آفاق الجولة القادمة من المفاوضات”غزة-أريحا أولاً” هو الاختراق

بقلم ممدوح نوفل في 23/08/1993

بعد أيام قليلة سيلتقي المفاوضون العرب والاسرائيليون في واشنطن بعد إنقطاع دام عدة أسابيع. ويتسائل المراقبون السياسيون والناس العاديون حول آفاق هذه الجولة؟ تماماً كما كانوا يتسائلون أمام كل جولة من الجولات السابقة. لا شك أن طول مدة المفاوضات وعدم توصلها الى أية اتفاقات يجعل الشكوك والتساؤلات وما هو أكثر من ذلك أمراً طبيعياً ومشروعاً. ومن حق أصحاب القضية وكل المهتمين بعملية السلام أن يتلقوا بعد 22 شهراً إجابات واضحة وصريحة وأن يتم مكاشفتهم ومصارحتهم. فتكرار الأجوبة العامة والضبابية، وتكرار دعوتهم الى الصبر وطول البال غير مفيد الآن، خاصة بعدما بلغ الشك في ذاك النمط من الاجابات مداه الأقصى، وبلغ الاحباط ذروته. وبعدما كثرت الأقاويل والاشاعات حول وجود قنوات خلفية موازية لقناة واشنطن وبعدما صدرت عن مسؤولين اسرائيليين من مستوى بيريز ورابين ووزراء آخرين تصريحات من نوع جديد كالقول أكثر من مرة “إننا نقترب من التوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين والسوريين”، وبعدما طرحت القيادة الاسرائيلية مسألة “غزة أريحا أولاً” على لجنة الأمن والخارجية في الكنيست الاسرائيلي.
واذا كانت مقتضيات العملية التفاوضية تفرض تعدد القنوات، وتفرض كتم ما يمكن اعتباره أسرار، فتعبئة الطاقات الوطنية وحشد أوسع دعم وتأييد للوفود المفاوضة وللمواقف المطروحة يستوجب عدم ترك الناس والأصدقاء عرضة للبلبلة والارباك، وفريسة للاشاعات المتنوعة. ولا أظن أن التوفيق بين الأمرين مستحيل. وفي سياق الاجتهاد في الاجابة على بعض الأسئلة المطروحة لعل رصد المسائل والمواقف التالية يساعد في ذلك:
أولاً – تجمع كل الاطراف المشاركة في المفاوضات الثنائية أنها وقفت في نهاية الجولة العاشرة أمام “قطوع” كبير، إما التقدم وإما الانهيار. ولم يعد أمامها من خيار اذا ما أريد لها التواصل والاستمرار سوى اجتياز هذا القطوع والانتقال الى البر الآخر. وأعتقد أن إدراك الراعي الأمريكي لهذه الحقيقة هو الذي دفعه ليحولها من مفاوضات اسرائيلية-فلسطينية الى مفاوضات أمريكية-اسرائيلية وأمريكية-فلسطينية وليزيد من تدخله وليكثف الاتصالات السرية والعلنية منذ الجولة العاشرة وحتى الآن. وبالاستناد لما صدر من تصريحات علنية عن الراعي وعن كل أطراف النزاع يمكن القول أن هناك ما يشبه الاجماع على مواصلة المفاوضات وعلى تمكينها من تجاوز القطوع الذي وقفت عنده. ولعل التدقيق في مصالح كل الأطراف يؤكد هذا الاستنتاج. وغياب الحديث الذي كنا نسمعه دائماً عن المقاطعة أو التعليق مؤشر على ذات الاتجاه.
ثانياً – بغض النظر عن دقة الحديث وصحة التسريبات الأمريكية والاسرائيلية حول التقدم الكبير والمهم الذي أحرزه الوزير كريستوفر في جولته الأخيرة وخاصة المسار الاسرائيلي-السوري واللبناني-الاسرائيلي، فالثابت أن استعداد اسرائيل المعلن والمرسم والموثق بتطبيق القرار 242 على الجبهة السورية، واعلانها المرسم بأن لا مطامع لها في الأراضي اللبنانية يسهل التوصل الى اعلانات مباديء على هذه المسارات في الجولة القادمة. ولعل من المفيد في هذا السياق القول أن التصعيد الذي شهده الجنوب اللبناني مؤخراً له أكثر من وجه. فاذا كان أحدها يظهره على أنه تصعيد ومحاولة لتفشيل للمفاوضات، فهناك وجه آخر يقول أن هذا التصعيد والتوتير يمكن استخدامه في تسهيل وتسريع المفاوضات وفي التمهيد لتطبيق الاتفاق الذي يمكن التوصل له. فحزب الله يفقد مبرر وجوده كقوة عسكرية، ويفقد المبرر لنشاطه العسكري ضد اسرائيل في حال الاعلان عن اتفاق توافق فيه اسرائيل على الانسحاب من الجنوب اللبناني، لا سيما وأنه وافق ومنذ الآن وفي آخر اتفاق على وقف النار على قصر وحصر نشاطه العسكري (بكفالة سورية ولبنانية) فوق الأراضي اللبنانية.
ثالثاً – ليس عسيراً على كل من تابع المفاوضات في جولاتها الأخيرة وتابع النشاطات والتحركات الأمريكية أن يرى أن التأخر في التوصل الى اتفاق على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي عكس نفسه على سير المفاوضات على المسار الأردني-الاسرائيلي، والمسار السوري-الاسرائيلي واللبناني-الاسرائيلي. وبغض النظر عما قطعته هذه الأطراف وعن مدى التقدم الحاصل على هذا المحور أو ذاك فالثابت وكما ورد في بيانات وتصريحات رسمية أن الأردن لن يوقع أي اتفاق قبل أن يوقع الفلسطينيون على اتفاقهم. ويدرك الأمريكيون والاسرائيليون أن من المستحيل على سوريا ولبنان توقيع اتفاقاتهم اذا لم تترافق مع توقيع الأردنيون والفلسطينيون على اتفاقاتهم مع اسرائيل. ولعل جميع الأطراف باتت تدرك أن التقدم على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي هو المفتاح الذي يفتح أبواب التقدم على كل المسارات العربية-الاسرائيلية، خاصة بعدما أكدت الأطراف العربية على ترابط الحلول على كل المسارات.
رابعاً – وبالاستناد لما صدر من تصريحات اسرائيلية وأمريكية حول موضوع “غزة-أريحا أولاً” يمكن الاستنتاج أن هذه النقطة المركزية قد اتفق عليها أو هي قيد الاتفاق النهائي. ولعل طرحها من قبل بيريز على لجنة الأمن والخارجية في الكنيست لما يأت من فراغ ويؤكد مثل هذا الاستنتاج. واذا جاز لنا البناء على هذا التقدير وعلى ما رشح من أخبار يمكن القول أن الاتفاق الفلسطيني على اعلان مباديء أو ما يشبه ذلك بات قريباً وأقرب مما يتوقعه المراقبون والمحللون لسببين رئيسيين: الأول أن مواقف الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني بشأن الاستلام المبكر لبعض السلطات وبشأن النقاط الأخرى المطروح تضمينها في اعلان المباديء باتت متقاربة جداً. وحتى المعقد منها من نوع القدس، الاستيطان، الحدود، اللاجئين أعتقد أنه ليس من العسير الوصول الى قاسم مشترك مقبول من الطرفين اذا صدقت النوايا الاسرائيلية ولم تقع أية مفاجأت، وأيضاً اذا تدخل الراعي الأمريكي بصورة أكثر وأكبر قليلاً من تدخله في الجولات السابقة. أما السبب الثاني لا أظن أننا نبتعد عن الحقيقة اذا قلنا أن مسألة “غزة-أريحا أولاً” كانت العقبة الحقيقية والجوهرية التي حالت دون التقدم في صياغة إعلان مباديء على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي خاصة في جولتيها الأخيرتين. فقد كانت مسألة “غزة-أريحا أولاً” بمثابة كلمة السر المخفية التي عقدت حل مربعات الاتفاق. ولا أعتقد أننا نكشف سراً يمس تكتيك المفاوض الفلسطيني اذا قلنا أن القيادة الفلسطينية كانت ولا زالت تعتبر مسألة “غزة-أريحا أولاً” القضية الرئيسية التي يجب أن يتضمنها أي اتفاق على اعلان المباديء، وأن لا معنى لاستلام سلطات مبكرة اذا لم تتضمن استلام السلطات الكاملة في غزة وأريحا. وأنها تعتبرها خطاً أحمر مثلها مثل باقي النقاط التي لا يمكن القفز عنها أو تجاوزها في أي اتفاق (القدس، الاستيطان، اللاجئين، حدود الولاية..الخ).
وبغض النظر عن التفسير الذي قدمه بيريز لموضوع “غزة-أريحا أولاً” أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، فوجهة نظر القيادة الفلسطينية ترى في اعلان المباديء الذي يجري العمل لبلورته يبقى مباديء عامة ومجردة اذا خلى من الاتفاق حول غزة وأريحا أولاً. فهذه المباديء المجردة لا تعطي للفلسطينيين شيئاً عملياً ملموساً، وإعلان المباديء بدون “غزة-أريحا أولاً” لا يصلح كأساس لاختبار النوايا الاسرائيلية بشأن الانسحاب من الأرض، ولا بشأن ترابط الحل في مرحلتيه الانتقالية المؤقتة والنهائية. وترى القيادة الفلسطينية في “غزة-أريحا أولاً” التجسيد العملي الملموس لمصطلح (Territorial Jurisdiction) الوحدة الترابية لأراضي الضفة والقطاع الذي وافق عليه الوفد الاسرائيلي رسمياً في آخر جولتين من المفاوضات. كما ترى فيه أيضاً خطوة عملية تقطع الطريق على أي تفكير اسرائيلي بإطالة أمد المفاوضات حول الاتفاق على تطبيقات اعلان المباديء، أو أية محاولة لإطالة أمد المرحلة الانتقالية أو تحويلها الى مرحلة نهائية. ولعل من البديهي القول أن موافقة القيادة الاسرائيلية على “غزة-أريحا أولاً” يعني الانسحاب الكامل من غزة وأريحا وتسليمها الى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لتجعل منهما مركزين مؤقتين للسلطة الفلسطينية الانتقالية ومركزين للسلطات المبكرة التي وافق الاسرائيليون على تسليمها للفلسطينيين فوراً والتي يلح الأمريكين على تسلمها.
في ضوء هذه القراءة لآفاق الجولة الحادة عشر من المفاوضات وفي ضوء الراشح والمتسرب من المعلومات أعتقد أننا لا نتهم بالتطير أو التبسيط ولا بوضع الأمنيات الذاتية كبديل للوقائع اذا رشحنا الجولة القادمة لتكون الجولة الحاسمة في كل المفاوضات واذا رشحناها لتكون جولة الاتفاق أو الجولة التي تمهد رسمياً للاعلان عن الاتفاق على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي وبالتالي على كل المسارات الأخرى. وإنطلاقاً من الحكمة الشعبية القائلة “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً فإن على كل الأطراف العربية عامة والجانب الفلسطيني خاصة الاسراع في مكاشفة الناس، وتهيئة الشارع الفلسطيني لاستيعاب القرار الذي سيتخذ خلال الجولة القادمة وبغض النظر عن طبيعة هذا القرار. ففشل الجولة الحادية عشر في التوصل الى الاتفاقات سوف يؤدي الى انهيار المفاوضات ودخول المنطقة مرحلة صراعات دموية مدمرة للجميع. والتوصل الى اتفاق فلسطيني-اسرائيلي او اتفاقات عربية-اسرائيلية يعني ولا شك دخول كل المنطقة مسار تاريخي جديد تماماً ويختلف عن المسار الذي سارت فيه ربع قرن من زمن مضى.
وفي هذا السياق يمكن القول أن الاجتماع القادم لوزراء خارجية فلسطين والأردن ومصر وسوريا ولبنان يوم 28/8/93 اجتماعاً هاماً وأعتقد أنه مطالب ليس فقط تهيئة الرأي العام العربي للتعامل مع المرحلة الجديدة، مرحلة ما بعد الاتفاق، بل وأيضاً وضع الأسس والقواعد الملزمة للجميع بالحفاظ على وحدة موقفها في الجولة القادمة وفي التقدم نحو التوقيع على إعلانات المباديء بصورة موحدة (اذا كان هناك تواقيع) أو في التقدم لاتخاذ ما يلزم من قرارات لمواجهة أية تطورات سلبية. والاجتماع العربي مطالب بالحفاظ على وحدة الموقف في كل مراحل المفاوضات اللاحقة وعدم تمكين الجانب الاسرائيلي من الاستفراد بأي طرف وبأي جبهة من الجبهات العربية.. وهذه التطورات النوعية المتوقعة تفرض على ما أعتقد على جميع القوى العربية الرسمية والشعبية تحمل مسؤولياتها التاريخية والاستعداد لمواجهتها على أساس من الاحترام المتبادل واحترام قواعد العلاقات الديمقراطية. ولربما كان مفيداً أن يبادر وزراء الخارجية الذين سيلتقون بعد أيام في بيروت الى توجيه نداء لإخوانهم الآخرين وأن يتحركوا لعقد اجتماع عربي شامل يضم الجميع يصفي ذيول المرحلة السابقة ويفتح صفحة جديدة بين الجميع.
وقديماً قالوا في التفرق ضعف وفي الاتحاد قوة..

تونس –