المشاركة الفلسطينية في الجولة التاسعة بين الشروط المطلوبة والمكاسب المعروضة

بقلم ممدوح نوفل في 15/04/1993

أظن لا مبالغة في القول أن المعركة التي خاضتها قيادة م.ت.ف حول موضوع المبعدين كانت من أنجح المعارك الديبلوماسية الكثيرة التي قادتها المنظمة خلال الشهور الماضية. وبغض النظر عن موقف الاخوة في قيادة حركة حماس من تولي المنظمة دفة قيادة هذه المعركة، فالكل يتذكر أن م.ت.ف بادرت منذ اللحظة الأولى لصدور قرار الابعاد الأسود وتحملت مسؤولياتها الوطنية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وتحركت في شتى المجالات العربية والدولية المتاحة وعلى كل المستويات التي استطاعت الوصول لها. فمنذ اليوم الأول أوعزت قيادة م.ت.ف لوفدها المفاوض بالربط بين تنفيذ قرار الابعاد وبين مواصلة مفاوضات الجولة الثامنة، وقبل أن يستكمل المبعدون نصب خيامهم في مروج مرج زهور كان الوفد الفلسطيني قد قطع مع الوفود العربية الأخرى المفاوضات ووصل ال تونس للمشاركة في الاجتماعات الهامة التي عقدت لبحث الموضوع. وبذات الوقت كان مندوب فلسطين في الأمم المتحدة يطوف على أروقة الامم المتحدة رواقاً رواق، وغرفة غرفة داعياً الشرعية الدولية الى تحمل مسؤولياتها إزاء هذا الخرق الفظ لاتفاقيات جنيف ولمواثيق الأمم المتحدة وكل الأعراف الدولية، ولمباديء حقوق الانسان.

وأعتقد أن انصاف الحقيقة واحترامها يفرض على الجميع الاقرار بأن قرار 799 صدر بعد جهود مضنية ومساومات دولية صعبة خاضتها م.ت.ف وليس الآخرين. وفي تلك الأيام توحد الموقف الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، قيادة ومعارضة حول شعار “لا عودة الى طاولة المفاوضات الا بعد حل مشكلة المبعدين، والحل بتنفيذ القرار 799″. ولاحقاً وفي ضوء التفاعلات الدولية الايجابية طورت م.ت.ف موقفها وأضافت شروطاً جديدة تطال مبدأ الابعاد وعودة المبعدين وأسس وقواعد عملية السلام، وقضايا ذات صلة بموقف راعيي العملية وبالمواضيع الأخرى المطروحة على طاولة المفاوضات، وأخرى ذات علاقة بحقوق الانسان الفلسطيني، وكذلك معالجة الأوضاع الاقتصادية القاسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل، والحصار الاقتصادي والمالي المضروب حول منظمة التحرير منذ ما يقارب ما يزيد على ثلاثين شهراً.

واذا كان لا ضرورة ولا داعي لاستعراض تفاصيل النشاطات والاتصالات العربية والدولية التي تمت مع قيادة م.ت.ف خلال الـ 100 يوم الماضية، فلا بد من القول أن قيادة م.ت.ف بقيت صامدة على موقفها رغم ضغوط الأشقاء والأصدقاء الكثيرة والمتنوعة التي تعرضت لها. وبغض النظر عن مدى صوابية رفضها استلام -مجرد استلام- كتاب الدعوة من الراعيين لحضور الجولة التاسعة، فالوقائع تؤكد أنها تجاوزت في كثير من الاحيان بعض الخطوط الحمراء التي ترسمها الدول الكبرى عادة حول هيبتها الدولية. والآن وعلى أبواب الموعد الذي حدده الراعيين (20 نيسان) لاستئناف المفاوضات لانعقاد الجولة التاسعة، أعتقد أن قيادة م.ت.ف مطالبة قبل اتخاذ القرار بإجراء جردة شاملة لحصيلة هذه المعركة، تراجع فيها بمسؤولية وموضوعية شروطها المطلوبة والمكاسب التي يمكن أن تتحقق للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة بما في ذلك قضية المبعدين القدامى والجدد. وعند إجراء مثل هذه المراجعة، وتجنباً للوقوع في الأخطاء لا بد من أخذ بعض الأمور بعين الاعتبار. منها:

1) أن نسبة تحقيق المطالب تتأثر بميزان القوى القائم في اللحظة المحددة.

2) الشروط والمطالب السياسية وحتى التجارية تكون عادة خاضعة لمساومات معقدة تطرح فيها الاطراف المعنية سلفاً مطالبها بحدها الأقصى، وهي تعرف سلفاً الحدود الدنيا التي ستقبل بها.

3) اعتماد البراغماتية كأداة قياس للحساب.

وبصدد الموضوع المطروح لا بد من النظر لما يمكن تحقيقه من المطالب بالقياس لما يمكن خسارته في حال رفض المعروض. دون أن يعني ذلك عدم الاستمرار في المساومة وحتى اللحظات الأخيرة.

وبالاستناد الى هذه الأمور، وبالتدقيق في العروض المقدمة لمنظمة التحرير حتى الان، يمكن القول أنها تتضمن عدداً من المكاسب الملموسة، وقضايا أخرى تندرج في خانة الوعود الأمريكية والاسرائيلية. وقبل الدخول في استعراضها واحدة واحدة لعل من المفيد القول أن م.ت.ف ليست مطالبة بتقديم أية تنازلات تذكر، فكل المطلوب منها هو الموافقة على الاستمرار في المفاوضات والمشاركة في الجولة التاسعة في الموعد الذي حدده لها راعيي المؤتمر. أما المكاسب الملموسة والوعود المقدمة فهي:

أولاً: الموافقة على دخول الأخ فيصل الحسيني الى طاولة المفاوضات. وقيمة هذا الموضوع لا تتوقف على ما يمثله الأخ فيصل، بل لما يرمز اليه، فدخول فيصل يعني دخول القدس صلب المفاوضات بغض النظر عن الرأي الاسرائيلي وعن القضايا الشكلية المتعلقة بالعنوانين. فالأخ فيصل يبقى ابن القدس حتى ولو كان عنوانه في القمر. والكل يتذكر المواقف الاسرائيلية السابقة حول موضوع القدس وحول مشاركة الأخ فيصل بالتحديد. وفي هذا السياق لعل من المفيد التذكير بأن حكومة الوحدة الوطنية الاسرائيلية فرطت عام 90 بسبب هذا الموضوع بالتحديد. والتذكير بشروط شامير قبل افتتاح مؤتمر مدريد.

ثانياً: الموافقة على عودة أعداد من الأخوة المناضلين الذين أبعدوا في فترة 67-87. وبغض النظر عن العدد النهائي الذي سترسوا عليه المساومات الجارية (حتى الآن أكثر من 50)، فقيمة الخطوة لا تكمن فقط في العودة الفورية لمن سيعود الى أرض الوطن، بل وأيضاً في كونها توجه ضربة قاسمة لأسس مبدأ الابعاد وتشق الطريق نحو اعادة مئات الالوف من الفلسطينيين الذين أبعدوا ونزحوا عن ديارهم منذ فجر الخامس من حزيران عام 67.

ثالثاً: صحيح أن الدفعة الأخيرة من الاخوة المبعدين لن تتمكن من العودة الفورية وفي دفعة واحدة، لكن الصحيح أيضاً أنهم جيمعاً سيعودون في غضون بضعة أشهر حدها الأقصى كما تشير المفاوضات الجارية أربعة أو خمسة شهور. وبغض النظر عن الجدولة النهائية التي سترسوا عليها المساومات فأظن أن ليس في صالح أحد التقليل من قيمة الزام اسرائيل بتنفيذ قرار 799 ولو كان هذا التنفيذ على دفعات وبالتقسيط.

رابعاً: في اللقاءات التي عقدها الوفد الفلسطيني مع الوزير كريستوفر وطاقمه أكدت الادارة أن رابين سيقدم على خطوة عملية ملموسة تتعلق بقضايا حقوق الانسان في حال الموافقة الفلسطينية على المشاركة في المفاوضات وبالرغم من عدم الافصاح الأمريكي عن الملموس من هذه القضايا الا أن المواقف الاسرائيلية والامريكية على تشكيل لجنة خاصة بهذا الموضوع يفسح في المجال لتحويله من وعود الى مسائل عمليةو اجراءات ملموسة على الأرض تطال المعتقلين، والاستيطان ولم شمل العائلات وقضايا الضرائب وكل الأعمال والممارسات الارهابية ويجعلها قضايا ذات أولوية على طاولة المفاوضات، وقضايا اختبارية لمواقف الادارة الامريكية لا سيما وأنها اقرت أنها قضايا عادلة وعدم حلها يؤثر على تقدم المفاوضات.

خامساً: لا شك أن الادارة الامريكية تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية عن الاوضاع الاقتصادية المأساوية التي يعيشها الشعب الفلسطيني داخل الاراضي المحلة وخارجها، ومسؤوليتها لا تكمن فقط في فرض الحصار وتخفيض موارد المنظمة بل وفي استمرار هذا الحصار حتى الان. إن اقرار الوزير كريستوفر بمشروعية الطلب الفلسطيني وتقديمه وعوداً للوفد الفلسطيني بمعالجة الموضوع ورقة بيد المفاوض الفلسطيني يمكنه استخدامها لاحقاً على طاولة المفاوضات.

سادساً: إعلان الادارة الامريكية عن رفضها للابعاد واعتباره يتعارض مع اتفاقية جنيف الرابعة، وتجديد التزامها بوسائل التطمينات التي قدمتها للأطراف قبل افتتاح مؤتمر مدريد. وقيمة مثل هذا الاعلان تكمن في إقرار الادارة الامريكية وتجديد التزامها بموقفها من العديد من القضايا الاساسية الفلسطينية منها مثلاً الالتزام بموقف يقول أن القدس الشرقية جزء من الاراضي الفلسطينية المحتلة وأن أمريكا لا تعترف بأي تغيير في حدودها البلدية التي كانت قائمة عام 67. وأعتقد أن لا داعي لتبيان قيمة هذا التجديد فالكل يتذكر موقف الرئيس كلينتون نائبه آل غور من الموضوع خلال الحملة الانتخابية.
والى جانب كل هذه الأمور، أظن أن لا جدال بأن المكانة السياسية والاعتبارية لمنظمة التحرير قد تعززت خلال المفاوضات والمساومات التي جرت منذ عملية الابعاد وحتى الآن. وان تواصل اتقانها في ادارة هذه المعركة حتى النهاية سيظهرها بمظهر القيادة المصممة على تحمل مسؤولياتها ليس فقط عن كل هموم وقضايا شعبها، بل وعن قضايا الامن والسلام في العالم وضمنها الشرق الاوسط. وانطلاقاً من كون المفاوضات ساحة من ساحات النضال الوطني الفلسطيني، أظن أن لا خلاف على أن تحقيق هذه المكاسب والانجازات كجزء من المطالب الفلسطينية الكثيرة والمتنوعة يساعد على تحسين المواقف والمواقع الفلسطينية في هذا الميدان. وهي في كل الاحوال ليست منّة أو صدقة أو إحسان من أحد بل انتزعت عبر تضحيات جسام. وأعتقد أن التزام القيادة الاسرائيلية بتنفيذها يرسي أسساً واعدة لبداية نزول الاحتلال بعد ربع قرن من الصعود. وتمكننا من القول أن صخب الاجراءات العسكرية والاقتصادية الحالية للاحتلال ليست سوى مقدمات لهذا النزول، وأن موسم حصاد الزرع الفلسطيني وفصل جني ثمار التضحيات قد هلّ.