تقييم الجولة السادسة وآفاقها

بقلم ممدوح نوفل في 20/09/1992

واشنطن – مراسل “راية الاستقلال”
بعد فوز حزب العمل في الانتخابات الاسرائيلية تركزت الانظار حول الجولة السادسة من المفاوضات باعتبارها أول جولة في عهد رابين وحزب العمل. وخلال الفترة الفاصلة بين تشكيل الحكومة الاسرائيلية وافتتاح أعمال الجولة السادسة، سادت الأوساط السياسية المتابعة والمشاركة في مفاوضات السلام أجواء متفائلة حول مسار الجولة وحول آفاقها ونتائجها وذلك استنادا لمواقف حزب العمل كما وردت في قرارات مؤتمره الاخير، وللتصريحات ذات الاجواء الايجابية التي صدرت عن قيادة حزبي العمل وميرتس قبل الانتخابات. وبعدها جاءت زيارة رابين لمصر، والولايات المتحدة، والاعلان عن بعض الخطوات “الرمزية” الصغيرة المتعلقة بحقوق الانسان الفلسطيني لتعزز من هذه الاجواء، ولتشد الانظار باتجاه الجولة السادسة.
والآن وبعد انتهاء الجولة السادسة يتردد السؤال التالي: هل أغلقت الجولة على لا شيء؟ ونتيجتها لا تختلف عن سابقاتها؟.
لعل قراءة الاوراق التي تبادلتها الوفود ودراسة المناقشات التي دارت داخل الغرف والتصريحات العلنية تساعد في الاجابة على التساؤلات والتعرف الأولي. وفي هذا السياق يمكن رسم صورة للجولة السادسة على النحو التالي:
أولا – محور المفاوضات السورية الاسرائيلي:
بالرغم من التصريحات التي صدرت عن الوفدين وخاصة تصريح رئيس الوفد السوري، والذي اعلن فيه عن وصول المفاوضات السورية الاسرائيلية الى طريق شبه مسدود، وطالب الراعي الامريكي بالتدخل لانقاذها، الا أن ذلك لا ينفي أن تقدما نسبيا حصل في شكل ومضمون هذه المفاوضات. فاستبدال رئيس الوفد الاسرائيلي كان بمثابة أول اشارة بامكانية حدوث تغير في اسلوب وتكتيك التفاوض الاسرائيلي مع السوريين. أما التقدم النسبي فهو ما ظهر في المواقف الجديدة التي تضمنتها الاوراق الرسمية التي تبادلها الطرفين. فالمعلومات المتوفرة تفيد أن الورقة الاسرائيلية نصت على (تقبل اسرائيل قرار مجلس الامن 242 بجميع اجزائه كأساس لعلمية السلام الراهنة، وتعتبره ينطبق على مفاوضات السلام مع سوريا. وفي نفس الوقت لا نعتبر الغرض من المفاوضات هو مجرد التركيز على صيغ تطبيق قرار مجلس الامن 242. ان موقفنا هو ان المفاوضات يجب ان تعكس الارادة السياسية لكلا الطرفين لعقد سلام بين دولتينا ولتحويل هذه النية السياسية الى معاهدة سلام مع الاستعداد لمناقشة كافة المواضيع والتصميم على تسوية كافة الخلافات في الرأي).
وفي موقع آخر نصت على (.. أن قرار 242 يتضمن صياغة حول الاستيلاء على الارض بواسطة الحرب). وأضافت الورقة الاسرائيلية (من جهتنا نعتبر الوضع القائم في الجولان منسجما مع أعراف الشرعية الدولية الى حين التوصل الى اتفاقية..). أما بشأن موضوع الانسحاب فقد نصت الورقة الاسرائيلية على أن (مسألة الانسحاب من “أراضي” والتي تشكل جزء من القرار سنتعاطى معها كبند على جدول الاعمال عندما نناقش مسألة الحدود والأمن والمعترف بها بين سوريا واسرائيل كما ينص عليها القرار ذاته).
وحول مفهوم اسرائيل للحل تقول الورقة (من أجل ضمان أن السلام الذي سنتوصل اليه فيما بيننا سيكون قابلا للديمومة وسيدوم نؤكد أنه يجب ان يجسد في معاهدة تفصيلية قائمة بذاتها كخطوة كبرى في توجهنا المشترك نحو حالة من السلام الشامل في المنطقة).
وبتمعن النص يتبين طبيعة التغيير الذي طرأ على الموقف الاسرائيلي في هذه الجولة على هذا المحور من المفاوضات. فالمعروف ان سلوك ومواقف المفاوض الاسرائيلي في عهد شامير لم تتعدى حدود استفزاز الجانب السوري، فلم تكن الجولات الخمس السابقة سوى حوار الطرشان. أما الجولة السادسة فقد حملت مواقف اسرائيلية قابلة للبحث والنقاش وعروضا جدية تقوم على اساس بناء معاهدة سلام سورية-اسرائيلية وفق مبدأ “الارض مقابل السلام” المتضمن في القرار 242 واقامة ترتيبات امنية دائمة تحمي الحدود وتصون الاتفاقات.
والتغيير النسبي في هذه الجولة على هذا الصعيد لم يقتصر على الموقف الاسرائيلي وانما شمل ايضا الموقف السوري. فالرد الرسمي السوري تجاوز موقف المباديء العامة التي طرحها الوفد الاسرائيلي، ودخل في صلب المواضيع وفصلها في مشروع تفصيلي متكامل وبآليات زمنية. واقترح ان تصدر في صيغة اعلان مباديء مشترك اسرائيلي سوري. ومشروع اعلان المباديء هذا يتحدث عن هدف المفاوضات ويحدده باقامة سلام عادل وشامل في المنطقة على أساس القرار 242. كما يتحدث عن شمولية الحل وعن الامن المتبادل، ويقترح آلية تنفيذ محددة ومتكاملة (يبدأ الطرفان محادثاتهما لبحث آلية وخطوات تنفيذ 242 ضمن برنامج زمني محدد يراعي التزامات الطرفين..):
أ) “الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الجولان السوري المحتل عام 67، واخلاء وتفكيك كافة المستوطنات التي أقيمت في الاراضي السورية المحتلة منذ ذلك التاريخ”.
ب) “اعلان انهاء حالة الحرب او الادعاء بوجود مثل هذه الحالة”.
ج) اقرار الجانبين واحترامهما للسيادة والاستقلال السياسي والسلامة الاقليمية لكل منهما، ولحقهما المتكافيء هما وسائر تلك الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها وفقا للمباديء الشرعية الدولية”.وتقترح الورقة السورية انشاء مجموعات عمل تنفيذية وتدعو الى تشكيل لجان عسكرية ولجان فنية أخرى، والى تسجيل الاتفاق لدى الامم المتحدة كوثيقة رسمية.
ثانيا – محور المفاوضات اللبنانية-الاسرائيلية:
ليس سرا القول أن الجانب الاسرائيلي في عهد شامير كان يتعامل مع الوفد اللبناني باعتباره ملحقا بالوفد السوري وأن من المستحيل تحقيق اي تقدم في المفاوضات مع لبنان ما لم يقع تقدم نوعي في المفاوضات السورية-الاسرائيلية. ورغم تبديل اسرائيل لرئيس طاقمها في المفاوضات مع سوريا، ورغم التطور في موقفها في المفاوضات مع سوريا الا ان هذا التطور لم يشمل النظرة الاسرائيلية للعلاقة مع الوفد اللبناني. فوثائق المفاوضات ومناقشاتها تؤكد استمرار اعتماد الوفد الاسرائيلي في عهد رابين على ذات التقييم للموقف والوضع التفاوضي اللبناني، حيث واصل الوفد الاسرائيلي التعامل مع الوفد اللبناني على ذات القاعدة السابقة. ومن ذات القاعدة، وبعد حصول التغير المذكور على محور المفاوضات الاسرائيلية-السورية كان من الطبيعي ان يقدم الجانب الاسرائيلي على (زحزحة) اولية للمفاوضات مع لبنان. صحيح ان الاوراق الاسرائيلية التي قدمت الى لبنان في هذه الجولة لم تحمل الكثير من التغيير، الا ان من الخطأ عدم اعتبار أنها لم تحمل أي جديد قياسا للجولات التي سبقتها. فاقتراح المفاوض الاسرائيلي في ورقة 14 /9 /92 تشكيل لجنة عسكرية مشتركة اسرائيلية-لبنانية تبحث في قضايا الامن، وموافقة اسرائيل في هذه الجولة على ان القرار 425 يشكل (عنصرا) من عناصر السلام يشيران الى دخول عناصر جديدة على هذا المحور. وهي عناصر لا ترقى الى المستوى الذي وقع على محور المفاوضات السورية الاسرائيلية. وعلى كل الاحوال سيبقى هذا المحور مرتبطا بمجرى المفاوضات على المحور السوري-الاسرائيلي.
ثالثا – محور المفاوضات الاردنية-الاسرائيلية:
تفيد المعلومات المتوفرة عن المفاوضات على هذا المحور بأن تطورا اجرائيا وتحسنا في “الاجواء” قد دخل على هذا المحور لا يشكل على أي حال تقدم ملموس. ولعل السبب في اقتصاره على جوانب اجرائية وشكلية يعود في جزء منه الى الترابط والتشابك التنظيمي والموضوعي للمفاوضات الاردنية-الاسرائيلية مع المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية من جهة والى طبيعة القضايا المطروحة في المفاوضات بين الطرفين. وهي اذا استثنينا احتلال اسرائيل لبعض مساحات من الاراضي الاردنية في مناطق الاغوار الجنوبية والشمالية فبقية المسائل تنتمي الى قضايا الحل النهائي والى المسار الثاني من المفاوضات اي المتعدد الاطراف. ولذا فان اتفاق الطرفان على تشكيل فرق عمل فنية تبحث في قضايا الامن والمياه والبيئة والطاقة هو اتفاق اجرائي لا ينبغي قراءة أبعاد سياسية له. وهو اجراء يحمل آفاق في حال وقوع تقدم جدي في المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية، كما أنه مرشح للمراوحة اذا بقيت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية تراوح في مكانها.
رابعا – محور المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية:
بقيت المفاوضات على هذا المحور تعاني من التعثر بسبب تعنت الموقف الاسرائيلي. فالمشاريع والاوراق التي تقدم بها الطرف الاسرائيلي تختلف فقط في اللغة وفي بعض النصوص الشكلية عن تلك التي تقدم بها ذات الطرف في عهد شامير وخلال الجولات الخمس السابقة. ان تضمن الاوراق الاسرائيلية نصا يقول (بأن المرحلة الثانية تقوم على اساس القرار 242) ونصوصا تقول (بأن أعضاء المجلس الاداري ليسوا موظفين عند الحكم العسكري الاسرائيلي، وانهم سيكونون مسؤولين امام ناخبيهم، ويمارسون صلاحياتهم في نطاق ما يتفق عليه) يمكن اعتباره “زحزحة” شكلية في الموقف الاسرائيلي في مجال فهم بناء السلطة الانتقالية وصلاحياتها.
وبالتدقيق في آخر الاوراق التي تقدم بها الوفد الفلسطيني (الاجندة، مشروع الاطار) يتبين انه أدخل تغييرا في اللغة والصياغة وابتعد عن الخطابية كما سعى الى تحويل المباديء والاهداف الى صياغات وتعبيرات تفاوضية ملموسة بدلا من ابقائها صياغات عامة. فالجانب الفلسطيني اعاد صياغة مشروع الاجندة والاطار قافزا عن العناوين الفرعية وبعض التفاصيل، كل ذلك بهدف الوصول الى اجندة مشتركة تمهيدا للدخول في مناقشة اعلان مباديء. لكن تكتيك المماطلة والمراوغة الذي سار عليه الوفد الاسرائيلي عطل امكانية الدخول في مفاوضات حول القضايا الجوهرية.
آثار وآفاق الجولة:
بعد هذا العرض الموجز والسريع لأبرز مجريات مفاوضات الجولة السادسة ومواقف الاطراف خلالها، يمكن رصد حصيلة الجولة السادسة وآفاقها المستقبلية في النقاط الاساسية التالية:
1) بدء مفاوضات فعلية على محور واحد من المفاوضات وهو محور المفاوضات السورية الاسرائيلية، وحصر التغيير على المحورين الاردني واللبناني في قضايا اجرائية بحتة ومراوحة المفاوضات على المحور الاسرائيلي الفلسطيني. والتقدم الحاصل على المحور السوري لا يغطي قصوره وتعطله على المحور الفلسطيني او محدوديته وشكله في المحاور الاخرى.
2) بالتدقيق في تكتيك المفاوض الاسرائيلي في هذه الجولة تظهر بوضوح محاولات المفاوض الاسرائيلي احداث شرخ في الموقف التفاوضي العربي. ومحاولة استخدام تقدم المفاوضات على المحور السوري للضغط على المحاور الأخرى، ولابتزاز الموقف التفاوضي للمفاوض الفلسطيني. على أمل ارغامه على القبول بمشاريعه التي طرحها على طاولة المفاوضات. كما ويظهر أيضا ان رابين يسعى للوصول الى اتفاقيات جزئية ومرحلية على الجبهات السورية واللبنانية وليس في وارد تسريع المفاوضات على الجبهة الفلسطينية وهذا يتعاكس مع كل ادعاءاته السابقة، ويظهر زيف وخداع أحاديثه وتصريحاته عن الجداول الزمنية حول الانتخابات الفلسطينية وحول نقل السلطة للفلسطينيين، وحول الحلول الشاملة مع الاطراف العربية الأخرى.
وبالتدقيق في الأوراق التي تقدم الوفد الاسرائيلي على المحور الفلسطيني يتبين أنها أقرب الى برنامج الليكود منها الى برنامج حزب العمل. وتذرع بعض أوساط حزب العمل بالاوضاع الداخلية في اسرائيل لا يفسر تراجع حزب العمل عن برنامجه وتباطؤ الحركة في المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية.
3) أكدت مفاوضات الجولة على أن معركة المفاوضات ستكون طويلة وشاقة، وأن ما تحقق هنا أو هناك لا يشكل الا بدايات استطلاعية لبدء المعركة. واذا كان من المبكر الان الحديث عن كل النتائج الاجمالية للجولة السادسة فالواضح أنها كانت أول جولة شهدت مفاوضات حقيقية على بعض الجبهات تشير بالاساس الى طبيعة التكتيك الاسرائيلي الساعي الى تفتيت الموقف العربي واستخدام تحسن علاقات اسرائيل مع الولايات المتحدة للضغط على الاطراف العربية مجتمعة وكل على حدة.