هل دخلت المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية مرحلة حوصلة النتائج تمهيداً لاعلان اتفاق؟

بقلم ممدوح نوفل في 21/07/1993

في نهاية رحلته للمنطقة وقبل مغادرته القدس عائداً الى بلاده سأل دنيس روس أحد أعضاء الوفد الفلسطيني الذين حاوروه السؤال التالي: “هل تنصحونا برفع توصية للوزير كريستوفر بالقيام برحلة جديدة الى المنطقة تسبق الجولة القادمة من المفاوضات؟”، وتلقى جواباً خلاصته أنتم أحرار في ما ترفعون من توصيات.. لا جديد عندنا على ما قلناه، وننصح بأن يعرج الوزير كريستوفر على تونس ليلتقي هناك أصحاب القرار في الشأن الفلسطيني.. والآن الزيارة تقررت وسيصل الوزير كريستوفر مطلع الشهر القادم للمنطقة. ولا أظن أنه سيعرج على تونس للقاء مع قيادة م.ت.ف. فهل من تطورات جديدة في مواقف أهل المنطقة تشجعه على القيام بزيارته في هذا الوقت بالذات؟ أم أنه يحمل في جعبته مشاريع واقتراحات يعتقد أنها تساعد على زحزحة وحلحلة مواقف الأطراف؟. أم أن جعبته خاوية والهدف من زيارته إظهار حركية ونشاط ما للادارة الجديدة في وقت أصبحت حركتها باتجاه البوسنة والهرسك وباتجاه الصومال تنبه الرأي العام الأمريكي والدولي على فشلها في معالجة هذه المشكلات؟ وتسلط الأضواء على نقاط ضعفها في وقت هي في أمس الحاجة لطمس هذه النقاط.

وللتقرب من الاجابة الصحيحة على الاسئلة المطروحة أعتقد أن من الضروري تسليط الأضواء على المسار الجديد الذي دخلته المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية، وعلى القضايا الجوهرية العالقة والتي تعيق تحقيق إختراق وتعطل التوصل الى أول اتفاق على هذا المسار وعلى كل المسارات الأخرى.

وأظن أنه ليس عسيراً على كل من يدقق في الجولتين الأخيرتين من المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية الاكتشاف بأن آلية مدريد على هذا المسار انتهت واستبدلت بآلية جديدة تقوم على إجراء مفاوضات فلسطينية-اسرائيلية، وأمريكية-اسرائيلية بدلاً من التركيز على المفاوضات الثنائية الفلسطينية-الاسرائيلية ، ولا يخفي الشريك الراعي رغبته في جعلها ثلاثية أمريكية-فلسطينية-اسرائيلية. صحيح أن الاجتماعات الفلسطينية-الاسرائيلية تواصلت، لكن تقرير الوفد الفلسطيني عن الجولة العاشرة قال أنها كانت مملة وشكلية، وأنها عقدت حتى يقال للاعلام أنها تواصلت، وحتى لا يقال للرأي العام وللأطراف الأخرى أنها توقفت أو أنها استبدلت بمفاوضات الشريك الراعي مع الطرفين. وأعتقد أن قول روبنشتاين (رئيس الوفد الاسرائيلي) للوفد الفلسطيني تفاوضوا مع الأمريكان وما تتوصلون له يمكن أن يكون قاسماً مشتركاً بيننا، يلخص بدقة وضع المفاوضات في الجولة العاشرة وما سيليها من جولات، وبالحد الأدنى لحين التوصل الى أول اتفاق.

وبغض النظر عن مضمون الورقة الأمريكية الأولى (12/6) والورقة الثانية (30/7)، فالواضح أن الراعي الأمريكي متعجل في دفع الأطراف للتقدم نحو الاتفاق بغض النظر عن طبيعته، وهذا ما يفسر الصياغات المنحازة التي تضمنتها الرسالتان، ويفسر أيضاً مواقفه الضاغطة على الطرف الفلسطيني للقبول باستلام سلطات مبكرة في مجالات الصحة، التعليم، الضرائب، الاقتصاد..الخ وتأجيل الاتفاق حول القضايا الجوهرية الأخرى. وأعتقد أن تزايد عدد نقاط التلاقي وتقارب مواقف الطرفين في بعض النقاط كما ظهر في آخر الأوراق التي تبادلها الطرفان، يجعله يعتقد أن القضايا الخلافية الباقية يجب أن لا تعيق التقدم نحو الاتفاق وهذا الاعتقاد دفع الراعي الأمريكي الى التفرد بالقرار ونقل موقفه وعلى عاتقه الخاص خطوة جديدة في اتجاهين: الأول تكريس نفسه كشريك وليس كراعي فقط، والثاني شروعه من موقع الشريك في تقديم مسودات مشاريع وأوراق اتفاق. وهذا مؤشر واضح على أن المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية دخلت من وجهة نظر الراعي الشريك مرحلة حوصلة النتائج وتجميع خلاصات الجولات العشر الماضية تمهيداً لاغلاق المرحلة الأولى والوصول بها الى اتفاق ما. ولتحقيق هذا الهدف شرع في تكثيف اللقاءات مع الأطراف، ففي الجولة العاشرة وحدها عقد الراعي الأمريكي مع الوفد الفلسطيني ما مجموعه 22 لقاء استغرقت ما يزيد عن أربعين ساعة بحث معمق ونقاش مدقق ويرجح أنه عقد ذات العدد والساعات مع الطرف الآخر.. وأعتقد أن زيارة طاقم الخارجية برئاسة دنيس روس، والزيارة التي سيقوم بها الوزير كريستوفر تأتي في هذا السياق وهي استكمال لتلك اللقاءات والاجتماعات. أما تكتيكه الجديد فالواضح أنه يقوم على الاكثار من رمي الأوراق، وتقديم الأفكار في صيغ مشاريع تطرح تباعاً لجس نبض الأطراف، واختبار مواقعها واستطلاع ردود أفعالها والتعرف على الحدود الدنيا والقصوى في مواقفها، ومن ثم القيام بفرز نقاط التقاطع والالتقاء عن نقاط التباين والاختلاف، والتعرف على النصوص والصياغات التي يمكن أن يقبلها الطرفان. ولعل استذكار تكتيك الحزب الديمقراطي بزعامة الرئيس كارتر في إدارة المفاوضات المصرية-الاسرائيلية عام 78-81 يساعد على فهم الخطوات الأخيرة للادارة الحالية ويساهم في استقراء خطواتها اللاحقة لا سيما وأن الوزير كريستوفر كان في حينها نائباً للوزير سايروس فانس، وكان له باعاً طويلاً في صياغة مسودات اتفاقات كامب ديفيد واتفاقية اطار الحكم الذاتي الانتقالي الملحقة به. وفي حينها تقدم الشريك الأمريكي بالعديد من المسودات ومشاريع الاتفاقات قبل أن يرمي بالورقة الأخيرة على طاولة المفاوضات. ويومها فرضت على الجانبين المصري-الاسرائيلي باعتبارها ورقة الرئيس كارتر. وأظن أن لا مجازفة في القول أن ما يجري الآن فيه الكثير من التشابه والتكرار. فالورقة الأمريكية الأولى (12/6) تلتها ورقة ثانية، وبات من المؤكد أن الثانية ستتلوها ورقة ثالثة، ومن المرجح أن تتلو الثالثة رابعة، والله أعلم بعدد الأوراق التي ستلحق قبل الرمي بورقة الرئيس كلينتون أو الرئيسين الراعيين لعملية السلام..

ولهذا يمكن القول سلفاً أن زيارة الوزير كريستوفر للمنطقة زيارة تمهيدية لورقة ثالثة على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي واستطلاعية على المسارات الأخرى، وليس مقدراً لها التوصل الى اعلان مباديء أو اتفاقية إطار كصيغة نهائية لأول اتفاق على هذا المسار، ولا على أي من المسارات الأخرى. ولا أعتقد أن كريستوفر واضع لزيارته مثل هذا الهدف، لا سيما وأنه يعرف أن التقدم على المسارات العربية-الاسرائيلية الأخرى بات مرهوناً بالتقدم على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي بعدما أحكم العرب (الاردن، سوريا، لبنان) ربط مساراتهم بهذا المسار. ويعرف أيضاً أن موقع القدس ودورها في بناء الحكم الفلسطيني الانتقالي المؤقت، وحدود الولاية الجغرافية، ومسألة التحكيم… بأنها قضايا شائكة لا زالت بدون حل، ولا يمكنه حلها حلاً نهائياً خلال زيارة تدوم بضعة أيام.

واذا كان مقدراً للورقة الأمريكية الثالثة أن تحتوي على عدد أكبر من نقاط الاتفاق وحسب المتوفر من الدلائل والمؤشرات، فلا أعتقد أنها ستكون الورقة العادلة والمنصفة التي يمكن قبولها من الجانب الفلطسيني، ولن يستطيع الوزير كريستوفر تضمينها صياغات نهائية مقبولة حول القدس والتحكيم. واذا كانت الادارة الأمريكية متعجلة لأسباب ذاتية وموضوعية في دفع الأطراف نحو التوصل الى اتفاق يؤسس للسلام والاستقرار في المنطقة فليس أمامها سوى الضغط على رابين أو اقناعه بالأسس والمباديء التي أعلنها الرئيس بوش والتي على أساسها انطلقت عملية السلام. صحيح أن الشعب الفلسطيني بحاجة أكثر من سواه الى السلام وله مصالح حقيقية وكبرى في نجاح المفاوضات الا أن تجزئة المرحلة الانتقالية، والقفز عن وضع القدس وموقعها في بناء السلطة الانتقالية ورفض رابين الاقرار بأن الضفة وقطاع غزة أراض محتلة لا يوصل الى السلام الحقيقي المنشود.

وبغض النظر عما يحمله كريستوفر من مشاريع وأفكار فزيارته القادمة تكاد تكون حاسمة باتجاه بلورة الأفكار النهائية أو شبه النهائية على أكثر من مسار، ولهذا تصبح الأطراف العربية مطالبة بالتحرك الجماعي وعدم الانتظار، وأعتقد أن اجتماع وزراء خارجية الدول الخمس المقرر عقده في بيروت أواخر الشهر فرصة مناسبة ليس فقط لتبادل الآراء والأفكار بل والأهم الاعداد لمبادرة عربية تؤكد وحدة وترابط الحل على كل المسارات، وتقدم تصوراً مشتركاً للحدود الدنيا المقبولة على كل مسار من المسارات العربية-الاسرائيلية، وتسليح الوفود المفاوضة بما يلزم من مواقف وتكتيكات تفاوضية تمكنها دخول المفاوضات برؤى موحدة ومحددة، وتمكنها الخروج من الجولة القادمة (الحادية عشر) شبه الحاسمة بأكبر مكاسب ممكنة تقرب الأطراف العربية من الأهداف التي حددتها لنفسها عند دخول المفاوضات.

تونس –