هل انتهت صيغة مدريد الأولى على المسار الفلسطيني الاسرائيلي؟

بقلم ممدوح نوفل في 17/07/1993

وما هي البدائل والخيارات المتوفرة؟

باستطاعة كل من راقب مفاوضات الجولتين الاخيرتين على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي الاستنتاج بأنها تحولت من مفاوضات ثنائية فلسطينية-اسرائيلية الى مفاوضات ثنائية أمريكية-فلسطينية، وأمريكية-اسرائيلية، ولا يخفي الراعي الأمريكي رغبته في تحويلها الى ثلاثية أمريكية-اسرائيلية-فلسطينية. وبغض النظر عن عدد الجلسات التي عقدها الوفدان الاسرائيلي والفلسطيني في الجولة العاشرة فالواضح أنها كانت لقاءات شكلية عقدت من أجل أن يقال بأن المفاوضات متواصلة. وأعتقد أن قول روبنشتاين رئيس الوفد الاسرائيلي في جلسة من جلسات الجولة الأخيرة “مفاوضاتنا تدور في حلقة مفرغة.. ولا أفق لها بدون تدخل من الراعي الأمريكي.. تفاوضوا مع الأمريكان وما تتوصلوا له يمكن أن يكون قاسماً مشتركاً بيننا..” يلخص بدقة ما آلت اليه المفاوضات على هذا المسار، ويبين بوضوح شكل مفاوضات الجولة الحادية عشر القادمة اللاحقة على هذا المسار والتي بات مرجحاً عقدها مطلع آب القادم. وأظن أنه يحدد أيضاً الاطار الجديد لكل المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية اللاحقة وبالحد الأدنى حتى التوصل الى أول اتفاق.

ووفقاً لما ورد في تقرير الوفد الفلسطيني عن الجولة العاشرة يمكن المجازفة والقول أن المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية كما حددتها صيغة مدريد قد انتهت، وجرى استبدالها بمفاوضات ثنائية مع الراعي الشريك، وأنها اعتباراً من 12/6 تاريخ تقديم الورقة الأمريكية الأولى دخلت في مسار جديد غير الذي خطط له ورسم في مدريد.

وبغض النظر عن مضمون الورقة الأمريكية الأولى، ومضمون الورقة الثانية 30/7، وبغض النظر عن المواقف الفلسطينية والاسرائيلية منهما، فالواضح أن المفاوضات على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي دخلت من وجهة نظر الراعي الأمريكي في مرحلة حوصلة النتائج وتجميع خلاصات الجولات العشر الماضية تمهيداً للمرحلة الأولى والوصول بها الى نتيجة ما. والواضح أن الراعي الأمريكي أخذ هذه المهمة على عاتقه وحده وبدون إشراك الراعي الثاني أو استشارته وأيضاً بدون استشارة أي من الأطراف. وأنه شرع في تكثيف اللقاءات والاجتماعات والزيارات الميدانية للمنطقة، وأخذ بتكتيك جديد يقوم على تقديم الأفكار في صيغ مسودات مشاريع تطرح تباعاً لجس نبض الأطرف واختبار مواقفها، وفرز نقاط التقاطع والالتقاء عن نقاط التباين والاختلاف. وأعتقد أن الزيارة الأخيرة لطاقم الخارجية برئاسة دنيس روس، والزيارة القادمة للوزير كريستوفر (مطلع آب) تجد موقعها في هذا السياق وذات الشيء ينطبق أيضاً على اللقاءات المطولة والمكثفة التي عقدها الراعي الأمريكي مع الوفد الفلسطيني في آخر جولة والتي بلغت ما مجموعه 22 لقاء استغرقت ما يزيد عن أربعين ساعة بحث مدقق ونقاش. وحسب تقرير الوفد الفلسطيني يُعتقد أنه عقد مع الجانب الاسرائيلي ذات المقدار من اللقاءات والساعات. وبمراجعة سريعة لتكتيك الحزب الديمقراطي في إدارة مفاوضات كامب ديفيد يمكن القول أن ما يجري الآن فيه الكثير من الشبه والتكرار. وفي حينها تقدم الشريك الأمريكي وكان كريستوفر نائباً للوزير سايروس فانس عشرات المشاريع وعشرات الأوراق قبل الرمي بالورقة الأخيرة على طاولة المفاوضات، وفي حينها فرضت على الطرفين باعتبارها ورقة الرئيس. ويستطيع كل متابع لموقف الادارة الأمريكية الجديدة أن يرى بوضوح أنها متعجلة في دفع الطرفين نحو الوصول الى اتفاق بغض النظر عن طبيعته. وهذا ما يفسر مواقفها الضاغطة على الطرف الفلسطيني للقبول باستلام بعض مذكرة على بعض المجالات مثل الصحة والتعليم..الخ وتأجيل القضايا الجوهرية الأخرى. وهي بهذا التكتيك تحاول مرحلة وتجزئة المرحلة الانتقالية. وهذا ولا شك تغيير جوهري آخر تحاول الادارة الجديدة فرضه على صيغة مدريد.

وبمراجعة صيغة مدريد التي على أساسها انطلقت المفاوضات في 30 اكتوبر 91 يمكن ملاحظة أن التبدل والتحول المذكور أعلاه لم يكن التغيير الوحيد الذي وقع على الصيغة خلال العشرين شهراً الماضية والعشر جولات التي عقدت حتى الآن، بل يمكن رصد وتسجيل عشر تعديلات أخرى بعضها مس الشكل والآخر أصاب صميم الصيغة وجوهرها وحتى الشكلي منها فقد استطاع ترك بعض البصمات الجديدة على مسار المفاوضات وهي على النحو التالي:

1) رحيل الليكود بعد ثمانية أشهر من افتتاح مؤتمر مدريد، ومعه رحل برنامجه وخطته التفاوضية والتي كانت تقوم على اللاءات المشهورة وخاصة بشأن الأرض والتشريع والمستوطنات. ومن بعده جاء حزب العمل ببرنامجه المعروف وخطته التفاوضية المختلفة عن سالفه. ولا أظن أننا في حاجة لتبيان الفوارق بين برامج الحزبين وخطتيهما للمفاوضات. وبغض النظر عن رأينا في مواقف حزب العمل وخاصة ما واصل روبنشتاين طرحه على طاولة المفاوضات الا أنها استطاعت فتح بعض النوافذ وأطالت من عمر المفاوضات، وفسحت المجال لحدوث بعض التعديلات على صيغة مدريد سنأتي على ذكرها فيما سيتبع من نقاط.

2) وبعد عام كامل من مدريد رحل الحزب الجمهوري، ورحل مهندس العملية (بيكر) وترك في البيت الأبيض وفي الخارجية الأمريكية خريطة البناء الذي قامت عليه عملية السلام في مدريد وترك معها خطة الاستكمال كما كان يراها هو والرئيس بوش. ومن بعده جاء الحزب الديمقراطي. صحيح أن الرئيس كلينتون أعلن منذ البداية التزامه بعملية السلام وبالمباديء التي أطلقها الرئيس بوش والتزم بكل الالتزامات الأمريكية إزاء عملية السلام. لكن مسار المفاوضات في الجولتين اللتين تمتا في عهد الادارة الجديدة تبين بوضوح أن هناك فوارق في المواقف وفي التكتيك التفاوضي بين الادارتين. ولعل رفع الادارة الجديدة لوضعها في المفاوضات من مستوى راعي الى مستوى شريك وراعي دليل على الفوارق بين الحزبين. واذا كانت نتائج هذه الفوارق لم تظهر بصورة عملية في المفاوضات حتى الآن، فالمرجح أن الجولات القادمة والأوراق الثالثة والرابعة..الخ التي سيطرحها الشريك الأمريكي لاحقاً ستكون ميداناً لذلك، وقد تبرز مزيداً من التغيير في قواعد مدريد وخاصة تلك المتعلقة بالالتزامات الأمريكية.

3) وخلال العام الأول من مدريد رحل الاتحاد السوفياتي كامبراطورية عظمى ودولة كبرى، وكراعي ثاني للمفاوضات. وصارت روسيا الغارقة والمثقلة بهمومها ومشاكلها الداخلية والخارجية هي البديل وهي الشريك، ولا أظن أننا بحاجة لتبيان تأثير هذا التبدل الكبير على المفاوضات وعلى دور الراعي الثاني في رعايتها وعلى الأسس التي قامت عليها العملية في مدريد.

4) ومع قدوم حزب العمل رفع الحظر الاسرائيلي عن الاتصال بمنظمة التحرير وألغي القرار الخاص بذلك. وبات من المعترف به، وشبه المرسم عند الجميع أن م.ت.ف هي المرجعية الوحيدة للوفد وهي الجهة المقررة لكل المواقف والتكتيكات التفاوضية الفلسطينية. ومنذ رحيل شامير غاب التهديد والوعيد الذي كان يمارسه شامير على هذا الصعيد. والكل يذكر إصراره على رفض مشاركة الأخ صائب عريقات في المفاوضات بسبب تصريح حول علاقة الوفد بمنظمة التحرير ورفضه المطلق لكل مشاركة من الخارج. بينما الآن وفي هذه الأيام يكثر الحديث في اسرائيل عن ضرورة التحاور المباشر مع قيادة م.ت.ف، بما في ذلك اقرار أحد عشر وزيراً بضرورة إجراء مثل هذه المفاوضات، لا بل ويقول بعض الاسرائيليين أن مثل هذه المفاوضات قد بدأت منذ فترة ليست قصيرة؟ وأن لقاء أبو مازن مع بيريز تم في هذا السياق، وبغض النظر عن صحة هذه الأقوال فالواضح أنها تحمل في طياتها تغيير أو مؤشرات لمثل هذا التغيير.

5) وقوع تطور في دور الامم المتحدة في المفاوضات وذلك بمشاركتها في كل لجان المتعدد الأطراف ومشاركتها في المناقشات بعد زوال الكمامة التي فرضها شامير على أفواه المندوبين الأمميين وزوال شرطه عليهم بأن يبقوا صامتين..

6) الانتهاء العملي لصيغة الوفد الأردني-الفلسطيني المشترك حيث ساهم الجانب الاردني في رفع هذه المظلة عن المسار الفلسطيني-الاسرائيلي. وحتى الاجتماعات الشكلية التي كان يصر روبنشتاين على عقدها مع الوفد الاردني الفلسطيني المشترك لم تعد موجودة ولم يعد يطالب بها، وبات الحديث والتعامل مع الوفد الفلسطيني وكأنه وفد مستقل مثله مثل باقي الوفود.

7) دخول الأخ فيصل الحسيني الى طاولة المفاوضات، علماً بأن دخوله كان مرفوضاً بالمطلق في عهد شامير ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها بيكر قبل وبعد مدريد، الا أنه لم يفلح من تمكينه حضور أي جلسة من الجلسات، ومن أجل منعه أصر شامير على تعهد أمريكي خطي ينص على أن من حق الطرف الاسرائيلي رفض الجلوس مع من لا يرغب في الجلوس معه. وبغض النظر عن مسألة العنوانين فدخول فيصل يعني دخول ممثلين عن القدس الى غرف المفاوضات. وبغض النظر عن الصيغة التي ورد فيها ذكر القدس في الأوراق الأمريكية الأخيرة فالواضح أنها باتت قضية من قضايا المفاوضات ليس فقط في المرحلة النهائية بل وأيضاً موقعها في بناء السلطة الفلسطينية الانتقالية.

8) رفع الحظر الاسرائيلي عن مشاركة الخارج في المفاوضات حيث شارك الأخوة يزيد صايغ، وأحمد الخالدي وكميل منصور وبني شحادة في آخر جولتين من المفاوضات.

9) تراجع الادارة الأمريكية عن مواقفها السابقة من رسائل التطمينات والتحلل من التزاماتها وخاصة تلك التي أعطيت للجانب الفلسطيني والكل يعرف أن الفلسطينيين وافقوا على المشاركة في صيغة مدريد استناداً لرسالة التطمينات وأنهم سجلوا تحفظاتهم على رسالة الدعوة.

10) ولعل الحديث عن غزة أولاً، أو غزة وأريحا، والحديث عن الكونفدرالية بين الاردن وفلسطين، أو الكونفدرالية الثلاثية مؤشرات أولية للبدء في البحث عن مخارج وسبل لتجاوز بعض ترتيبات المرحلة الانتقالية أو ايجاد صيغ ما تدمج وتزاوج المرحلتين معاً.

وبجانب كل هذه التعديلات والتغيرات الشكلية أو الجوهرية التي وقعت على صيغة مدريد، يمكن القول أن تواصل المفاوضات عشرين شهراً دون التوصل الى نتائج ملموسة يؤكد أن الأسس والقواعد التي وضعت في مدريد كان لها فعلها في الوصول لهذه النتيجة السلبية وغير المرضي عنها من قبل كل الأطراف، ولعل تصريحات المسؤولين الأمريكيين عن محدودية الصلاحيات الممنوحة للوفود، ودعوتهم الى رفع مستوى الوفود المفاوضات تأكيد على هذا الاستخلاص، ويطرح سؤالاً حول من المعني عند الفلسطينيين وهل هناك مستوى أعلى من الوفد غير قيادة منظمة التحرير؟. وأعتقد أن ما وقع من تعديلات على صيغة مدريد حتى الآن، وتزايد التذمر منها، وإدراك الجميع بأنها ناقصة وتحتوي على الكثير من النواقص والثغرات التي ساهمت في تأخير تقدم المفاوضات تفرض على جميع الأطراف المشاركة وعلى كل القوى الحريصة على صنع السلام في المنطقة واخراج المفاوضات من الطريق المسدود الذي بلغته وفقاً لصيغة مدريد أن يبحثوا عن صيغة جديدة قادرة على انجاح المفاوضات واخراجها من الحلقة المفرغة التي باتت تدور فيها. وأعتقد أن الخيارات والبدائل الواقعية المتاحة يمكن أن تكون على النحو التالي:

الخيار الأول: التسليم بالدور الجديد الذي شرع الجانب الأمريكي في القيام به منذ الجولة التاسعة، وتفويضه رسمياً ومن كل أطراف مدريد بمتابعة هذا الدور وتلزيمه بالعملية ككل وتحميله المسؤولية الكاملة عن نتائجها.

الخيار الثاني: دعوة كل أطراف مدريد الأولى الى مدريد ثانية مثلاً وإجراء مراجعة شاملة لمسار المفاوضات على مدى عامين كاملين وإعادة البحث في الأسس والقواعد التي بنيت عليها وفي دور الرعاة وايجاد مرجعية واضحة ومحددة قادرة على توصيل المفاوضات الى نتائج ملموسة لا سيما وأن تراجع الراعي الأمريكي عن رسائل التطمينات وما احتوته من التزامات يبقي المفاوضات الجارية بدون مرجعية يضاف لذلك حديثه عن القرار 242 وأن الاتفاق هو التنفيذ لهذا القرار!. وأعتقد أن التبدلات والتغيرات التي طرأت على القوى المشاركة تستوجب تجديد الادارة الأمريكية الجديدة ومن كل الأطراف التي تبدلت تجديد التزاماتها في مدريد ثانية، والعمل على تضمين تصوراتها وبرامجها في الصيغة الجديدة باعتبار القائم حتى الآن ثبته الاسلاف الذين رحلوا.

أما الخيار الثالث فيمكن أن يكون بالشروع في مفاوضات ثنائية مباشرة بين اسرائيل وقيادة م.ت.ف برعاية أمريكية أو دولية.

بعد هذا العرض لما آلت اليه صيغة مدريد، وللخيارات والبدائل المتاحة يبرز السؤال التالي: هل أدرك الراعي الأمريكي أن الاستمرار في المفاوضات وفقاً لصيغة مدريد يعني الاستمرار في الدوران حول الذات، وهل بادر بمفرده وبدون اذن أو تشاور مع أحد بتجاوز صيغة مدريد وتغييرها بصيغة بديلة منذ الجولة التاسعة، وهي كما وردت في الخيار الأول. أم أن ما قام به الراعي الأمريكي في الجولتين التاسعة والعاشرة عملية جس نبض واختبار تمهيداً لتحديد الخيار الجديد.. وكجواب لا أظن أننا نتجنى على أحد اذا قلنا أن الدلائل تؤكد أن الراعي الأمريكي قرر واختار وعلى أطراف مدريد الأولى اللحاق والبحث عن الأدوار الخاصة بهم. واذا كان بالامكان القول وداعاً لمدريد الأولى فلعل من المفيد القول أن نجاح صيغة جديدة تتطلب التعامل مع الخيار الثالث ووضعه في عين الاعتبار سواء باعتماده كاملاً أو بالمزاوجة بينه وبين أي من الخيارات الأخرى. ولا أعتقد أن بإمكان أي طرف الآن اعتماد الانسحاب من المفاوضات كخيار يختار..