آفاق الجولة العاشرة من المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية

بقلم ممدوح نوفل في 16/06/1993

هل يكرر الراعي الأمريكي أخطاء الجولة التاسعة

لعل من المفيد على أبواب الجولة العاشرة من المفاوضات العربية الاسرائيلية استقراء الآفاق الواقعية لهذه الجولة، وتحاشي الوقوع في مطب المبالغات المتفائلة أو المتشائمة. وأظن أن الواقعيين الفلسطينيين بحاجة لعملية الاستقراء هذه أكثر من المشاركين الآخرين، ليوحدوا مسبقاً رؤياهم لها ومواقفهم، وليقللوا من التعارض والتناقض في التصريحات والبيانات، وليجنبوا الشارع الفلسطيني وأنصار قضيتهم كل أشكال البلبلة والارباك التي شهدناها قبل وخلال الجولة السابقة. وخيراً فعلت القيادة الفلسطينية هذه المرة حيث قررت المشاركة في الجولة العاشرة وأعفت الجمهور الفلسطيني بلبلة وارباكات انتظار نذهب، أو نقاطع، أو نعلق…
واذا كان لكل جولة من المفاوضات خصائصها وظروفها المميزة عن سواها، فالثابت أيضاً أن الجولة العاشرة من المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية تنعقد وهي محكومة بالمواقف والأجواء التي أفرزتها الجولة التاسعة، وأيضاً تحت تأثير الاوضاع والصدامات الجارية على أرضي الضفة والقطاع. ومن الطبيعي أن تكون مسودات اعلانات المباديء التي تقدم بها الوفدان الاسرائيلي (6/5) والفلسطيني (10/5)، ومسودة مشروع البيان المشترك الذي تقدم به الراعي الأمريكي (12/5) أوراق بحث في المسار الفلسطيني-الاسرائيلي طيلة أعمال الجولة المحددة بثلاث أسابيع. واذا جاز اعتبار تبادل الوفدين مسودات اعلانات المباديء، وموافقتهما على تطوير دور الراعي الأمريكي والارتقاء به الى مصاف الشريك الكامل بمثابة مؤشرات جدية لرغبة الطرفين والشريك في التوصل الى اتفاقات، ومحاولة جادة للتقرب من بلورة صياغات لهذه الاتفاقات، فالتدقيق في نصوص المسودات، وفي نص مشروع البيان المشترك يؤكد استمرار وجود عقبات كبرى وخلافات وتباينات جوهرية بين الطرفين تتعلق بالمفاهيم وليس فقط بالصياغات، وأن معالجة كل هذه الخلافات والوصول الى قواسم مشتركة بشأنها يحتاج الى المزيد والكثير من المناقشات قد تستهلك عدة جولات. فالتقدم الذي حصل في الجولة التاسعة في مجال صياغة ومفهوم الترابط بين المرحلتين الانتقالية والنهائية، وحول انطباق القرار 242 على العملية ككل وتطبيقه في النهائية، وأيضاً حول مفهوم الوحدة الترابية للضفة والقطاع لا تكفي للتوصل الى اتفاقات، فقد ترافق مع هذا التقدم (عصلجات) قوية، وقابله عقبات وخلافات عميقة في المفاهيم وفي النصوص حول 1) تعريف وتحديد الأراضي التي ستخضع لسلطة الحكم الفلسطيني الانتقالي 2) طبيعة الصلاحيات التي ستنقل للسلطة الفلسطينية الانتقالية ومدى شموليتها لحق التشريع للقرارات الاقتصادية واستخدامات الأرض والمياه وكل الثروات الطبيعية. 3) وضع المستوطنين والمستوطنات خلال الفترة الانتقالية ونوعية القوانين التي ستطبق عليهم ومن سيطبقها. 4) موقع القدس العربية أرضاً وسكاناً ومقدسات خلال المرحلة الانتقالية، وصيغة علاقتها بالحكم الانتقالي، ودور أهلها في بناء وانتخاب السلطة الانتقالية وتعريف حدودها البلدية. 5) مفهوم الأمن الداخلي والخارجي وحدود مسؤوليات وصلاحيات كل من الشرطة والأمن الفلسطيني وكذلك الأمن والجيش الاسرائيلي.
وبجانب هذه الخلافات، فالمفاوضون الاسرائيليون والفلسطينيون يلتقون الآن في واشنطن والعملية مصابة بأمراض ضعف الثقة، وضعف مصداقية الراعي الشريك، واللف والدوران حول الذات. ولا شك أن انتهاء الجولة التاسعة دون التوصل الى اعلان المباديء الذي بشر به الراعي الأمريكي، ونودي على الناس بانتظاره أنعش هذه الأمراض. ولا نتجنى اذا قلنا أن ارتباك الراعي الأمريكي في الجولة الأخيرة وانكشاف نقاط ضعفه أثار العديد من التساؤلات حول قدرته على رعاية العملية دون انحياز وقدرته على قيادة السفينة والوصول بها الى بر الأمان. واذا كنا لسنا بصدد تقييم مجمل دور الراعي الأمريكي فلربما كان مفيد للمستقبل الاشارة الى عدد من الأخطاء الكبرى والرئيسية النافرة التي ارتكبها طاقم الخارجية في ادارتهم للجولة التاسعة. الخطأ الأول حين بسطوا الخلافات، وبالغوا في تحديد هدف الجولة وأعلنوه مسبقاً “التوصل الى اتفاق على اعلان مباديء حول السلام الفلسطيني الاسرائيلي”، وروجوا له على أعلى المستويات بما في ذلك الحديث عن لقاء الرئيس كلينتون مع رؤساء الوفود لمباركة الاتفاق، واعلان الوزير كريستوفر بنفسه بعد لقاء مع الأمين العام للأمم المتحدة “ان خرقاً رئيسياً سيتحقق على المسارين الفلسطيني-الاسرائيلي والسوري-الاسرائيلي ولم يتحقق هذا الاختراق. أما الخطأ الثاني فهو تسرعهم في استدراك الخطأ الأول وتراجعهم بشكل مذهل وسريع عن هدف اعلان المباديء، وتقزيم دورهم بطرح مشروع بيان مشترك واضح أنه أعد على عجل وبشكل غير مدقق ومسلوق وبعدما يزيد على 8 أشهر من المفاوضات، وفشلهم في تحقيق اتفاق حوله. ناسين أنه الورقة الرسمية الأولى التي تتقدم بها ادارتهم الجديدة، وأنها موضع رصد واختبار دولي. وأن الجميع جالسين في غرفة الترقب والانتظار. أما الخطأ الثالث فهو استهلاكهم السريع (خلال أيام) لدور الشريك الكامل وتقزيمه في مشروع فاشل والظهور بشكل مكشوف بأنه شريك كامل ومنحاز، عجز عن تأمين عقد اجتماع يمكنه ممارسة شراكه الكاملة. واذا كان إدراك الراعي بأن استمرار العملية واستعادة الثقة بها وحاجته الى انجاز ما في الشرق الاوسط يغطي به اخفاقه في البوسنة والهرسك هي التي دفعته الى التسرع وتبسيط الأمور فالواضح أن النتيجة جاءت عكس ما تمناه، وانطبق عليه المثل القائل “جاء يكحلها فعمى عينها”، ومن “أول غزواته كسر عصاته” ولا مبالغة في القول أن الانتصار الهام الذي حققه الوزير كريستوفر حين أعاد تشغيل وتحريك مولدات وعجلات عربة السلام بعد تعطلها أربع شهور كاملة قد استهلك بسرعة خارقة وسحب معه بعضاً من الرصيد، حيث تأزمت علاقته مع الطرف الفلسطيني، ومست مصداقيته مع باقي الأطراف حين تشاور مع الجانب الاسرائيلي ولم يراعي ما ورد في رسالة التطمينات التي أعطاها للفلسطينيين، وحيث عجز عن الايفاء ببعض الالتزامات الشفوية والخطية التي أعطيت للفلسطينيين ولوزراء خارجية مصر وسوريا والاردن ولبنان.
وأعتقد أن الراعي الأمريكي يدخل الجولة العاشرة وهو ملحوق وبحاجة ماسة للتعويض. فهل سينجح في ذلك؟ وهل من أفق لنتيجة ملموسة على المسار الفلسطيني-الاسرائيلي في هذه الجولة؟ بعدما حصل ما حصل في الجولة التاسعة. وفي أية اتجاهات ينبغي التركيز لتحقيق نتيجة مقبولة يجمع كل المشاركين والمراقبين للمفاوضات على ضرورتها وأهميتها في هذه الجولة بالذات؟
في سياق الاجابة على هذه الأسئلة أعتقد أننا لا نجازف في القول أن الامكانية متوفرة والظروف مهيأة للتوصل الى نتائج ملموسة في بعض المجالات، ومتوفرة لتحقيق تقدم محدود في مجالات أخرى، وذلك بالرغم من الصعوبات والخلافات العميقة بين الطرفين وبالرغم من تأزم علاقة الراعي الأمريكي مع الفلسطينيين. فسبر الأغوار الذي تم بين الطرفين على امتداد الفترة الطويلة الماضية وخاصة في الجولة الثامنة والتاسعة، والتدقيق في ما قيل شفوياً في الجولة الأخيرة وخاصة في اللجان الفرعية قبل تجميدها. وبعض ما تتضمنته الأوراق المتبادلة تؤكد وجود الكثير من النقاط المتفق أو شبه متفق عليها. وتصلح في حال تجميعها مع بعضها البعض وفرزها عن سواها كأساس لصياغة وثيقة سياسية، أو اعلان مباديء للسلام، تكون أساساً للمفاوضات اللاحقة ولبعض الخطوات العملية على الأرض. وأعتقد أن مناقشات ما يقارب العشرين شهراً من عمر عملية السلام كافية لاستخلاص أمرين أساسيين. الأول: تعذر امكانية وصول الطرفين الرئيسيين وحدهما الى اتفاقات أساسية فوق طاولة المفاوضات ومن خلال وفدين يزيد عددهما عن دزينتين من الأفراد. وأن لا مناص من تقدم الراعيين بمشروع موحد عادل ومنصف يحترم الشرعية الدولية وقراراتها، ويؤسس لتحقيق الأهداف الأساسية للمفاوضات أو فتح قنوات توصل منابع قرارات الوفدين بعضهما ببعض. وأعتقد أن هروب رابين من هذه الحقيقة ورفضه الاندفاع نحو فتح هذه القنوات يؤكد تردده، ويكشف عن تناقض في مواقفه. ورغبته في جميع الصيف والشتاء على سطح واحد وفي وقت واحد. فهو من جهة يطالب ويلح برفع مستوى المفاوضات ويسعى للقاء مع بعض الرؤساء ومن جهة أخرى يرفض أي لقاء مع رئيس اللجنة التنفيذية. يصر في المسار السوري على معرفة النتيجة النهائية للسلام ويرفض مجرد الاشارات لها مع الفلسطينيين ويصر على بقائها مفتوحة على كل الخيارات..
أما الأمر الثاني فهو أن الشروع في تنفيذ عدد من خطوات واجراءات بناء الثقة بين الطرفين ضرورة لا غنى عنها لانعاش العملية، ولتجديد دورتها الدموية، ولتعزيز الثقة بها، ولتأكيد مصداقية أطرافها، ولتأكيد حيادية رعاتها، وإظهار قدرتهم على لعب أدوار فاعلة ومنتجة يؤكدون من خلالها قيمة وضرورة حضورهم. فقد أكدت مجريات المفاوضات ترابط وتشابك هذه الخطوات والاجراءات بالقضايا الجوهرية المطروحة على جدول أعمال المفاوضات. وأعتقد أن من غير المفيد لا للمفاوضات ولا لمستقبل السلام ولا لدور الراعاة بل من الضار لدورهما الاستمرار في القفز عن قضايا مبدأية تتعلق بحقوق الانسان أو ربطها بمدى تقدم المفاوضات وزج المتفاوضين في دويخة وحزورة أيهما سبق الآخر في الحياة البيضة أم الدجاجة. فالحريص على تقدم المفاوضات والواقعي العملي في التعامل مع الحياة ينطلق من رؤية الترابط بين الدجاجة والبيض في صنع دور الحياة وفي استمرارها بانتظامهما.
فهل ستكون الجولة العاشرة محطة فاصلة للأخذ بالأمرين، أم أن وضع رابين غير ناضج للوصول الى اتفاق أولي واقعي مع الفلسطينيين وأن وضع الراعيين ضعيف ولا يساعدهما على طرح المبادرات؟ وهل سيكرر الراعي الأمريكي أخطاء الجولة التاسعة؟
وبما أن مدة الجولة ثلاثة اسابيع فقط فالانتظار لن يكون طويلاً،والجواب لن يتأخر..

عضو الامانة العامة المؤقتة
للاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا)