الانقسام الفلسطيني وكيف نواجهه /ح2

بقلم ممدوح نوفل في 07/05/1993

2) الالتزام بالديمقراطية وبالمصالح الوطنية العليا كفيل بذلك

التمعن في القضايا التي أثارت الخلاف والانقسام الفلسطيني الحالي وليس العتيق، يبين أنها قضايا جوهرية ومصيرية، تستحق أن يقع خلاف فلسطيني حولها. فكلا الاتجاهين المؤيد والمعارض، يدركان أن عملية السلام التي انطلقت من مدريد في 30 اكتوبر 91 والمفاوضات الجارية في إطارها الان تحمل في طياتها استحقاقات تاريخية ومصيرية تمس بنتائجها مستقبل الشعب الفلسطيني، وتقرر مصير قضيته الوطنية لجيل كامل وربما أكثر من جيل.

وبقراءة موضوعية وهادئة لمواقف الطرفين يتبين أنهما متباعدين لدرجة أنهما يسيران في خطين متوازيين يستحيل في الوضع الراهن جمعهما في خط واحد، ولا أعتقد أن لقاء (تبويس لحى) قادر على دمجهما مع بعضهما البعض، لا سيما وأن كلا الاتجاهين لا زال يملك من المستندات التي تمكنه من إسناد ودعم قناعته وموقفه. ولعل عدم توصل المتفاوضين حتى الان الى اتفاقات ملموسعة وعدم ظهور الدخان الأبيض فوق أي محور من محاور المفاوضات الثنائية أو المتعددة الأطراف يساعد على بقاء مثل هذا التباين والانقسام قائماً، ويمكّن كلا الموقفين المحافظة على وحدة وتماسك أنصاره ومؤيديه. ومرور عام ونصف على المفاوضات وانعقاد ثمان أو تسع جولات غير كافية لاقناع المؤيدين بالتراجع والانسحاب من المفاوضات واعلان فشل عملية السلام والاعتراف بخطأ موقفها. وبالمقابل فإن ما تحقق من انجازات ومكاسب مباشرة وغير مباشرة مادية أو معنوية غير كافية لاقناع المعارضة بالتوقف عن المطالبة بالانسحاب من المفاوضات وغير كافية لانتزاع الاعتراف منها بخطأ موقفها.

وبغض النظر عن النتائج التي ستتمخض عن الجولة التاسعة أو ما سيتلوها من جولات لاحقة فالواضح أن المفاوضات تسير باتجاه التوصل الى اتفاقات ما، وهذا يعني وصول الجميع للنقطة الحرجة الكفيلة بتمكين الشعب الفلسطيني والمراقب المحايد من إصدار الحكم الموضوعي والعادل على الموقفين. ولا حاجة لأن يكون الانسان عبقرياً حتى يتنبأ ويقول أن بلوغ تلك النقطة المفصلية أو إصدار الحكم المحايد سيكون كافياً لاقناع ودفع كل قوى الطرفين الى تبديل مواقعها ومواقفها. ولا أظن أننا نجازف اذا قلنا أن أكثر الناس تفاؤلاً يمكنهم توقع حدوث تبدلاً طفيفاً في التحالفات بين الفصائل المتصارعة الآن. أما على الصعيد الشعبي داخل وخارج الأرض المحتلة فالأمر سيكون مختلف تماماً.

أمام هذه اللوحة الواقعية للوضع القائم الآن وللتطورات المحتملة في مواقف الاتجاهين يتبادر للذهب عدداً من الاسئلة الهامة وأهمها: هل الاتجاهين يسيران حتماً نحو المزيد من الصراع؟ وهل ستمر الساحة الفلسطينية بأشكال الاحتراب والاقتتال الداخلي الذي مرت به معظم الشعوب التي نالت استقلالها وكان للكفاح المسلح وقواه دوراً رئيسياً في ذلك؟ أم أن الفكر السياسي الفلسطيني والوعي الديمقراطي الذي بنته الانتفاضة في صفوف الشعب الفلسطيني قادر على لجم الاندفاع في هذا الطريق وفرض الحلول الديمقراطية؟. وهل الشروع في الحوار الوطني الشامل منذ الآن يساعد في تجنيب الشعب الفلسطيني إراقة المزيد من الدماء لا سيما وأن الدماء التي سالت من أبنائه لم تبقي بقعة من أرض فلسطين الا وغطتها؟

قبل الغوص والاجتهاد في هذا الموضوع الشائك والمعقد أعتقد أن من الضروري تحديد الارضية المشتركة التي يمكن الوقوف عليها والانطلاق منها باتجاه مواجهة الانقسام. إن إقرار الجميع بأن كل المواقف المعروفة لكل الأطراف هي اجتهادات وطنيين فلسطينيين، وكلهم كالمجتهد في الاسلام “إن أصاب له أجران وإن أخطأ فله أجر واحد” ضرورة لا غنى عنها. وبدون توفرها لا أعتقد أن بالامكان التفكير أو البحث في الموضوع. وفي هذا السياق أظن أن ليس من حق المعارضة فرادى أو جماعات حتى ولو كانوا مشايخ وعلماء تخويل أنفسهم صلاحيات إصدار فتاوى بتكفير هذا المفاوض أو ذاك، فالمفاوضات مع الأعداء في الاسلام ليست حرام، فالرسول فاوض الكفار وصلاح الدين فاوض. وليس من حقهم أيضاً ولا من صلاحياتهم الدينية أو الدنيوية منح الصفة أو الهوية الوطنية الفلسطينية لهذا الانسان الفلسطيني وسحبها وحجبها عن ذاك لمجرد أنه يخالفهم الرأي والموقف حول المبعدين وحول المشاركة في المفاوضات. واذا كان مثل هذا الحق لا تملكه اطلاقاً الاغلبية حتى ولو كانت منتخبة فهو بالتأكيد خارج نطاق حق وملكية أقلية غير منتخبة. وإدعاء الغيرة على المصلحة الوطنية حق عام يملكه كل الوطنيون الفلسطينيون بغض النظر عن آرائهم ومواقفهم ومواقعهم خارج أو داخل الأطر والهيئات التشريعية والتنفيذية. ولا يحق لأحد تنصيب نفسه باعتباره الغيور الوحيد أو القيّم الأوحد على القضية الفلسطينية، أو باعتباره مالك الحقيقة المطلقة التي لا يرقى لها أي شك ولا حقيقة سواها.. أما بشأن الاسئلة المطروحة فيمكن القول:

أولاً – الحوار ضروري لضبط وتنظيم الخلاف:
واضح أن طعن المعارضة وتشكيكها في شرعية القرار بالمشاركة في عملية السلام أو في أية جولة من جولات المفاوضات السابقة أو اللاحقة لم ينهي الخلافات ولا يحل الاشكال. فلا الطعن شرعي ولا التشكيك أوقف المفاوضات. فالكل يعرف أن المشاركة تمت وتتم وفقاً واستناداً لقرارات من المجلس الوطني والمجلس المركزي الفلسطيني، وبالمقابل فإن الاستمرار في تغييب دور المعارضة وحرمانها من حقها في الاطلاع على مجريات المفاوضات ومراقبة مدى انطباقها مع قرارات المؤسسات التشريعية يعمق الشكوك ويزيد الفجوة ويعمق الخلافات. والمفاوضات متواصلة وقد تدوم خمس سنين، ودعوات الانسحاب منها أو تجميد المشاركة فيها الى ما بعد الوصول الى اتفاق وطني شامل حولها أظن أنها دعوات غير واقعية وغير عملية. فالاتفاق الوطني الكامل والشامل مستحيل ولربما كان غير صحيح اذا وقع الآن، ووضع شروطاً مسبقة على الحوار الوطني يتنافى مع قواعد الديمقراطية. ولا نستبق الظن والسوء اذا قلنا أن الخلاف والتباين مقدر له أن يستمر حتى ولو عقد مثل هذا الحوار. فقضايا الخلاف كثيرة وكبيرة، والفجوة بين الموقفين واسعة، وعليه يمكن القول أن كلا الطرفين مطالبين بالاتفاق أولاً على أنهما مختلفان، وأن خلافهما سوف يتواصل. وهما مطالبان بتحديد نقاط الخلاف بدقة. وتحديد ما يمكن تسميته الخطوط الوطنية الحمراء التي لا يجوز لأي منهمات جاوزها. وفي هذا السياق وتمهيداً للحوار وتنظيم الخلاف لا بد للمقاطعين اجتماعات الهيئات التشريعية والتنفيذية (مجلس مركزي، لجنة تنفيذية، قيادة فلسطينية) أن ينهوا مقاطعتهم. ويفترض بتجربة نصف عام من المقاطعة أن تكون كافية لتأكيد عدم جدوى هذا الاسلوب في التصحيح أو في الأخذ الدور في الرقابة على سير المفاوضات وحسن تنفيذ القرارات. واذا صدقت النوايا فيس عسيراً ايجاد حلاً مؤقتاً لمشاركة حماس في هيئات ومؤسسات م.ت.ف بدءاً من المجلس الوطني وانتهاءاً بأدنى مؤسسة فلسطينية داخل وخارج الوطن المحتل. واذا كان لا مجال في هذا المقال الدخول في التفاصيل فصيغة المجلس المركزي تفسح المجال لدخول حماس مباشرة، وذات الشيء ينطبق على صيغة القيادة الفلسطينية والقيادة الوطنية الموحدة. وأعتقد أن تقدم المفاوضات يفسح في المجال لاجراء الانتخابات والاستفتاءات التي تعطي لكل ذي حقٍ حقه ووزنه.

ثانياً- رغم الخلاف هناك مهام وطنية مشتركة:
بالرغم من كل ما تحمله بيانات (القيادة والمعارضة) الاتجاهين من اتهامات ومواقف متناقضة ومتعارضة، يمكن للمرء اذا كان باحثاً عن الخير أن يجد فيها قواسم مشتركة، وأن يستخرج منها مهام عمل أساسية يتوحد حولها الطرفين.

أ) فالاتجاهان يؤكدان أن ميزان القوى في كفته الدولية لا يميل لصالح الطرف الفلسطيني والعربي، وأنه في حالته الراهنة لا يساعد على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وفقاً للمفهوم الفلسطيني والعربي ولا يساعد على تحقيق الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني بالتصور والمفهوم الفلسطيني. وتجمع مواقف الطرفين على ضرورة العمل من أجل إحداث تعديلات جوهرية عليه. واذا كان المؤيدون لعملية السلام يرون أن المشاركة في عملية السلام تساهم في صنع مثل هذا التعديل والتحسين في الموقف الوطني الفلسطيني، والمعارضة ترى عكس ذلك، فليس درباً من الخيال والمثالية مطالبة الاتجاهين بتوحيد جهودهما وتنسيق تحركاتهما لاحداث التعديل والتغيير الذي يتحدثان عنه. وأعتقد أن تفعيل دورهما في صفوف الجالية الفلسطينية وتشغيلها مثلاً باتجاه التأثير على الرأي العام العالمي الأوروبي والأمريكي وعدم تركه فريسة للتعبئة الصهيونية واجب يوحد ويقرب قواعد وكوادر الطرفين.

ب) يتغنى الطرفان بانتقال مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية للداخل، ويكثران من الحديث عن بناء المؤسسات الوطنية داخل الوطن المحتل، وعن بناء اقتصاد فلسطيني مستقل عن الاحتلال.. إن دعوتهما للتنسيق في ترجمة الأقوال الى أفعال لا يمكن اعتبارها بحثاً مصطنعاً عن أرض وشغل يتوحد فيهما الطرفان.

ج) وتكاد لا تخلو كل البيانات الفلسطينية بيسارها ويمينها من التغني بالانتفاضة وكلها تكثر من الحديث عن ضرورة تواصلها وتفعيلها وتصعيدها..الخ أفليس واجباً وطنياً يفرض عليهم أن يلتقوا ويتوحدوا وينسقوا ليحققوا هذه المهام النبيلة وهذا الهدف الوطني الكبير؟

ثالثاً- اعتماد الديمقراطية يضمن حقوق الجميع:
ما من بيان صدر عن المعارضين أو المؤيدين لعملية السلام الا وأكد على ضرورة الاحتكام للديمقراطية والالتزام بها. وعند نقاش مفهوم الديمقراطية ليس عسيراً اكتشاف بعض التشويه المتعمد أو غير المتعمد لها. فالبعض يحصرها ببعض المطالب أو المكاسب الفئوية التي يمكن أن يجنيها فيسلط الأضواء على ما يراه مناسباً لتحقيق هدفه. وآخرين يطرحونها وكأنها سلعة تباع وتشترى أو توهب وتمنح من هذا القائد أو ذاك. لا شك أن الكثير من هذا التشويه ومن هذه المفاهيم الخاطئة للديمقراطية موروث من المفاهيم الخاطئة التي زرعتها بعض أنماط الثقافة الحزبية المتزمتة. كما لا يمكن إنكار دور فقر وقلة ممارستها في الحياة اليومية للفصائل في نشر هذه المفاهيم الخاطئة. ورغم ذلك كله أعتقد أن بالامكان الاتفاق على عدد من الأسس والمباديء تعطي للديمقراطية روحاً عملية قادرة على تنظيم العلاقة الراهنة والمستقبلية بين الاتجاهين، وقادرة على ضمان حقوق الجميع، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه ووزنه. منها:

_ الاقرار بالتعددية السياسية والتنظيمية واحترام الرأي والرأي الآخر

_ حق الأقلية، أية أقلية، أن تعبر عن وجودها وقناعتها بكل الأشكال وعبر المنابر الخاصة والعامة ان وجدت.

_ أن يلتزم الجميع بالابقاء على الخلافات والتصارع في وجهات النظر يدور في إطاره الفكري والسياسي وأن لا يتحول الى صراع تناحي أو اقتتال داخلي.

_ أن تبقى المصلحة الوطنية العليا وخاصة مواجهة الاحتلال وطرده فوق كل اعتبار فئوي ضيق، تنظيمي أو عقائدي أو مذهبي.

_ الالتزام باستفتاء الشعب، والعمل سوياً لتهيئة الظروف لاجراء استفتاء حر ونزيه حول القضايا المختلف حولها.

_ الحرص على استقلالية الحركة الفلسطينية وعلى استقلالية قرارها.

وأعتقد أن خطأً فادحاً يرتكب في حال بقاء الحديث عن الديمقراطية يدور في إطار تنظيم العلاقة بين الاتجاهين القائمين الآن في الساحة الفلسطينية، فالمرحلة الجديدة التي يقف على أعتابها النضال الوطني الفلسطيني تتطلب أولاً دمقرطة علاقة الفصائل كلها دون استثناء مع الناس العاديين غير المنتمين لها. وتتطلب ثانياً إعادة النظر بصورة شاملة في كل صيغة العلاقة القائمة بين الداخل والخارج، والتي تقوم حتى الآن (عملياً) على نظرية الداخل ساحة من ساحات النضال، والانتفاضة وقيادتها ذراع من أذرع الثورة.. فقد أكدت مجريات الحياة السياسية الفلسطينية منذ انطلاقة الانتفاضة وبعدها المفاوضات أن مثل هذه المفاهيم لم تعد قادرة على مواكبة ما يحمله المستقبل من متغيرات وتطورات وقعت في بنية المجتمع الفلسطيني نفسه وتطال علاقته بالمجتمعات المحيطة به. وبالخلاصة يمكن القول أن دمقرطة العلاقة بين الداخل والخارج يجب انطلاقها من مفهوم أن الداخل هو الوطن وعلى أرضه يتقرر المصير الوطني ومصير كل الفصائل. فهل سيعمل الجميع مؤيدين ومعارضين لعملية السلام على حشد امكاناتهم من أجل تحرير الوطن؟ أم أن دعوات اعتماد الديمقراطية كأساس لحل الخلافات لها وظيفة أخرى؟ . لا شك أن الفكر السياسي الفلسطيني وكل الفصائل والأحزاب والحركات تقف أمام امتحان تاريخي صعب وعسير.. فهل سيسجل التاريخ لها النجاح؟ في هذا الامتحان؟؟!!..