص الرئيسي الذي توصلت له الادارة الامريكية بعد عام من المفاوضات هو ان الطريق سالكة امام مبادرتها، وان الظروف ناضجة لتحقيق مزيدا من التقدم والنجاح. ولم يظهر حتى الان سببا واحدا يدفع الادارة الامريكية للتراجع عن مبادرتها وعن رعايتها للعملية بل ان كل ما ظهر خلال عام يشجعها ويحفزها على مواصلة دورها. وفي هذا السياق لعل من الضروري البت بمسألة تأثر مسار العملية بنتائج الانتخابات الامريكية. صحيح ان وصول المفاوضات الى اتفاقات ما قبل الانتخابات الامريكية يعزز الموقف الانتخابي للرئيس بوش، لكن الخبراء في الشؤون الامريكية يجمعون تقريبا على ان اهتمامات الناخب الامريكي تتركز الان حول قضايا أخرى غير السياسة الخارجية، وان نسبة ضئيلة لا تتعدى 3 % يعيرون السياسة الخارجية اهتماما عند التصويت. ولهذا أظن ان من الخطأ ربط توقيت الجولة السابعة للمفاوضات بتوقيت الانتخابات الامريكية فقط.
أما بشأن التقدير القائل بأن سقوط بوش في الانتخابات ونجاح منافسة الديمقراطي فيها، سيؤثر على تواصل المفاوضات وعلى مدى الاهتمام الامريكي بها، فأظن ان مثل هذا التقدير يسقط من الاعتبار ان الادارة الامريكية تعمل وفقا لاستراتيجية تقوم على تخطيط بعيد المدى بما يضمن لها مصالحها الاستراتيجية ولا أظن أن خروج الجمهوريين من البيت الابيض ودخول الديمقراطيين اليه سيؤدي الى تغير جوهري في الاستراتيجية الامريكية في المفاوضات. ان أقصى ما يمكن ان يتركه مثل هذا التغيير ان حصل هو تخفيف زخم الدفع الامريكي للعملية لفترة زمنية قصيرة لا تتجاوز بضعة أشهر قليلة (فترة التسليم والاستلام). فلا البرنامج الانتخابي للحزب الديمقراطي ولا مواقفه السابقة تدلل على عدم اهتمام هذا الحزب بقضايا الصراع في المنطقة. وبغض النظر عما ينقل لقيادة المنظمة من هذا الزعيم او ذاك من الزعماء الديمقراطيين حول درجة اهتمام الديمقراطيين بحل قضايا الصراع في المنطقة، فالمعروف ان اتفاقات كامب ديفيد تمت في عهد الرئيس الديمقراطي السابق كارتر.
3) صحيح ان تواصل المفاوضات وتقدمها ليس مرهونا بالموقف الامريكي او مواقف الاطراف الدولية الاخرى المشاركة فيها فقط، وان مواقف اطراف الصراع المباشر حاسمة في ذلك، ولكن الصحيح ايضا ان كل هذه القوى الاقليمية ليست في وضع يمكنها من التصادم المباشر لا مع الادارة الامريكية ولا مع القوى الدولية الاخرى. ولم يبد أي منها حتى الان موقفا يفهم منه رغبة في قطع او تعليق او تجميد المفاوضات. ومن المعروف ان الوضع الاسرائيلي الجديد قام ونشأ على أنقاض سلفه، الذي تصادم مع الادارة واصطدم مع الانتفاضة ومع الواقعية السياسية الفلسطينية، وبغض النظر عن صدق نوايا القيادة الاسرائيلية الجديدة (العمل)، فمواقفها المعلنة وسلوكها العملية في الجولة السادسة، (الاولى) التي شاركت فيها، توحي ولو ظاهريا بأنها راغبة في تواصل المفاوضات وفي التوصل الى نتائج ملموسة. وبغض النظر عن النوايا، فالواضح ان مصير حزب العمل، ومستقبل الائتلاف الحكومي في اسرائيل، ورابين نفسه، بات مربوطا ومرهونا الى حد كبير بمسار المفاوضات الفلسطينية والعربية-الاسرائيلية. ففشل المفاوضات وانهيارها يعني عند الناخب الاسرائيلي فشل البرامج التي على أساسها انتخب رابين وكتلة حزب العمل، وذات الشيء ينطبق على ميرتس. اما الاطراف العربية فالمعروف ان بعضها دخل المفاوضات تجنبا للصدام مع الراعي الامريكي واستراتيجيته الشرق أوسطية، وتجنب التصادم مع الرأي العام العالمي المنادي بالسلام في الشرق الاوسط، ومع الاطراف الدولية الاخرى الداعمة والمشاركة في المسيرة. وان بعضها الاخر دخلها على امل انتزاع بعضا من حقوقه المغتصبة عبر ايجاد نقاط تقاطع بين مصالحه الوطنية بأهدافها المباشرة مع استراتيجية الادارة الامريكية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. والواضح ان الادارة الامريكية قد نجحت حتى الان في تطويق الاطراف المعنية بالصراع المباشر، واحاطتهم بظروف، ووضعتهم في اوضاع يصعب على اي منهم التمرد عليها او الانسحاب منها، وأجدت أيضا الكثير من المشجعات والمحفزات لكل الاطراف كي يستمروا في المفاوضات، بما في ذلك امل تحقيق بعض المكاسب، وتحقيق بعض المطالب والاهداف، سواء من خلال المقايضات، او من جيوب الاخرين المساعدين من أوروبيين ويابانيين وكنديين وامريكيين.

ثانيا – المفاوضات طويلة جدا ومعقدة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعل من المفيد تحت هذا العنوان استذكار بعض المواقف الفلسطينية والعربية والدولية التي سادت عشية افتتاح مؤتمر مدريد. حيث ظهر في حينها تقديران متناقضان. الاول بسط الامور، وصغر الصعوبات وتصور ان هناك مشروعا امريكيا متكاملا تفصيليا معد سلفا وسيفرض على كل الاطراف. وتوقع نتائج وحلول سريعة، وتنبأ بوصول الاطراف الى اتفاقات هامة خلال فترة عام من المفاوضات. أما الرأي الاخر فقد مضى بعيدا في تشاؤمه لدرجة انه لم يستطع رؤية المتغيرات الدولية والظروف النوعية التي احاطت بالمحاولة الامريكية الجديدة. واستخدم مقياس قديم لحساب اوزان نوعية جديدة. وتوقع فشل المفاوضات بعد جولة او جولتين منها وبعد الانتهاء من “احتفالات ومهرجانات” مدريد، ولم يستطع تصور استمرارها مدة عام كامل.
والان وبعد 6 جولات من لمفاوضات، وفي ضوء ما قدم من مشاريع واوراق، وما ظهر فيها من مفاهيم وافكار متباينة ومتعاكسة حول الاهداف التي حددها راعي المؤتمر في رسالة الدعوة وحول سبل تنفيذها لا يمكن الفرار من الاقرار بأن المفاوضات ستكون طويلة جدا، وشائكة ومعقدة. وسوف تمتد سنوات وسوف تتخللها توترات وتشنجات متبادلة، حادة جدا. وعلى كل حال يستطيع من يدقق في رسالة الدعوة وكتب التطمينات ان يتلمس بوضوح ان مهندس العملية (الوزير بيكر) لم يخدع أي من الاطراف المشاركة في العملية بغض النظر عن موقفها فيها وعن صفة دخولها لها. فقد نصت رسالة الدعوة على أن المفاوضات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي سوف تستغرق خمس سنوات. هذا اذا لم يلجأ اي من الاطراف الى تضييع بعضا من الوقت الطويل او القصير كما فعل شامير.
صحيح ان قضايا الخلاف على المحور الفلسطيني-الاسرائيلي هي الاعقد والاصعب، لكن من غير الصحيح اطلاقا تبسيط وتصغير قضايا الخلاف على محاور المفاوضات الاخرى. فمعالجة قضايا الخلاف على محاور المفاوضات الاخرى. ان معالجة قضايا الارض والانسحابات والامن والمياه والتسليح وتشعباتها وبتطبيقاتها الميدانية، سيحتاج الى جولات طويلة من المفاوضات قد تستغرق في مجملها بضع سنوات. هذا اذا استثنينا قضايا تطبيع العلاقات ومستلزماتها. طبعا مع التمييز بين مسألة التوصل الى اتفاقات (ما) جزئية او شاملة وبين استكمال تطبيق وتنفيذ ما يتفق عليه على ارض الواقع. فقد تتمكن الاطراف المتفاوضة كلها او بعضها من التوصل الى اتفاقات (ما) في غضون شهر او بضعة شهور مثلا ولكن ذلك لا يعني توقف وانتهاء المفاوضات، فالتطبيق والتنفيذ الكلي قد يستغرق بضعة سنوات يتخللها مزيدا من المفاوضات. ولعل تجربة المفاوضات المصرية الاسرائيلية وتطبيق اتفاقات كامب ديفيد نموذجا لذلك. وفي ضوء ذلكه كله لا اظن اننا نستبق الامور ونجازف اذا استخلصنا ان دول وشعوب منطقة الشرق الاوسط سوف تعيش عامها القادم 93 تحت وطأة المفاوضات وتحت وطأة تفاعلاتها وانعكاساتها التي تحملها معها في كل محطة من محطاتها القادمة.

ثالثا – تسويات وليس سلام شامل:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يجري الحديث في بعض الاوسط السياسية الفلسطينيةو العربية حول النتيجة النهائية التي يمكن ان تتمخض عن عملية السلام مع افتراض انها سارت بصورة طبيعية ووفق التوقيتات الزمنية المحددة لها. وكثيرا ما يطرح سؤال هل العملية الجارية توصل الى تسويات مؤقتة او دائمة ام انها ستصنع السلام العادل والشامل والدائم بين الاسرائيليين والفلسطينيين والعرب الاخرين.
وفي سياق البحث عن الجواب الاكثر موضوعية والارب الى الدقة والصواب يمكن القول ان الوصول الى تسوية شاملة لصراع معقد عمره نصف قرن من لزمن دار حول الوجود والحدود معا امرا شائكا وبالغ الصعوبة والتعقيد، خاصة وان هذا الصراع تخلله حروب ودمار وتهجير، تولد عنه احقاد واشكال متنوعة من الكراهية لا حصر ولا عد لها. وبنيت عليه ثقافات تشربها اكثر من جيل من هذا الطرف او ذاك. فاذا كانت التسوية الشاملة صعبة ومعقدة لهذا الحد، فلا شك ان السلام الحقيقي اصعب واعقد بعشرات المرات. وبلوغه يفرض بالضرورة العبور في العديد من الممرات والتوقف بالضرورة في الكثير من المحطات.
وبدراسة موضوعية لاسس الدعوة وللقواعد التي قامت عليها المفاوضات وخاصة في المسار الفلسطيني الاسرائيلي يمكن القول انها توصل الى تسويات شاملة في احسن الاحوال. أما السلام العادل فله قواعده ومرتكزاته التفاوضية مختلفة تماما.
التسوية يمكن فرضها فرضا، كما يمكن الوصول لها بالتراضي عبر تنازلات متبادلة ومساومات متنوعة. كما يمكن التفاوض حولها من اوضاع غير متكافئة، وعلى قواعد واسس مجحفة لاحد الطرفين، كالتي وردت في رسالة الدعوة، وتجري على اساسها المفاوضات في واشنطن. اما السلام الحقيقي الشامل والدائم فلا يمكن ان يقوم الا بعد تصفية كاملة للماضي ومآسيه، وان تتم التصفية من مواقفع متكافئة بين الطرفين. لا يشعر اي منهما بانه مكره على تقديم هذا التنازل او ذاك. او انه مضطر لقبول حل ما لا يلبي حقوقه في حدودها الدنيا عملا بالحكمة القائلة “شيء قليل افضل من لا شيء”.
تعرف القيادة الاسرائيلية، ويعرف الراعي الامريكي ان لفلسطينيين قبلوا الدخول في عملية البحث عن السلام في الشرق الاوسط على اسس غير مرضية لهم، وفي ظروف غير متكافئة مع عدوهم. ولهذا فهم مقتنعون أنهم متوجهون ال تسوية ما. وهي من الان وبعد خمس سنوات لن تكون ملبية لحقوقهم الوطنية حسب قناعتهم. وهم منذ الان لا يخدون احدا، كما لا يخدعون انفسهم. يؤمنون بالسلام العادل ولاشامل والدائم ولكنهم لا يعتقدون ان المفاوضات الجارية باسسها وبالاساليب المتبعة فيها هي التي ستوصل لسلامهم المنشود. يؤمنون انها قد توصل الى تسوية شاملة تفتح نافذة او باب على السلام المنشود. والذي يتطلب جهودا جبارة من الطرفين وصراع قاسي مع الذات ومع الاخرين.
اما بشأن التسوية او التسويات المحتملة كنتيجة للمفاوضات الجارية، فقراءة الاوراق والافكار التي تبادلها الوفود في الجولة السادسة تشير الى ان الوصول الى تسويات جزئية او مرحلية في مسار المفاوضات السورية الاسرائيلية، واللبنانية الاسرائيلية امرا ممكن التحقيق خلال فترة زمنية قصيرة. وربما نشهد مقدماته الاولية والعملية في الجولة القادمة من المفاوضات. فالاوراق السورية والاسرائيلية تؤهل الطرفان للتوصل الى اعلان مباديء الذي تقدم به الوفد السوري في بداية الجولة السادسة يصلح كاساس للبحث والنقاش كما قال ايتمار رابينوفيتش. وبشيء من التدخل المباشر من الراعيين يمكن تحويله من اساس للمفاوضات الى اتفاق مباديء تحكم مسار المفاوضات الاسرائيلية السورية في الشهور وفي الجولات اللاحقة. أما مفاوضات المسار الفلسطيني الاسرائيلي والاردني الاسرائيلي التي بقيت متعثرة على الاول، وشبه متعثرة على الثاني، فيمكن لها ان تشهد في الجولة السابعة بعض (الحلحلة). لا بل تسريع حركتها وتلحيقها بالمستوى الذي بلغته المفاوضات السورية الاسرائيلية، شريطة ان يتخلى المفاوض الاسرائيلي عن مناوراته وتكتيكه الذي سلكه في الجولة الاخيرة من لمفاوضات. وان يعيد النظر في مشروعه للحكم الانتقالي الفلسطيني المؤقت الذي قدمه في الجولة الاخيرة من المفاوضات والذي تفصله مسافة كبيرة عن نتائج المباحثات المصرية الاسرائيلية التي جرت عام 80 – 81 حول الحكم الانتقالي الفلسطيني كما لخصها صول لينوفيتش في تقرير خاص رفعه للرئيس ريغان(30).
واذا كان من غير المنطقي مطالبة رابين بكشف اوراقه دفعة واحدة ووضعها على طاولة المفاوضات فمن غير المعقول وغير المنطقي ان يبدأ رابين بأقل من الذي ورد في قرارات مؤتمر حزب العمل وبأقل مما صرح به شخصيا، واقل مما تم التوصل له قبل أكثر من عشر سنين. ولعل من لمفيد التأكيد على ان محاولة خلق تناقضات وتعارضات فلسطينية-عربية او استثمار اي تقدم على اي من المحاور العربية للضغط على المفاوض الفلسطيني وابتزازه، لا تخدم الهدف الذي من أجله انطلقت المفاوضات، لا بل قد يكون مردوده عكسيا ويولد العديد من ردود الفعل ويخلق بعض الانعكاسات السلبية على مواقف القوى الواقعية وعلى علاقاتها مع جمهورها المؤيد والدائم للسلام وبالمقابل اعتقد أن كل محاولة لاستثمار التقدم الجزئي او الواسع على هذا المحور العربي او ذاك باتجاه احداث تغيير جوهري في اساس العملية سيؤدي الى ضياع مزيد من الوقت الذي يمكن توظيفه في التقدم على المسار الفلسطيني الاسرائيلي وفي التوصل الى اعلان مباديء واتفاقات اولية او كاملة. واعتقد ان الجانب الفلسطيني مطالب بالتعامل مع 30 اكتوبر كموعد للوصول الى اتفاق حول ترتبيات نقل السلطة باعتباره قضية جوهرية لا تقل عن سواها من القضايا الاساسية المطروحة على النقاش. ومن حقه مطالبة الراعي الامريكي ومطالبة الجانب الاسرئيلي الالتزام بهذا التاريخ المثبت في رسالة الدعوة وكتاب التطمينات.

بعد هذا العرض لخصائص وميزات عملية السلام، ولمسيرتها خلال عام، ونتائجها ومستقبلها ارى ان من الضروري التأكيد على ان المصالح العليا للشعوب العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة تفرض التعامل مع مؤتمر السلام باعتباره ساحة من ساحات الصراع، والتعامل مع المفاوضات باعتبارها شكلا من اشكال النضال ليست بديلة اطلاقا للاشكال الاخرى والتي يجب الاستمرار فيها وتطويرها وتصعيدها قدر الامكان خلال وعلى امتداد فترة المفاوضات. فكل ساحات النضال تكمل بعضها البعض، وكل اشكال النضال تساند وتتم وتعزز بعضها البعض. وكلها تعزز وتقوي الموقف التفاوضي الفلسطيني والعربي، وتقوي وتسند الموقف والموقع التفاوضي للوفود العربية في مواجهة المفاوض الاسرائيلي. ولعل تعامل الاطراف العربية مع المفاوضات على قاعدة المثل العربي الشهير “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا” يعطي لعملية السلام موقعها وحجمها الطبيعي في مسيرة النضال القومي والوطني الفلسطيني الطويلة من اجل استرداد الحقوق الوطنية والقومية المستلبة. ومن أجل تقدم مستقبلا افضل للشعوب العربية ومن اجل السلام العالمي. والترجمة العملية لهذا القول المأثور في مجال المفاوضات تعني تحديد الاولويات الفلسطينية والعربية التي ينبغي التركيز عليها في الجولة القادمة من المفاوضات وما سيليها ضمن اطار استراتيجية شاملة مبنية على حسابات دقيقة لموازين القوى في هذه المرحلة، وعلى قراءة متأنية وواقعية للمرحلة الجديدة التي دخلها النظام الدولي.

وتعني أيضا تحضير وتجهيز الاوضاع الذاتية الفلسطينية والعربية، على المستوى الرسمي والشعبي وتوظيفها في خدمة المصالح الاستراتيجية العليا للشعب الفلسطيني والشعوب العربية ومنع تحولها الى منطلق لصراعات داخلية عبثية مدمرة. ولعل التمسك بالديمقراطية كناظم وحيد لهذه العلاقات مهما تباينت الآراء هو الطريق الوحيد القادر على استيعاب الجميع في مسيرة العمل من اجل تقدم وازدهار الاوضاع العربية كافة. ان احترام الرأي والرأي الآخر هو الخطوة الاولى في المسيرة نحو بناء الديمقراطية الحقيقية والتي لا غنى الان ومستقبلا.

تونس 6 /10 /92
ممدوح نوفل
عضو المجلس المركزي الفلسطيني
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية /التجديد/

¹
المصادر

-رسالة الدعوة لمؤتمر مدريد
-رسالة التطمينات الامريكية للطرف الفلسطيني.
-رسالة التطمينات الامريكية لاسرائيل
-رسالة الدعوة الامريكية لجولة واشنطن الاولى.
-مشروع ال P.S.G.A الفلسطيني الاساسي
-مشروع ال I.S.G.A الاسرائيلي.
-مشاريع الأجندة الفلسطينية التي تقدم بها الوفد
-مشاريع الاجندات الاسرائيلية التي تقدم بها الوفد
-مذكرات الوفد الفلسطيني حول الاستيطان
-مذكرات الوفد الفلسطيني حول حقوق الانسان
-المشروع الفلسطيني “اطار اتفاق حول المرحلة الانتقالية”
-مشروع اسرائيلي “تصور حول المرحلة الانتقالية”
-تقرير المبعوث الامريكي “صول لينوفيتش” لمباحثات الحكم الذاتي المصرية-الاسرائيلية
-المذكرة الاسرائيلية المقدمة للوفد السوري.
-مذكرة الوفد السوري المقدمة للوفد الاسرائيلي
-وثائق الدورة العشرين للمجلس الوطني الفلسطيني
-قرارات المجلس المركزي الفلسطيني

ـــــــــــــــــــ
الهوامش :
ـــــــــــــــــــ
(1) نصت رسالة الدعوة على الاهداف النهائية التالية: This process”
offers the promise of ending decqdes of conforntation and conflict
and the hope of a lasting peace (1m/pc,8)”.
اما رسالة التطمينات الامريكي التي قدمت للجانب الفلسطيني فقد نصت على:
Compreshensive, just and lasging peace (LA,1)
(2) تضمنت رسالة الدعوة ورسالة التطمينات التوقيتات التالية:
Negotiations will be conducted in phases *
Direct bilateral negotiations will begin four days after the *
opening of the conference
Those parties who wish to attend multilateral negotiations *
will convence two weeks after the opening of the conference
* These talks will be conducted with the objective of reaching
agreement within one uear.
(3) قبل انعقاد مؤتمر مدريد قام الوزير بيكر بزيارات لدول المنطقة اسفرت تلك الزيارات عن صياغة رسالة دعوة موحدة Invitation لكل الاطراف وتقديم رسائل تطمينات Letters of assuranses امريكية قدمت للوفد الفلسطيني واخرى لاسرائيل وثالثة للاردن ورابعة لسوريا كما تم تحديد موعد بدء مؤتمر السلام ومكانه وميكانيزم العمل في الثنائي والمتعدد.
(4) حاولت الادارة الامريكية التفرد بحل مشكلة الشرق الاوسط وقدمت عدة مبادرات منها مشروع روجرز في كانون اول 69، كامب ديفيد 78 ، مبادرة ريغان في ايلول 82 ، نقاط بيكر الخمس 89 ، وآخرها مبادرة بوش 6 آذار 91.
(5) These parties who wish to attend multilateral negotiations will convene two weeks …. IM/PC3
(6) سيكون المؤتمر برعاية مشتركة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وستكون المجموعة الاوروبية مشاركة في المؤتمر (رتط9). هذه العملية سوف تسير بمسارين من خلال المفاوضات المباشرة بين اسرائيل والدول العربية واسرائيل والفلسطينيين(رتط).
(7) لا يجب أن تعود مدينة القدس منقسمة مرة أخرى ووضعها النهائي يجب ان يتم تحديده في المفاوضات (رتط).
– ولهذا لا نعترف بضم اسرائيل للقدس الشرقية او توسيع حدودها البلدية(رتط).
(8) وهكذا فان الفلسطينيين احرار في المناقشة من أجل اي نتيجة يعتقدون أنها الافضل بالنسبة لتحقيق متطلباتهم وستقبل الولايات المتحدة اي نتيجة يتفق عليها الاطراف وانسجاما مع السياسة الامريكية القائمة منذ زمن بعيد فاننا لا نستثني الكونفدرالية كنتيجة ممكنة للمفاوضات حول الوضع النهائي (رتط).
(9) راجع قرار المجلس الوطني الفلسطيني في 28 /9 /91 وقرار المجلس المركزي في 18/10 /91
(10) القيادة الفلسطينية هيئة غير رسمية تضم عادة في اجتماعاتها الأمناء العامون للفصائل+عددا من أعضاء المكاتب السياسية للفصائل، عددا من أعضاء المجلس المركزي، أعضاء اللجنة التنفيذية. وهي بمثابة “المطبخ السياسي الموسع”.
(11) لجنة متابعة المفاوضات شكلت بقرار من ل.ت تضم عددا من أعضاء ل.ت وعددا من ممثلي الفصائل المشاركة في المفاوضات. مهمتها متابعة كل المسائل المتعلقة بالمفاوضات وبعمل الوفد. وهي همزة الوصل بين اللجنة التنفيذية والوفد المفاوض، وصلاحياتها محصورة في حدود توجيه عمل الوفد وفقا لتوجهات الهيئات القيادية وخاصة توجهات ل.ت.
(12) تم تشكيل لجنة قيادة للمفاوضات الثنائية وأخرى للمتعدد الأطراف. مهمتها التواجد مع الوفود بصورة دائمة وتوجيه عملها في اطار التوجهات المحددة من قبل اللجنة العليا للمفاوضات وهي مرجعيتهما.
(13) راجع رسالة الدعوة الى مؤتمر مدريد.
(14) The Co-sponsors ore committed to making this process sucead
(15) أصدرت ل.ت بيانا بتاريخ 9/3 /29 رحبت فيه بمبادرة الرئيس بوش
(16) اتخذت القيادة الفلسطينية قرارا بالاجماع بالموافقة على لقاء وفد الداخل مع الوزير بيكر.
(17) راجع رسالة الدعوة لمؤتمر مدريد.
(18) راجع رسالة التطمينات الامريكية للجانب الفلسطيني.
(19) راجع مشروع ال PISGA الذي تقدم به الوفد الفلسطيني في يناير 92.
(20) لم تخل جولة من الجولات من مذكرات رسمية قدمها الوفد الفلسطيني للراعي الامريكي حول اما خرق اسرائيل لرسالة الدعوة في قضايا الاستيطان وحقوق الانسان، أو لتوضيح موقفه من قضية ما.
(21) على أبواب الجولة الاولى/واشنطن وجهت الادارة الامريكية رسائل الى كل الاطراف تتضمن اقتراحات محددة بشأن جدول الاعمال وأساليب البحث. وفي حينها احتجت اسرائيل على الرسائل واعتبرتها تدخلا في المفاضات وأخرت سفر وفدها الى واشنطن بضعة أيام.
(22) راجع جريدة الدستور الاردنية 4 /10 /92
(23)في الجولة السادسة تقدم الوفد الفلسطيني بمشروع اجندة جديدة ومشروع اتفاق اطار للمرحلة الانتقالية الا انها لم تناقش.

(24) خلال زيارته لواشنطن طرح رابين جدول زمني محدد حول الاتفاق على المرحلة الانتقالية والانتخابات.
(25) تحت شعار “أرض اسرائيل الواحدة” عقدت الاحزاب والقوى اليمينية المعارضة لأي انسحاب اسرائيل من الجولان او الضفة والقطاع اجتماعا وحدت فيه صفوفها وانتخبت شارون سكرتيرا.
(26) بتاريخ 17 /9 /92 أصدرت عشر منظمات فلسطينية بيانا مشتركا ضد عملية السلام، وشكلت لجنة متابعة دائمة. وذلك اثر اجتماع عقد في دمشق وبعد سلسلة لقاءات عقدت بين وفد ايراني والمنظمات المذكورة. وتفيد المعلومات أنهم اتفقوا على توحيد صفوفهم بتمويل ايراني واسناد سياسي سوري.
(27) يؤكد المجلس ان المساعي لعقد مؤتمر السلام تتطلب مواصلة العمل مع الاطراف الاخرى لتحقيق الاسس التالية:
1) استناد مؤتمر السلام الى القرارين 242 و 338 التي تكفل الانسحاب الاسرائيلي وتحقيق مبدأ الارض مقابل السلام.
2) اعتبار القدس جزءا لا يتجزأ من الاراضي الفلسطينية المحتلة.
3) وقف الاستيطان.
4) حق م.ت.ف في تسمية الوفد من الداخل والخارج بما في ذلك القدس.
5) تنسيق المواقف العربية بما يضمن الحل الشامل.
6) ضمان ترابط مراحل الحل .
“ان المجلس الوطني يكلف ل.ت بالاستمرار في الجهود الجارية لتوفير أفضل الشروط التي تكفل نجاح عملية السلام وفق قرارات المجلس المركزي. على أن ترفع النتائج الى المجلس المركزي لاتخاذ القرار النهائي في ضوء المصلحة الوطنية العليا لشعبنا”. قرارات المجلس – البيان السياسي الختامي.
(28) “التعامل الايجابي مع العملية السياسية من خلال مؤتمر السلام المزمع عقده. ويقرر المشاركة في المؤتمر بوفد فلسطيني-اردني مشترك على اساس مستقل ومتكافيء. والتمسك خلال مجمل العملية السياسية بالاهداف والاسس التي حددها المجلس الوطني الفلسطيني”.
(29) في بيانها المشترك طرحت المنظمات العشرة مطلبين الأول وقف المفاوضات والثاني اجراء استفتاء للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. القيادة الفلسطينية سمعت بالاقتراح من خلال وكالات الانباء. هذا ولم يتقدم أصحاب الاقتراح بأية افكار او آليات تتعلق بالتنفيذ والتحرك من أجله.
(30) في 14 يناير 81 قدم المبعوث الرئاسي الامريكي صول لينوفتيش تقريرا للبيت الابيض لخص فيه مجموع نقاط الاتفاق والخلاف بين الاسرائيليين والمصريين كمحصلة لمناقشات دامت ما يقارب الثلاث سنوات حول الحكم الذاتي الفلسطيني الانتقالي.