الاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي في الميزان العربي

بقلم ممدوح نوفل في 03/09/1993

أثار الاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي حول اعلان المباديء للمفاوضات عاصفة قوية من ردود الأفعال على كل المستويات العربية والاسلامية والاسرائيلية. البعض رحب والبعض الآخر تحفظ وآخرون عارضوه ورفضوه بشكل منفعل ومتشنج. ولربما كان ضرورياً خلال فترة الغضب والحماس الحالية قول بعض ما يساهم في تخفيف الانفعالات.
من حق كل إنسان فلسطيني أو عربي أو مسلم أن يقول رأيه في هذا الاتفاق دون أن يشعر بأن سيف الارهاب مسلط فوق عنقه. فالقضية الفلسطينية لها أبعادها العربية والاسلامية. فهي القضية القومية المركزية التي أنشد العرب لها نصف قرن من الزمن وقدموا من أجلها الكثير من التضحيات المتنوعة. وتضم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشرفين وبعض الأرض التي باركها الله. وبغض النظر عن مدى غيرة المسلمين ومدى ما قدموه على مدى 27 سنة من أجل تحرير مقدساتهم فمن حقهم أن يقولوا رأيهم في الاتفاق الذي يمس هذه المقدسات. والى جانب العرب وكل المسلمين من حق كل دول العالم وكل القوى الداعية للسلام أن تقول رأيها فيه طالما أنه يؤثر عليهم ويمس مصالحهم بصورة أو بأخرى.
ولكن أظن أن من الضروري التمييز بين أمرين جوهريين وبدون ذلك يصعب التفاهم والنقاش: الحق في قول الرأي في الاتفاق وتحديد الموقف منه سلباً أو ايجاباً، وبين المساس بحق الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد م.ت.ف في تحمل المسؤولية وفي اتخاذ المواقف والقرارات المناسبة، وأيضاً عقد الاتفاقات التي يرون أنها تخدم مصالحهم الوطنية الفلسطينية وتلبي المصالح القومية ولا تمس المتطلبات الروحية للمسلمين. إن حرمان الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد من ممارسة هذه الحقوق مسألة عفى عليها الزمن منذ أن أقر الجميع بأن هناك شعب وله ممثل شرعي ووحيد، عدا عن كونها مساس بالسيادة الفلسطينية وباستقلالية القرار.
والكل يعرف أن الشعب الفلسطيني لم يبخل في تقديم التحضيات من أجل انتزاع حقه ليكون له ممثله الشرعي والوحيد والمعترف به دولياً أسوة بكل أشقائه العرب والمسلمين، وليمنع التدخل في شؤونه الداخلية كما يتصرف الجميع، وليكون له قراره المستقل أسوة بالاخرين. وأعتقد أن هذه المسائل حُسمت منذ زمن بعيد وخاصة منذ جعل النظام السياسي العربي والاسلامي همومه وقضاياه القطرية قضايا خاصة لا يسمح لأحد التدخل فيها ولا يقبلون من أي كان المشاركة في القرارات المتعلقة بها. إن بعض ردود الأفعال العربية والاسلامية قد تكون مقبولة ومفهومة ولكن بعضها الآخر يثير عند الفلسطينيين الكثير من التساؤلات منها: هل قضية الشعب الفلسطيني هي القضية اليتيمة التي لا بد من قومنتها وأسلمتها أم أن كل قضايا الشعوب العربية والاسلامية هي قضايا تهم الجميع (بدءاً من النفط وحتى الجوع)؛ وهل من نظام عربي أو اسلامي يسمح لأي طرف عربي أو إسلامي آخر بمشاركته في تقرير شأن بلده وشعبه؟.. إننا لا نتنجى على أحد اذا قلنا أن بعض ردود الأفعال العربية والاسلامية بعضها مفهوم والآخر يريد جمع الصيف والشتاء في وقت واحد وعلى سطح واحد ويكيل بمكيالين حسب المصلحة والزاج الخاص..!
ولعل بعض العرب والمسلمين وبعض من يشايعهم من الفلسطينيين يقول ألم يكن من واجب م.ت.ف إطْلاع بعض الدول العربية المشاركة في مفاوضات السلام على مجريات المفاوضات السرية التي كانت تجريها مع اسرائيل؟ لا شك أن مثل هذا التساؤل محق ومشروع، والموضوعية تفرض توجيهه لجميع الأطراف العربية المشاركة في المفاوضات. فليس سراً القول أن هناك خللاً كبيراً في التنسيق بين كل الأطراف المشاركة في المفاوضات الثنائية والمتعددة. وهذا الخلل ظهر قبل عامين وقبل الذهاب الى مدريد بالتحديد، وتواصل منذ الجولة الأولى ولا زال حتى الآن وبحاجة الى وقفة مسؤولة وعلاج جاد. فالارتقاء بمستوى التنسيق العربي مسألة كانت ولا زالت وستبقى مهمة وضرورية للجميع الآن وأكثر من أي وقت؛ فاعلان المباديء على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي، واعلانات المباديء اللاحقة على المسارات العربية الأخرى ليست اتفاقات صلح مع اسرائيل وليست اتفاقات نهائية وليست نهاية المفاوضات بل بداية لها فهي مباديء وإطارات وظيفتها تنظيم المفاوضات اللاحقة وتنظيم طرح مواضيعها بطريقة منهجية لا تسمح بتضييع الوقت، واذا صدقت النوايا فقد تساعد على إخراجها من الحلقات والدوائر المفرغة التي دارت فيها طيلة الـ 22 شهراً الماضية. ومن البديهي القول أن التوصل الى إعلان مباديء على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي والوصول الى اعلانات مباديء على المسارات الأخرى هو النتيجة المنطقية للمفاوضات العربية-الاسرائيلية مثلها مثل أي مفاوضات جرت أو تجري في هذا العالم، الا إذا كان هناك طرفاً عربياً ما (لا نعرفه) دخلها وكله أمل أن تفشل.. واذا كان هذا الطرف موجود فهو بالتأكيد لم يفصح عن مواقفه ولم يتشاور فيها مع أحد..!! فالمعروف لجميع الشعوب العربية وجميع دول العالم أن شامير هو الطرف الذي سعى جاهداً لافشالها، أما الأطراف العربية فيعرف الجميع أنها دخلت مفاوضات السلام مع اسرائيل باعتبارها الخيار الوحيد المتاح لها في هذه المرحلة بعدما فقدت كل الخيارات الأخرى، بما في ذلك خيار البقاء في حالة اللاسلم واللاحرب؛ دخلتها وهي تأمل أن تستعيد حقوقها التي استلبتها اسرائيل بالقوة. وفي حينها وعلى أبواب مدريد سجل بعض الأشقاء العرب مأخذاً على م.ت.ف لأنها وافقت على التمثيل المفروض والمجزوء والناقص والبعض الآخر تطرق الى القبول بمبدأ المرحلتين (الانتقالية والنهائية) كمأخذ آخر. وكان الرد الفلسطيني في حينها ملاحظاتكم صحيحة ولكن موازين القوى والظروف الدولية والعربية هي التي فرضت ذلك. ومنذ الدخول الى مدريد وضعت م.ت.ف تصحيح هذين الأمرين نصب أعينها وناضلت بضراروة من أجل تحقيقهما.
ومن قراءة الاتفاق على اعلان المباديء الذي توصلت له م.ت.ف مع حكومة اسرائيل يمكن القول أن مسألة التمثيل تصححت كلياً، أما مسألة المرحلتين فصيغة “غزة-أريحا أولاً” تعالج الموضوع بشكل جزئي قابل للتوسع بتسارع شديد إذا ما هُيئت الظروف الضرورية لذلك وفي مقدمتها إنجاح الاتفاق وإنجاح التجربة في غزة وأريحا وفي الانتخابات. فميكانيزم الاتفاق ووضوح بنوده كافية للضغط على الجميع للتسريع في المفاوضات بشأن المرحلة الانتقالية والنهائية أيضاً.
قد يكون لبعض الأطراف العربية والاسلامية مآخذ على نصوص الاتفاق، لكن الاتفاق يجب أن يٌقرأ قرائتين، واحدة بالجملة وأخرى بالتفصيل. وأعتقد أن من يأخذه بالجملة وبصورة موضوعية لا يمكنه الا أن يرى فيه إطاراً جيداً لمفاوضات لاحقة، وهو بمجمله يعزز مواقع الشعب الفلسطيني ويدعم نضاله اللاحق من أجل انتزاع كل حقوقه الوطنية المشروعة، ويحسن وضع القضية الفلسطينية على كل المستويات ويحقق للشعب الصامد تحت الاحتلال إنجازات محدودة قابلة للتنامي باستمرار. أما من يريد قراءة الاتفاق بالتفصيل فأظن أن عليه أن لا ينسى أن هذا الاتفاق هو القاسم المشترك الممكن بين عدويين تحاربا ما يقارب الخمسين عاماً. وأن أي اتفاق بينهما هو بالمحصلة انعكاس لموازين القوى القائمة لحظة الوصول له ونتيجة للظروف المحيطة بالأطراف المتفاوضة ساعة المفاوضات. وأي اتفاق بين عدوين لن يكون كاملاً وكما يريد أي من الطرفين. ومن حق من قاد المفاوضات أن يقول هذا أفضل الممكن في ظل موازين القوى الدولية والاقليمية القائمة وفي ظل الظروف العربية والاسلامية المحيطة بفلسطين. وبالنيابة عنهم يمكن القول أنه لم يتضمن ما كانوا يتمنون ويرغبون.
ومن باب ذكر الحقائق فقط من الضروري القول أن معظم العرب وغالبية الدول الاسلامية نصحت قيادة م.ت.ف ونصحت الوفد المفاوض بالقبول بتولي السلطات المبكرة التي طرحها الأمريكي والاسرائيلي، ونصحوا بأخذها حتى ولو كانت مجردة وبدون إعلان مباديء. والبعض اعتبر الطرح الفلسطيني لمسألة (غزة-أريحا أولاً) مناورة فلسطينية هدفها تعقيد المفاوضات وتعطيلها وخروج عن صيغة مدريد واستبعدوا قبول اسرائيل بربط أريحا مع غزة وتوقعوا الخيار لخيار غزة-أريحا أولاً أن تطير منه أريحا وأن يرتاح رابين من بلاوي غزة.
وكل قاريء موضوعي للاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي أظنه قادر ببساطة رؤية أن هذا الاتفاق لم يقفل الباب أمام أي موضوع من المواضيع المطروحة في ذهن أي إنسان حريص على تمكين الشعب الفلسطيني من انتزاعه حقوقه الوطنية المشروعة، فما لم يستطع المفاوض الفلسطيني تحقيقه وإدراجه في نص الاتفاق أبقاه معلقاً للمفاوضات اللاحقة. وأعتقد أن واجب كل الغيورين على القضية الفلسطينية وعلى قدسيتها وعلى الحقوق الوطنية القومية والاسلامية فيها، سواء أكانوا عرباً أم مسلمين، أن يدعموا المفاوض الفلسطيني في المفاوضات القادمة وهي الأصعب والأكثر تعقيداً. فالكل يعرف أن الشيطان يكمن في التنفيذ، وليس عسيراً عليه التعطيل والتخريب.
إن أكبر دعم عربي وإسلامي يمكن أن يُقدم للشعب الفلسطيني في هذه الأيام هو دعمه وإسناده لانجاح هذا الاتفاق وتمكين قيادته ومؤسساته من النهوض بالمسؤوليات الكبيرة التي تنتظرها إزاء شعبها وإزاء قضاياه اليومية وتمكينها من الوفاء بكل إلتزاماتها العربية والدولية بما في ذلك ما ورد في هذا الاتفاق.. وبالمقابل يخطيء كل من يعتقد أن بإمكانه أن ينجو من النتائج السلبية لفشل أو إفشال م.ت.ف في تحمل مسؤولياتها الاساسية والاضافية التي ألقاها الاتفاق على كاهلها هذا الاتفاق. فالاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي على إعلان المباديء، والاتفاقات العربية الأخرى اللاحقة أوصلت المنطقة العربية الى مفترق طرق، فإما السير في طريق العصرنة والبناء والتطوير وإما الوقوع في مزيد من الصراعات تؤدي الى مزيد من التدمير الذاتي. ولا شك أن كل المخلصين للقضايا الوطنية والقومية لا بد لهم من أن يقولوا أن أفضل خدمة يؤديها العرب لأنفسهم في هذه اللحظات الحاسمة في تاريخهم ومستقبلهم هي أن ينبذوا الاحقاد القديمة ويوقفوا الصراعات الاعلامية والميدانية الجارية بينهم الآن. وأن يستعدوا جدياً وبشكل موحد لمواجهة التطورات القادمة، وهي في كل الأحوال كبيرة وكبيرة بالتأكيد.. وكل محاولة فلسطينية أو عربية أو إسلامية لتكييل وتوزين الاتفاق الفلسطيني-الاسرائيلي بذات المكيال الذي استخدم مع اتفاقات كامب ديفيد تؤكد أن فكر صاحب المحاولة وقف عند ذلك التاريخ ولم يواكب التطورات المذهلة التي وقعت منذ ذلك الزمن وحتى الآن. وأظن أن لا وقت عند الشعب لانتظاره حتى يلحق بالركب.. فالمنطقة باتت موضعة الآن على سكة القطار السريع وأسرع مما يتصور الجميع.. فهل سيسير العرب في الطريق الصحيح؟

تونس