المصلحة الوطنية العليا والاعتبارات الاخرى

بقلم ممدوح نوفل في 02/10/1992

رغم الانفعال الشديد والتوتر الحاد الذي طغى على صاحب المقال، والذي جعل رده عصبيا وفيه خروج عن المألوف في الخطاب السياسي والصحفي، فلا يسعني الا أن احترام رأيه، ضمن قناعتي الثابتة ان أوليات الحرص على تطوير وتعزيز الديمقراطية في ساحتنا الفلسطينية هي احترام الرأي الآخر، والتعامل معه بكل جدية بغض النظر عن الدوافع والاسباب الذاتية او الموضوعية التي تقف خلفه. وضمن فهمي لأصول التعاطي مع الرأي الآخر، سأركز على الافكار التي طرحها الرفيق المناضل الدكتور ولن أتطرق الى الاستشهاد بسيرته النضالية ومواقفه السابقة (كما فعل مشكورا) من بعض المسائل الضنالية والفكرية والسياسية لسبب وحيد هو قناعتي بخطأ الانزلاق الى هذا الموقع والاسلوب والذي قد يؤدي الى تضييع الجوهر والفكرة كما فعلت مقالة “فهلوة الانحطاط”، ولسبب آخر يتعلق بمضار شخصنة التجارب الحزبية. فتجارب الافراد الملتزمين ليست ملكا لهم، بل ملك جماعي للتنظيم الذي ينتمون له بغض النظر عن مواقعهم فيه. لقد حاولت فرز الافكار عن الردح في المقال وأخذ الافكار التي تستحق النقاش، ونبذ الردح والفهلوة ووضعها جانبا. وبعد القراءة المدققة وجدت ان ضبابية شديدة تحيط بالافكار التي أراد صاحب المقال طرحها على القاريء. ورغم ذلك اعتقد ان ملامسة الكاتب بصورة مشوهة وناقصة لعدد من المسائل الاساسية، تفرض التوضيح:

أولا – مفهوم الديمقراطية الفلسطينية:

عند نقاش مسألة الديمقراطية في الساحة الفلسطينية، يبرز عند البعض تشوه وتشوش في مفهوم الديمقراطية، وقصور في الثقافة حولها، وقصر نظر في التعاطي مع ابعادها. أما البعض الاخر فانه يتعمد الحول في النظر لها وفي محاكمتها ومحاكمة المنادين بها او المدافعين عنها. وهذه الظواهر (التشوه، والقصور، وقصر النظر او الحول) تتمثل في فهم الديمقرطية كمبدأ. فكثيرا ما يجري تحزيب وشخصنة الفكرة بحيث ينظر للديمقراطية وكأنها شركة لها صاحبها فرد ما او تنظيم ما، وفيها عمال وموظفين يحبون صاحب الشركة او يكرهونه وفقا لسلوكه مع هذا الموظف او ذاك. ويعتمدون مصالحهم الخاصة الشخصية او التنظيمية بمثابة المقياس الذي يقيسون ديمقراطية “صاحب الشركة” من عدمها. وأظن، “فبعض الظن ليس اثم”، ان أساس هذا المفهوم الخاطيء للديمقراطية يكمن في المفاهيم الخاطئة التي تزرعها بعض انماط الثقافة الحزبية المتزمتة، وايضا نتيجة الفقر في ممارستها في الحزب او المجتمع المحيط.

ان حصر الديمقراطية الفلسطينية ببعض المطالب او المكاسب الفئوية يقود الى احد أمرين: اما التورط في مواقف نرفضها كمبدأ، او تشويهها وابتذالها وتحويلها الى سلعة تباع وتشرى او توهب وتمنح او تحجب وفقا لمزاج رب العمل “صاحب الديمقراطية”.

ان عدم رؤية الديمقراطية الفلسطينية بمنظار شمولي يحولها الى قضية لا تستحق النضال من أجلها. ان الديمقراطية الفلسطينية التي نعتز بها، ويجب النضال من اجل تطويرها وتعزيزها وتخليصها من كل السلبيات في التطبيق داخل الحزب او داخل المنظمة هي حق الرأي الآخر بأن يكون موجودا وأن يعبر عن نفسه بالوسائل الديمقراطية مستفيدا من امكانات الحزب او المنظمة أسوة بالآراء الأخرى وبغض النظر عن الحجوم (أقلية أو أغلبية) اي سيادة مبدأ التعددية الفكرية والسياسية في اطار الالتزام بوحدة الحزب والالتزام بقوانين التعددية التنظيمية في اطار العمل الجبهوي الواسع او الضيق. وهي ايضا ممارسة الانتخابات بكل حرية وبصورة منتظمة بعيدا عن الايحاءات او التأثيرات غير الديمقراطية. وهي كذلك الاحتكام للمؤسسات التشريعية في حل الخلافات الفكرية او السياسية او التنظيمية وعلى قاعدة التصويت حول الرأي والرأي الاخر واحترام نتيجة التصويت، واعطاء الاقلية حقها في التعبير عن نفسها عبر منابر الحزب وتمكينها من الوصول الى كل التنظيم.

ثانيا – مفهوم الشرعية:

من المقالة المنشورة في “الهدف” بالعنوان “فهلوة الانحطاط” ومن متابعة ما يصدر من مواقف وما ينتهج في السلوك، يلاحظ وقوع الكثيرين في الخلط بين الامور وعدم التمييز بين الشرعية الفلسطينية كمؤسسة وكاطار وبين ثقل هذا التنظيم او ذاك في المؤسسة او الاطار. وكذلك الوقوع في الخطأ والخطيئة عند محاكمة الشرعية الفلسطينية من منطلقات عصبوية متزمتة ومستعجلة لا تتقبل فكرة وجود “أقلية وأكثرية” وحق الاكثرية في توجيه مسار المنظمة وفقا لبرنامجها وخطها. عزيزنا الدكتور … يعيب علينا الدفاع عن الشرعية الفلسطينية لانه يفهمها على انها شرعية فرد او شرعية تنظيم بأحسن الاحوال لا شرعية مؤسسة او كيان سياسي. وفي هذا السياق لا بد من التأكيد على ان الفهم الصحيح للشرعية الفلسطينية هو ان يعتبر من ينتمي الى م.ت.ف نفسه بأنه الشرعية الفلسطينية وانه يمثلها وواجبه الدفاع عنها سواء أكان المنتمي فردا او نقابة او مؤسسة او تنظيم؛ الدفاع عن المؤسسة كمؤسسة بما تمثل وبغض النظر اذا كان برنامجها وخطها يتطابق مع الرأي الخاص او يتعارض معه. ان محاكمة الموقف من الشرعية الفلطسينية (م.ت.ف) من زوايا عصبوية ضيقة فكرية او تنظيمية او سياسية هو الذي يدفع بهذا الطرف أو ذاك اما الى الاحجام في الانخراط في مؤسساتها وتخيل الذات كبديل لها، او السعي لتشكيل تكتلات موازية لها وفي مواجهتها. وعدم استيعاب وجود أقلية وأكثرية ضمن المنظمة في اطارالتعددية الحزبية والسياسية القائمة وعدم استيعاب أسس العلاقة الديمقراطية بين الاقلية والاغلبية هو الذي يدفع بالبعض أحيانا للمناداة “بالاجماع الوطني” اي قتل كل رأي مخالف وخنقه في مهده وهو ايضا السبب الكامن وراء بعض الاندفاعات المتهورة في التعبير عن الذات، والذي يأخذ أحيانا شكل الارهاب الفكري او اللجوء الى الردح واستحضار النعوت المثيرة في مواجهة الرأي الاخر حتى ولو كان هذا الرأي رأي الاغلبية. وهو السبب الكامن وراء الانحرافات الفكرية والميدانية التي نشهدها في سلوك هذا الطرف او ذاك مع معارضيه سواء داخل التنظيم الواحد او في علاقة هذا الفصيل بذاك الفصيل والتي كثيرا ما بلغت حدود تجاهل المصلحة الوطنية العليا والانزلاق في الحوار نحو اشكال من العنف الجسدي على المستوى الفردي او اللجوء الى السلاح في حل الخلافات على المستوى الوطني العام.

وفي سياق الدفاع عن الشرعية الفلسطينية كما نفهمها، لا بد من الاشارة الى مضار حجب المعلومات المتعلقة بقرارات الشرعية عن الكادر الحزبي او الجمهور، والى خطورة الانتقائية او طرح الامور بصورة مشوهة على طريق من يتعامل مع الاية الكريمة “ولا تقربوا الصلاة” ويبلع بقيتها سعيا وراء “المعصية”.

لقد حاول صاحب المقال المذكور ان يمارس “فهلوة الانحطاط” الفكري والسياسي، ولكنه لم يوفق كما اعتقد لا في الاختيار الانتقائي ولا في طريقة التعاطي مع الموضوع. ان تثبيت ثلثي قرار المجلس الوطني الفلسطيني في دورته العشرين وأكل ثلثه الاخير “تذاكي غير موفق” اطلاقا، فقرار المجلس يقول أيضا الى جانب الاسس والمباديء: “ان المجلس الوطني يكلف ل.ت بالاستمرار في الجهود الجارية لتوفير افضل الشروط التي تكفل نجاح عملية السلام وفق قرارات المجلس الوطني على ان ترفع النتائج الى المجلس المركزي لاتخاذ القرار النهائي في ضوء المصلحة الوطنية العليا لشعبنا” (من كتاب الدورة العشرون للمجلس الوطني ص 72).لا أدري اذا كان كتاب القوى المعارضة لعملية السلام يعرفون بوجود هذه الفقرة ام لا، فاذا كانوا لا يعرفون فتلك مصيبة اما اذا كانوا يعرفون فالمصيبة أكبر. ويحق لنا القول ان الامانة الصحفية تفرض قول الحقيقة. كما لا أدري اذا كانت قواعد وكوادر المعارضة تعرف ان المجلس المركزي الفلسطيني الذي خوله المجلس الوطني “باتخاذ القرار النهائي وفقا للمصلحة الوطنية العليا” قد اجتمع ودرس التقرير الذي قدمته اللجنة التنفيذية عن نشاطاتها واتصالاتها وقرر باغلبية 54 صوت ضد 16 المشاركة في عملية السلام والنضال من داخلها. وان التصويت قد تم بطريقة رفع الايدي وشارك فيه الرفاق ممثلي الجبهة الشعبية في المجلس وكل من يعارض مؤتمر السلام الان.

بعد هذا التوضيح لقرارات الشرعية الفلسطينية وبعد سردها بدون زيادة او نقصان، من حقنا وحق القاريء ان نسأل ويسأل أين المصلحة الوطنية للشعب الفلسطيني، وما هو موقعها في هذا المقال او ذاك. وعند هذا القدر من التوضيح نتوقف، قافزين عن كثير من المسائل الفرعية ومنها مسألة “علم الغيب” والتنجيم والضرب على الرمل. ان بيان العشرة “فصائل” الذي صدر بعد البيان الثلاثي (حماس، الشعبية، تنظيم حواتمة) يدفعنا للسؤال هل كان الامر علم غيب أم معلومات تقضي الأصول الحزبية وتفاوت المستويات عدم اطلاع البعض عليها!!. وعلى كل حال فاننا نتمى أن تكون ظنوننا “آثمة” تجاه ما نشر من معلومات وما كتب في الرسائل والتعاميم الداخلية ينطبق عليها “كذب المنجمون ولو صدقوا”. فنحن لا نتمى لأي طرف او فرد فلسطيني الا الخير. وندعو الله دائما بأن يجنبه الانزلاق في المنزلقات الخطرة وخاصة تلك التي تؤذيه وتؤذي القضية في حال الانزلاق فيها والسقوط في المطبات التي جهزتها بعض الاطراف الاقليمية خدمة لتكتيكاتها الخاصة.

أما بشأن انجازات الوفد الفلسطيني، فيكفيه فخرا أنه نجح في الحفاظ على وحدة شعبه، وأبدع في الدفاع عن حقوقه داخل وخارج الارض المحتلة، وأحبط مناورات اعدائه وقطع الطريق والى الابد أمم البدائل والتدخلات العربية، وأنهى عهد تحكمها بالمصير الفلسطيني.

موضوع الاستفتاء فلا شك أنه يستحق النقاش المعمق في مقالة أخرى. وسلفا نقول نعم للاستفتاء وللانتخابات، لكن الحديث من موقع المسؤول والراغب حقا في الوصول له شيء، والحديث عن الموضوع لمجرد البحث عن شعار يعبيء حوله الحزب، شيء آخر. فالمسؤول والراغب حقا في الوصول الى الاستفتاء من واجبه أن يدقق. وصاحب الشعار من أجل الشعار هو الذي يقول هذا مطلبنا “فاذهب انت وربك فقاتلا اننا هاهنا قاعدون ولمنتظرون”. ومن حقنا ان نكرر الاسئلة التالية كي نحول الموضوع من شعار مجرد الى خطة عمل قابلة للتطبيق. هل نقبل باجراء الاستفتاء في ظل حراب جيش الاحتلال واشراف جنوده على صناديق الاقتراع من جنين الى خان يونس وعبسان؟. هل نستثني ما يزيد عن اثنين مليون فلسطيني اذا رفضت سوريا والاردن ولبنان وتشيلي مثلا؟ وهل الحديث عن حصر الاستفتاء بأبناء شعبنا في الداخل (الان) يعتبر تقسيم لشعبنا ووضع العصي في الدواليب؟. وهل المطالبة برفع شعار الحماية الدولية لشعبنا وانسحاب جيش الاحتلال قبل الاستفتاء او الانتخابات طروحات تعجيزية؟ أم أنها اسئلة تبحث بجدية ومسؤولية عن الشكل الديمقراطي الارقى الذي يمكن الوصول له وممارسته (لا المناداة به لمجرد المناداة والمماحكة) في الظروف الاستثنائية والمعقدة جدا التي يعيشها شعبنا داخل وخارج ارضنا المحتلة. أسئلة تبقى مطروحة بانتظار الجواب ممن يطرحون الموضوع عن قناعة راسخة وايمان عميق بالديمقراطية وخاصة من يضعون مصالح الشعب فوق كل الاعتبارات الاخرى. وحبذا لو أنهم يستطيعون ابلاغ رئاسة المجلس الوطني الفلسطيني بعدد الدول العربية الموافقة على استفتاء الفلسطينيين فوق أرضها.

بعد هذا التوضيح نعتقد ان الفكر السياسي الفلطسيني يزدهر ويتقدم بمقدار ما يطلق العنان للحوار الجدي الرزين والمسؤول، المنطلق من وضع المصلحة الوطنية العليا فوق الاعتبارات الحزبية او الذاتية الضيقة. وهو ذاته يتعرض “لفهلوة الانحطاط” في حال اخضاعه للابتزاز او الارهاب او التقوقع والتحجر. وهذا ما لا نتمناه، وذاك ما يجب أن نسعى له ونرعاه.