المعارضة وأسس اتخاذ القرار الفلسطيني

بقلم ممدوح نوفل في 27/11/1992

يوم 21 و22 نوفمبر عقدت القيادة الفلسطينية سلسلة اجتماعات مطولة بحضور الوفد الفلسطيني قيمت فيه مجريات ونتائج مفاوضات السلام الفلسطينية والعربية-الاسرائيلية في جولتها السابعة. والكل يعرف ان قرار عقد هذا الاجتماع اتخذ في اجتماع سابق عقد يوم 5 نوفمبر بحضور وبموافقة الاخوة ممثلو الجبهة الشعبية وممثل تنظيم حواتمة. فجأة وبدون مقدمات أصدرت التنظيمات مساء يوم 20 نوفمبر بيانا عنيفا، أعلنت فيه مقاطعتها للاجتماع، وهاجمت فريق مدريد في منظمة التحرير، والقيادة المتنفذة، رغم معرفة أصحاب البيان أن الوفد الفلسطيني ينفذ السياسة الفلسطينية في المفاوضات ولا يقررها، فهم لم يقصروا في هجومهم على الوفد. وقبل قرار المقاطعة وبعده كثر الحديث عند المعارضة حول أسس اتخاذ القرارات السياسية في المؤسسات التشريعية الفلطسينية. وأكثروا من المطالبة “باعتماد النصاب السياسي مقابل العدد الميكانيكي”، كأساس لتقرير المواقف، ورسم التوجهات السياسية المركزية لمنظمة التحرير أي اعتماد عدد التنظيمات وليس عدد أعضاء الهيئات. ومن هذه المقولة اشتق البعض سابقا فكرة تعليق دورة المجلس المركزي، وطرح ضرورة اجراء حوار وطني شامل خارج الاطر والمؤسسات التشريعية. وعليها تستند المعارضة الان في الطعن والتشكيك في شرعية تفويض المجلس المركزي واللجنة التنفيذية للوفد الفلسطيني في مفاوضات السلام.
لا شك أن المصلحة الوطنية تفرض مناقشة مثل هذا القرار بغض النظر عن النتيجة التي يمكن التوصل لها من هذا النقاش. وكمقدمة لذلك لا بد من مناقشة بعض منطلقات واسس هذا القرار وخاصة مقولتهم “باعتماد عدد الفصائل كأساس لاتخاذ القرار”. وفي هذا الاطار لا ادري اذا كان أصحاب هذه المقولة مقتنعين حقيقة بمقولتهم الجديدة أم أنهم يطرحونها في سياق العمل الدعاوي والاعلامي والتعبئة الداخلية، لا سيما وأن نقدهم السابق تركز حول التفرد بالقرارات، وحول دور القيادة المتنفذة. ولا أعرف اذا كانوا مدركين أن الحديث عن النصاب السياسي والعدد الميكانيكي يطال وجود المؤسسة التشريعية ودورها ومسؤوليتها عن اتخاذ القرارات. وبغض النظر عن الجواب الذي يمكن ان نتلقاه، فان واجب الدفاع عن الديمقراطية كمبدأ وعن المنظمة كمؤسسة (وليس أفراد او فصائل) يفرض توضيح ضرر هذه المقولة على العلاقات السياسية والتنظيمية الوطنية العامة، قبل تحولها الى عقيدة وعقدة جدية في العلاقات الوطنية المعقدة أصلا، خاصة وان المعارضة نقلت الموضوع من مستوى البيانات والتصريحات الصحفية الى داخل الاجتماعات الرسمية. حيث طالبت في الاجتماع الاخير للمجلس المركزي عدم التصويت على القرارات باعتبار النتيجة معروفة سلفا، وطالبت باعتماد النصاب السياسي بدلا من العدد الميكانيكي للاصوات على حد تعبير بعضهم.
واظن لا حاجة لان يكون الانسان نبيا حتى يقول ان المعارضة ترى في هذه المقولة ورقة قوية يمكن استخدامها واستثمارها في الصراع الجاري بين الاتجاهين حول مسألة المشاركة في عملية السلام. وأن يتبنأ باعتماد المعارضة لها كأساس لنشاطاتها وتوجهاتها المقبلة. ان التدقيق في تقاليد العمل السياسي والتنظيمي الفلسطيني، والقواعد والاسس التي سار عليها على مدى ربع قرن من الزمن يبين ان هذه المقولة غريبة، على التقاليد والاسس السياسية والتنظيمية المعتمدة والدارجة في الساحة الفلسطينية، فلا أحد يذكر ان موقفا فلسطينيا واحدا أخذ على أساس احتساب عدد الفصائل المعارضة او المؤيدة للمواضيع او القضايا التي كانت تطرح على بساط البحث والنقاش في الاجتماعات الفلسطينية. وبغض النظر عن نوايا اصحابها فهذه الفكرة البدعة تحمل في طياتها مخاطر كبيرة ليس على العلاقات الوطنية الفلسطينية فحسب وانما على مبدأ الديمقراطية، والاخذ بها يضرب أسس وجذور الديمقراطية وذلك للاسباب التالية:
أولا – تكريس نظام الصفقات من خلف ظهر الشعب:
ان الاخذ بنظام اعتماد عدد الفصائل كأساس لأخذ القرار، يتعارض مع مبدأ التمثيل عبر الانتخابات، ومع أسلوب استفتاء الشعب حول المسائل المصيرية، حيث يضع مصير القرارات بيد عدد من ممثلي الفصائل والتنظيمات. والمعروف ان حجم كل الفصائل والتنظيمات والاحزاب الفلسطينية مجتمعة يساوي سوى نسبة بسيطة من اجمالي الشعب الفلسطيني، ناهيك عن كون العديد من الفصائل لا تملك اي وجود تنظيمي في العديد من التجمعات الرئيسية لشعبنا.
والاخذ بهذا النظام يقود حتما الى فتح بازار للتحالفات غير المبدئية بين الفصائل والتنظيمات، والى سيادة نظام يقوم على أساس عقد الصفقات من خلف ظهر الشعب. علما بأن اغلبية الشعب لم تفوض الفصائل (كفصائل) في تمثيله ولا في التعبير عن رأيه ومواقفه. بل فوض المنظمة كمؤسسة وكاطار وطني عريض يضم ممثلين عن قواه السياسية والاجتماعية الفاعلة في كل مناطق انتشاره ومن ضمنها الفصائل. وفوض م.ت.ف لانها استطاعت كمؤسسة وطنية جامعة التعبيرعن طموحاته وتطلعاته الوطنية على مدى ربع اكثر قرن من الزمن وقادت نضالاته ومثلته خير تمثيل. ثم الا يحق للشخصيات الوطنية الوازنة في المجتمع الفلسطيني ان تسأل وفقا لهذه المقولة وتطالب بتعريف الفصيل الفلسطيني الذي يجب ان يرهن القرار الوطني بموقفه؟. ومن حقهم وحقنا ان نسأل هل الفصائل العشرة هي عشرة قوى حقيقية؟ مع احترامنا وتقديرنا لنضالات جميع الفصائل صغيرها وكبيرها. ثم ما الموقف وما هي النتيجة في حال ربط القرار الفلسطيني بفصيل او بضعة فصائل تستمد مواقفها وقراراتها من هذا البلد العربي او ذاك الاسلامي؟.
ثانيا – تهميش والغاء دور المؤسسات التشريعية:
لا جدال حول الاهمية القصوى للحوار الوطني بين القوى السياسية الفاعلة في المجتمع الفلسطيني، وكذلك احترام التعددية السياسية. ولكن أليست المؤسسات التشريعية (مجلس وطني، مجلس مركزي) موجودة بالاساس لتلبي هذا الغرض؟. والمعروف ان للحوار الوطني الفلسطيني تقاليد واسس تقوم على اجراء مشاورات وحورارات تمهيدية بين فصائل م.ت.ف تستكمل دوما في اجتماعات المجلس الوطني او المجلس المركزي وتغلق عادة بالتصويت العلني على القضايا المطروحة قضية قضية. ان مطالبة المعارضة الان باعتماد النصاب السياسي كاساس لاتخاذ القرارات ومطالبتها باجراء الحوارات خارج المؤسسات لا يمكن التعامل معه ببراءة وطنية، لا سيما وان المطالبة جاءت بعد توحد المعارضة في اطار جبهة رفض عشارية. وبعد رفض حركة حماس وجبهة الانقاذ القديمة المشاركة في الحوارات الوطنية التي دعيت لها سابقا، كما لا يمكن تبرئة مثل هذا الطلب الان من تهمة السعي الى تهميش والغاء دور المؤسسات التشريعية، وبالحد الادنى محاولة تجميدها وشل دورها كهيئات مهمتها صياغة التوجهات واتخاذ القرارات. أما خلفيات ودوافع هذا الطلب فهي واضحة في كون اصحابه يمثلون اقلية بسيطة في اطار المؤسسات. فالكل لمس ضعف وعزله المعارضة وقلة عددها عندما انسحب احد اطرافها (الاساسيين) من الجلسة الاخيرة للمجلس المركزي. لا شك أن تشديد بعض ممثلي المعارضة على التمسك بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني يستحق الاحترام والتقدير. لكن هذا التشديد يفقد قيمته ومعناه في حال استمرار البعض في الحديث عن “النصاب السياسي والعدد الميكانيكي”، وأيضا في حال الاستمرار في الطعن والتشكيك في المواقف المبنية على نتيجة التصويت داخل المؤسسات التشريعية الفلسطينية كالطعن بالوفد وبقرار المشاركة في المفاوضات. ان التمسك الحقيقي بالمنظمة وبصفتها التمثيلية يفرض تعزيز دور مؤسساتها التشريعية وتقوية دورها وتطويرها لتصبح فعلا اطرا وميادين حيوية للحوار بين كافة القوى والاتجاهات الفكرية والسياسية داخل الحركة الفلسطينية. ويفرض ايضا احترام تقاليدها واسس عملها بما في ذلك آلية التصويت على القرارات باحتساب اصوات الاعضاء الحاضرين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والتنظيمية والفكرية. والمطالبة باعتماد عدد الفصائل بدعة جديدة تفقد المؤسسات التشريعية مبرر وجودها فهل هذا هدف من اهداف بعض اطراف المعارضة الان؟.
ثالثا – نسف أسس الديمقراطية :
وخطورة هذه البدعة غير الديمقراطية تتجلى ايضا كعملة لها وجهان لا ديمقراطيان. الاول يرفض الاقرار بتعدد الاراء في الساحة الفلسطينية ويرفض من حيث المبدأ وجود اقلية لها رأي آخر معارض واغلبية لها رأي تقود على اساسه. حيث يطالب باجماع وطني مستحيل التحقيق الان، وحيث يربط ويرهن اجتماعات المؤسسات التشريعية بالوصول الى هذا الاجماع. وفي سياق الحديث عن الاجماع الان فاني اعتقد ان الوصول له لا يكون دليل عافية للفكر السياسي الفلسطيني لان القضايا المطروحة على شعبنا تستحق ان يختلف حولها.
اما الوجه الاخر وغير الديمقراطي فيظهر ايضا في الموقف المضمر والمبطن للاقلية، والذي يستهدف شل قرار الاغلبية، وشل حركتها السياسية. ويعكس قلة صبرها وعدم قدرتها على تحمل فكرة البقاء خارج سلطة القرار الفلسطيني، وخارج الاطر القيادية التي تقود العملية السياسية. ودعوتها لاعتماد عدد الفصائل كأساس للموقف والقرار السياسي الفلسطيني تعبير عن رغبتها الجامحة في الاستيلاء على هذا القرار بطريقة انقلابية وغير مشروعة حتى لو أدت الى نسف الديمقراطية من أساسها.
والبحث عن جذور هذه المقولة يبين الاثر والفعل الكبير للعقلية والتفكير الفصائلي السلطوي فيها. والذي لا زال البعض محكوما له وغير قادر على التحرر منه. وأعتقد ان لمبدأ المركزية الديمقراطية دورا رئيسيا في تجذر هذا التفكير البيروقراطي، فهو الذي تحكم في بنية معظم الفصائل الفلسطينية وفي علاقاتها الداخلية وعلاقاتها مع بعضها البعض وفي تعاملها مع الشعب. وهو ذاته الذي يجعل من الامين العام بديلا عن المكتب السياسي للحزب، ويجعل من المكتب السياسي بديلا عن كل الهيئات التشريعية في التنظيم وبديلا عن كل التنظيم، ويخلق الاوهام عند التنظيم وقيادته بانهم يمثلون الشعب كله او طبقة من طبقاته.
ان طرح هذا المفهوم المدمر للديمقراطية، ونقله الى داخل المؤسسات التشريعية الفلسطينية مؤشر غير سليم للمنحى الذي بدأت بعض اطراف المعارضة تدفع باتجاهه. هذا المنحى الذي لا يبحث عن القواسم المشتركة، وانما يبحث عن مبررات وذرائع واهية ولا منطقية للتغطية على توجهاتها الانقسامية. ولا أظن ان رفض المؤسسات التشريعية الفلسطينية الاخذ بهذا المفهوم الغريب عن التقاليد الفلسطينية كاف لدفع اصحابه الى التراجع عنه وطوي الموضوع، أو كان لدفعهم للتراجع عن اعتماده كأساس في اشتقاق “خططهم وتوجهات عملهم المشتركة”.
وانطلاقا من هذه الرؤيا لهذا المفهوم ولسلوك اصحابه في المرحلة اللاحقة فان مهام كبيرة تقع على عاتق كل الديمقراطيين الحقيقيين الفلسطينيين، سواء أكانوا داخل المعارضة او في الموقع الاخر.
وأول هذه المهام وأكثرها ملحاحية هو الدفاع عن الديمقراطية كمبدأ. وعن اسلوب الانتخابات في اختيار ممثلي الشعب، وعن التصويت على القرارات كطريقة لحسم التوجه واتخاذ القرارات. وانجاز هذه المهمة يفرض بالضرورة ارساء العلاقة بين الاقلية والاغلبية على أسس ديمقراطية واضحة، تعطي للمعارضة كل حقوقها مقرونة بالواجبات، ومن ضمنها الحق في الاطلاع على مجريات المفاوضات (وهذا يتم) مع الالتزام بأسرار المفاوضات (وهذا ما لا يتم) وكل ما يمكنها من الرقابة على المسيرة ومدى تطابقها مع قرارات المؤسسات التشريعية. ومن اشعال الضوء الاحمر عند الاقتراب من المنزلقات والمنعطفات الخطرة. وتعطي للاغلبية ايضا حقها في تقرير التوجهات ورسم التكتيكات اليومية الموصلة للاهداف التي تحددها. وتوحد طاقات الجميع معارضة وقيادة في مواجهة الاعداء، والنهوض بالمهام المشتركة التي يمكن اشتقاقها في مواجهة العدو الرئيسي اي الاحتلال ويمنع انزلاق الحوار عن مساره الديمقراطي، وتبقى تصارع الافكار والاراء تدور في دائرة الاهداف الاستراتيجية للشعب الفلسطيني. فوجود المعارضة ضروري وسماع صوتها ضرورة وطنية حتى لو تضمنت احيانا بدعا غير ديمقراطية.