القسم الثالث :تقييم النتائج الاجمالية للمفاوضات

بقلم ممدوح نوفل في 25/09/1992

القسم الثالث

بعد هذا العرض لمجريات المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية في مراحلها الثلاث، وبعد اظهار خصائص وميزات العملية التفاوضية ككل، لا بد من اجراء جردة شاملة للنتائج الاجمالية لجولات المفاوضات حتى الان. وتظهير انعكاساتها الملموسة المباشرة او اللاحقة على دول وشعوب المنطقة. قد يكون من السابق لاوانه اعطاء مواقف جازمة بشأن النتائج النهائية لعملية السلام وانعكاساتها وآثارها على المدى البعيد على أوضاع القوى المشاركة وعلى المنطقة ككل. لكن ذلك لا يعني بالضرورة تأجيل عملية رصد وتقييم نتائج العملية حتى نهاية المبارزات، فالشرط الأول (سنة) انتهى بتثبيت عدد من النقاط لصالح هذا الفريق أو ذاك. صحيح ان ما يرصد الان من نتائج وآثار يندرج تحت خانة انجازات اولية او انجازات قيد التثبيت النهائي، ولكن الصحيح ايضا ان بعضها الاخر تحول الىواقع معاش، وبعضها الى فعل وحركة مادية دخلت في حياة دول وشعوب المنطقة. من هذا المنطلق يمكن تقسيم النتائج والاثار الى نوعين: – أولا : نتائج وآثار عامة شملت الجميع. ثانيا : نتائج وانعكاسات العملية عند كل طرف من اطراف الصراع وخاصة الامريكي والاسرائيلي والفلسطيني.
أولا – نتائج عامة شملت معظم الاطراف:
1) تجمع مختلف القوى والاتجاهات السياسية العربية والفلسطينية، أن انطلاق وتواصل مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية قد وضع منطقة الشرق الاوسط على أبواب مرحلة جديدة تختلف نوعيا عن كل المراحل التي مرت بها. وفي هذا الاطار يمكن اعتبار مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الاوسط نقطة تحول فاصلة بين حقبة قديمة عاشتها المنطقة وأخرى جديدة لا زالت في طور التشكل والتكوين. ومسار حركة التاريخ يؤكد أن انتقال الشعوب من حقبة تاريخية الى أخرى نوعية جديدة يستوجب المرور في مرحلة أو مراحل انتقالية يتخللها جذب وصراع قد يطول وقد يقصر بين الماضي القديم فكرا وأدوات وبين الجديد القادم بفكرة والقادر على خلق ادواته وكل المستلزمات الضرورية لفرض الذات. وبغض النظر عن النتائج التي حققتها المفاوضات حتى الان، او تلك التي يمكن أن تحقق لاحقا، فالمؤكد أنها أغلقت ولاشعار آخر (سنوات) ملفات الحروب، وطوت ملفات حالة اللاحرب واللاسم التي بنيت عليهما الاستراتيجيات المتصارعة في المنطقة. وأن تواصل العملية حتى الان واحتمال تواصلها لفترة لاحقة، أرغم كل الاطراف او سيرغمها على تغيير استراتيجياتها الامنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، وعلى فتح ملفات جديدة لعلاقات جديدة حدها الادنى تجميد التفكير في حل الخلافات بالوسائل العسكرية، وقبول العيش ضمن حدود آمنة معترف بها. أما حدها الاقصى فقد يصل الى تطبيع العلاقات وسيادة نظم ومفاهيم وأشكال جديدة من التفاهم والتعاون والتعايش المشترك.
لا شك ان انهيار المعسكر الاشتراكي ونتائج حرب الخليج كان لها دورها في دفع المنطقة نحو هذه المرحلة الجديدة لكن انطلاق مفاوضات السلام وتواصلها كانت بمثابة الناقلة التي تحركت حاملة الجميع نحو الاتجاه الجديد ولولاها لبرزت احتمال الاندفاع باتجاهات مختلفة ومنها احتمال السكون والجمود لسنوات مديدة.
2) اسهمت عملية السلام بفعالية في تنمية اتجاهات الفكر السياسي الواقعي في اسرائيل وعند الجانب الفلسطيني والعربي، وهي في حال تواصلها وتوصلها الى نتائج عملية ملموسة تلبي قسما من طموحات وتطلعات شعوب المنطقة، ستعزز أكثر فأكثر من قوة التيارات والاتجاهات السياسية الواقعية عند كل أطراف الصراع. وبالمقابل لا بد من القول ان النتيجة المؤكدة في حال تعثرها لفترات زمنية طويلة او فشلها في تحقيق كل او اقسام رئيسية من اهدافها ستؤدي الى اضعاف مميت للاتجاهات الواقعية، واحياء أكيد للتطرف والتعصب بكل اشكاله الديني والقومي في المنطقة ككل ومساعدته في السيطرة وتولي دفة قيادتها لسنوات طويلة، وزجها في صراعات دموية طائفية ودينية وعرقية يصعب التكهن بنتائجها منذ الان.
3) مع انطلاق عملية السلام وتولي الاتجاهات الواقعية دفة القيادة، كان من الطبيعي ان تنشأ ردود أفعال وان يكون رد فعل القوى الاصولية الدينية والقومية استنفار طاقاتها الذاتية والعمل على توحيد صفوفها في مواجهة العملية ومواجهة الاتجاهات الواقعية ومحاولة عرقلة توجهاتها السياسية. ولعل ما تشهده الساحة الاسرائيلية والساحة الفلسطينية وبعض الساحات العربية الأخرى من استنفارات شاملة للقوى والاتجاهات المتطرفة والمحافظة والاصولية الدينية منها والقومية ليست سوى شواهد ملموسة على ذلك ومؤشرات واضحة للمنحى الذي يمكن ان تدفع فيه المنطقة في حال تعثر او فشل عملية السلام.
4) من بداية انطلاقتها اصطدمت عملية السلام بوجود خمس شعوب في اربع كيانات متصارعة (فلسطينيون وسوريون واردنيون ولبنانيون واسرائيليون) على الوجود والحدود، فدفعت العملية بالمجتمع الدولي ودول المنطقة الاربع (سوريا، الاردن، لبنان، اسرائيل) نحو الاقرار بأن وجود الكيان الخامس للشعب الفلسطيني ضرورة لا غنى عنها. ومنذ انطلاقتها والصراع يدور ليس حول وجود هذا الكيان بل حول حدوده وحول طبيعته وطبيعة علاقاته مع جيرانه وحول حدود ممارسته للسيادة. وأظن اننا لا نتسرع اذا قلنا ان الاقرار بوجود هذا الكيان وترسيمه في المنطقة يفتح في المجال على المدى المتوسط والبعيد نحو اعادة رسم الخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة. ان تصاعد الحديث عن كونفدرالية ثلاثية اردنية، فلسطينية، اسرائيلية وثنائية اردنية-فلسطينية ليس سوى نتيجة من نتائج العملية السياسية الجارية. وأعتقد أن تواصل المفاواضت وتوصلها الى نتائج ملموسة كفيل بتحويل هذا الحديث النظري الى واقع مادي ملموس بصيغة أو بأخرى.
5) ان انتهاء حالة الحرب، واقفال وضع اللاحرب واللاسلم في المنطقة سيؤدي بشكل مباشر الى تراجع قضايا الصراع القومي والوطني ضد العدو الخارجي ممثلا باسرائيل عند العرب، والعرب عند اسرائيل. وتراجع هذا الصراع سيكون لصالح نمو الصراع الاجتماعي والطبقي داخل الكيانات الخمس ولكن بأشكال ومستويات متفاوتة داخل كل كيان.
ثانيا – نتائج وانعكاسات العملية على الاطراف:
أ) الراعي الامريكي:
لا شك ان تولي الادارة الامريكية مهمة الاشراف على العملية السلمية الجارية، جعلها طرفا رئيسيا في جني جزءا اساسيا من نتائجها، سواء أكانت هذه النتائج سلبية او ايجابية. وفي اطار تقييم النتائج التي حققتها الادارة الامريكية حتى الان من اطلاقها للعملية ومن قيادتها يمكن تثبيت :
* باطلاقها لمبادرة صنع السلام في المنطقة وتنظيمها لدور التجمعات الدولية فيها، عززت الادارة الامريكية دورها وموقعها القيادي المقرر للوضع الدولي، وأعطته صيغته الملموسة والعملية خاصة في علاقاتها مع اوروبا واليابان والصين. ويمكن القول ان تواصل عملية السلام الامريكية الجارية فترة عام كامل، كان بمثابة ترويض وتعويد للقوى الدولية على الانضباط في اطار نظام علاقات دولية تقوده الولايات المتحدة الامريكية بصورة منفردة. وان انضباط القوى الدولية والاقليمية في اطار العملية التفاوضية سنة كاملة والتزامها بالادوار التي رسمتها لها ادارة بوش عزز ولا شك من الهيبة والنفوذ الدولي للادارة الامريكية. وبما ان العملية السياسية الامريكية مرشحة للتواصل والاستمرار خمس سنوات كحد أدنى (مالم تقع تطورات مفاجئة)، فالثابت ان الشرق الاوسط ومفاوضات السلام ستبقى ميدانا رئيسيا تواصل فيه الادارة الامريكية مزيدا من الترويض والتعويد للقوى الدولية على الانضباط والالتزام بما تقرره لها وعند توصلها الى نتائج واتفاقات سيصبح الشرق الاوسط ميدانا دوليا تعرض فيه الولايات المتحدة الامريكية هيبتها وقدرتها. وتعزز فيه ومنه نفوذها. مثله مثل دول امريكا اللاتينية تقريبا.
* لا شك ان انتصار الولايات المتحدة الامريكية في حرب الخليج قد عزز من هيمنتها المباشرة على المنطقة، لكن المؤكد ايضا ان تواصل عملية السلام قد كرس اكثر فأكثر من هذه الهينمة. ويمكن القول ان نجاح المفاوضات وتوصلها الى حلول واتفاقات لقضايا الصراع في المنقطة وخاصة الفلسطيني الاسرائيلي سيزيد ويرسخ هذه الهيمنة ويثبت لها مرتكزاتها القوية. ويؤمن لها مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية لسنوات طويلة قادمة. فنجاح الادارة الامريكية في تسوية قضايا النزاع سوف يعني ارتباط دول المنطقة بالتزامات معينة اتجاه الولايات المتحدة الامريكية، وسوف يعني ايضا القبول بحضور عسكري وأمني على أراضي بعض دولها. ومثل هذا الحضور الميداني كان في الجولة السادسة من المفاوضات موضع تداول ومطلبا مجمعا عليه من معظم اطراف المفاوضات مع تفاوت محدود يتعلق بمواقع التموضع.
* تدرك الادارة الامريكية أن نجاح مبادرتها هو السبيل الى خلق استقرار دائم في المنطقة يؤمن لها ليس فقط مصالحها فيها بل وايضا امكانية توظيف كل ما فيها من طاقات اقتصادية وخاصة بترولها، وميزات استراتيجية (وخاصة موقعها) في خدمة استراتيجيتها الدولية على مدى زمني طويل في صراعها الاقتصادي مع القوى الاقتصادية الصاعدة دوليا (المانيا، واوروبا الموحدة، واليابان).
* وبالتدقيق في الوجه الاخر من النتائج اي السلبيات، فالواضح حتى الان ان مردود عملية السلام كان في محصلته الاجمالية ربحا صافيا للادارة الامريكية. ولم تلحق بها اية خسائر تذكر. وهذه النتيجة تحفزها ولا شك على التواصل والاستمرار في رعاية العملية التفاوضية لتواصل حصد مزيد من المكاسب والارباح. وتدرك الادارة الامريكية ان فشل مبادرتها سيكون له انعكاسات سلبية واسعة على صعيد مصالحها في المنطقة وفي اطار علاقاتها الدولية أيضا.
ب) نتائجها على الجانب الاسرائيلي:
اظهرت الانتخابات الاسرائيلية انقسام المجتمع الاسرائيلية على نفسه حول الموقف من عملية السلام ومن نتائجها المباشرةو اللاحقة. وحسب نتائج التصويت على برامج الاحزاب والمرشحين ظهر ان ما يقارب نصف المجتمع الاسرائيلية يرى ان نتيجتها النهائية الحاق خسائر استراتيجية باسرائيل تفوق الارباح التي قد تجنيها منها. وان ما يفوق النصف بقليل يرى عكس ذلك تماما. واذا كنا لسنا بصدد تقييم اي من الرأيين في اسرائيل ومنطلقات وحسابات كل منهما. فالواضح ان شامير دخل عملية السلام ولم يكن امامه معارضة حقيقية، فالمعارضة ممثلة بالعمل آنذاك، دعمته وأيدت المشاركة انطلاقا من قناعتها بايجابية مردودها. واي تقدم موضوعي للمشاركة الاسرائيلية في عملية السلام يثبت انها جنت وحصدت حتى الان النتائج التالية وفقا للترتيب الزمني:
1) دأبت الولايات المتحدة الامريكية على مدى سنوات طويلة على تشجيع الهجرة اليهودية الى اسرائيل. ومارست قبل اطلاق مبادرتها ضغوطا متنوعة على الاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا لاحقا لتسهيل هجرة اليهود الى اسرائيل. ورغم ان هذا موقفا امريكيا قديما الا ان ما نالته هجرة اليهود الروس من رعاية واهتمام امريكي وتسهيلات روسية خلال المرحلة التمهيدية التي سبقت افتتاح مؤتمر السلام لم يكن مقطوع الصلة عن التحضيرات التي كان يجريها الوزير بيكر في تلك الفترة. فالكل يعرف ان اسرائيل لم توافق على مشاركة الاتحاد السوفياتي (سابقا) في رعاية مؤتمر السلام، الا بعدما أعاد علاقاته الديبلوماسية مع اسرائيل. وبعدما وافق على تسهيل هجرة اليهود بدفعات كبيرة ووافق على نظام الرحلات وعلى فتح خطوط النقل المباشر الذي طلبته اسرائيل. والكل يعرف ايضا ان الادارة الامريكية قدمت مساعدات مالية كبيرة، وساهمت بصورة مباشرة في تهجير اليهود الروس الى اسرائيل، والكل يتذكر القيود على الكوتا التي حددتها الادارة لاستقبال المهاجري السوفييت في اراضيها. ولم تتوقف المساعدة الامريكية في مجال الهجرة عند حدود الضغط على السوفيات بل استجابت من حيث المبدأ لطلب شامير بالحصول على عشرة مليار دولار ضمانات قروض لاستيعاب المهاجرين. ورغم الاشكال الذي وقع بين الطرفين حول هذا الموضوع الا انه مكسب حققته اسرائيل لاحقا كان لمشاركتها في مفاوضات السلام دورا فيه.
2) قبل افتتاح مؤتمر السلام في مدريد اصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارا الغت بموجبه قرارا سابقا لها يدين الحركة الصهيونية ويشبهها بالعنصرية. واذا كان غير واضح لنا حتى الان الاسباب والدوافع الحقيقية التي دفعت الادارة الامريكية لاستصدار قرار الالغاء ذاك، فان توقيته قبل افتتاح مؤتمر مدريد، يدفعنا للقول انه كان بمثابة تقدمة او هدية قدمها بيكر لشامير تشجيعا له على المشاركة في عملية السلام. ومن حقنا الشك ايضا بان ذلك القرار جاء بناء على طلب مباشر من شامير ونتيجة لاستجابة امريكية لهذا الطلب. وبغض النظر عن ذلك كله يمكن اعتبار قرار الالغاء من الثمار التي جنتها اسرائيل بموافقتها على المشاركة في مؤتمر مدريد.
3) أما المكسب الثالث فقد تمثل في اعتراف الهند وبعض الدول الافريقية والباكستان والصين والدول الاشتراكية (سابقا) اضافة للاتحاد السوفياتي وبعض الدول الاخرى باسرائيل وتبادل العلاقات الديبلوماسية معها. ولم يكن سرا على احد ما قامت به الادارة الامريكية على هذا الصعيد. كما لم يكن مخفيا ايضا ان شامير قد جعل من ممارسة الولايات المتحدة لهذا الدور شرطا من شروط مشاركته في عملية السلام. صحيح ان المتغيرات الدولية التي وقعت في تلك الفترة وخاصة انهيار المعسكر الاشتراكي قد ساهم في دفع بعض الدول الى اعادة النظر في علاقاتها بدول الشرق الاوسط، ولكن الصحيح ايضا ان رغبة الادارة الامريكية في انجاح مبادرتها، وفي ضمان مشاركة اسرائيل فيها دفعها الى انضاج هذه الثمرة وتقديمها هدية لاسرائيل.
4) لا شك ان مشاركة كل الدول العربية (ما عدا ليبيا والعراق والسودان) يعتبر مكسبا رابعا كبيرا حقتته اسرائيل، فهذه اول مرة في تاريخ الصراع العربي-الاسرائيلي تجلس اسرائيل مع كل الاطراف العربية كوفود مستقلة تتفاوض معها من اجل (الصلح) وتطبيع العلاقات بمختلف اشكالها وانواعها. ان تقدم المفاوضات وتوصلها الى اتفاقات سيتيح لاسرائيل اقامة صلح دائم مع كل الدول العربية بما يعني قبولها رسميا كدولة من دول المنطقة ومشاركتها همومها وتتعاون معها في كل المجالات الممكنة وخاصة ما يتعلق منها بالتعاون الاقتصادي وقضايا البيئة والمياه. صحيح ان انسحاب اسرائيل من الضفةو القدس وغزة والجولان سوف يلحق باسرائيل بعضا من الخسائر الاقتصادية وتحديدا كل ما كانت ولا زالت تنهبه من الارض والاقتصاد والبشر في هذه المناطق ولكن الصحيح ايضا انها بتطبيع علاقاتها الاقتصادية مع جيرانها العرب سوف تجني اضعاف تلك الخسائر. فهي بتطورها الصناعي قد تكون قادرة على غزو الاسواق العربية، والاستفادة من الامكانات والطاقات المالية الكبيرة التي تملكها بعض الدول العربية. هذا الى جانب ما ستوفره من مبالغ كبيرة تنفقها عادة على قضايا الامن وصناعة واستيراد السلاح.
5) وبالمقابل ستضطر اسرائيل الى دفع ثمن هذه المكاسب، وتدرك القيادة الاسرائيلية ان الوصول الى سلام او تسوية شاملة في المنطقة سيفرض عليها العيش في حدود معترف بها دوليا. بما يعني التخلي عن بعض الاحلام المبنية على أوهام تاريخية، منها فكرة اسرائيل الكبرى، وأرض اسرائيل التاريخية وانكار وجود الغير (الشعب الفلسطيني). وبما يعني ايضا انتهاء كل العقلية التوسعية العدوانية التي تحكمت في السياسة الاسرائيلية منذ ما قبل قيام دول اسرائيل وحتى الان. ولعل هذا الادراك هو الذي دفع شامير ليحول المفاوضات الى ساحة للمناورة وكسب الوقت على مدى ثمانية أشهر كاملة. ولا شك ان الائتلاف الحاكم -حزب العمل، ميرتس، شاس- سيواجه مشاكل مع المعارضة اليمينية ومتاعب (25) ليست بسيطة في حال تقدم المفاوضات وعندما تحين ساعة دفع الاستحقاقات. فالتخلي عن أرض اسرائيل الكبرى، وعن المستوطنات والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ضريبة ستدفعها اسرائيل ثمنا للتسوية الشاملة آجلا او عاجلا. صحيح انها ضريبة مكلفة، لكن الصحيح ان بديلها مكلف أكثر بأضعاف مضاعفة. فالحروب ستتواصل، وحالة الكراهية والعداء لاسرائيل سوف تتعمق وتتجذر عند الفلسطينيين وعند العرب وبعض المسلمين أكثر فأكثر.
ويخطيء من يعتقد أن السلام الحقيقي والدائم يمكن أن يبنى قسرا، بفرضه على الفلسيطنيين والعرب. ان فرض حلول غير مقنعة وغير عادلة يؤدي الى تسويات مؤقتة، تهديء الصراع وتسكنه لفترة، لكنها تبقي النار متأججة تحت الرماد. وفي السياق ذاته من المفيد ان تعي قيادة حزب العمل والمتحالفين معها في الحكومة، بأن شعب فلسطين وقيادته قدموا الكثير من التضحيات من أجل السلام قبل الوصول الى طاولة المفاوضات بفترة زمنية طويلة. لقد أقروا في مبادرة السلام التي أطلقها المجلس الوطني الفلسطيني عام 88 بحق اسرائيل في الوجود فوق الاقسام الاساسية من ارضهم، وقبلوا بالخضوع لفترة اختبار مدتها خمس سنين كاملة وان يكون حل قضيتهم على مرحلتين، كما قبلوا من اجل نجاح التحرك نحو السلام بالكثير من النواقص التي غابت عن الذكر في رسالة الدعوة. ويمكن القول اذا كانت القيادة الاسرائيلية مطالبة بدفع رسوم وضريبة السلام، فالشعب الفلسطيني دفعها مقدما لهم وللقيمين على عملية السلام.
ان الطريق الى السلام الدائم والشامل لا زال طويل وشاق وتسهيل الحركة عليه يتطلب من القيادة الاسرائيلية ومن راعي العملية تقديم ما عليهم لتعبيده وتمتين ارضيته. وهذا يفرض بالضرورة تصفية الماضي ومآسيه وذلك لا يمكن ان يتم الا باعتراف القيادة الاسرائيلية بمسؤوليتها عن الظلم التاريخي والجرائم الفظيعة التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني منذ عام 48 وحتى الان. ان مطالبة القيادة الاسرائيلية بهذا الاعتراف حق مشروع للشعب الفلسطيني. ألم تطالب القيادات الاسرائيلية وقيادات اليهود في العالم دولة المانيا بالاعتراف بجرائمها التي ارتكبتهافي الاربعينات ضد اليهود. اننا ونحن نؤكد عدالة المطلب الاسرائيلي واليهودي العالمي من دولة المانيا، نعتقد أن من حقنا مطالبة اسرائيل بالاعتراف بعدالة مطلب الشعب الفلسطيني. وأعتقد ان مثل هذا المطلب الفلسطيني يفترض توجيهيه ايضا للحكومة البريطانية باعتبارها صاحبة وعد بلفور 1917 وباعتبارها دولة الانتداب على فلسطين منذ ذلك التاريخ وحتى قيام دولة اسرائيل والمسؤولة عن تهجير مئات الالوف من اللاجئين. وأظن ان اقدام الحكومة البريطانية على تقديم مثل هذا الاعتراف، قد يساعد القوى الاسرائيلية المؤمنة بالسلام العادل والدائم الارتقاء بمواقفها والتوجه نحو معالجة القضية من جذورها. لقد أظهرت نتائج الانتخابات الاسرائيلية تنامي الفكر السياسي الواقعي في اسرائيل بشكل بطيء ومحدود، واذا كان من الضروري عدم الوقوع في الاوهام حول قدرات القوى الواقعية الاسرائيلية، وحول مدى تطورها، فلا بد لهذه القوى ان تعي حجم وطبيعة القضايا الفكرية والسياسية والاخلاقية التي ستواجهها آجلا ام عاجلا. ومما لا شك فيه ايضا ان تواصل عملية السلام وتوصلها الى اتفاقات ملموسة، وتواصل الانتفاضة وتواصل الخط السياسي الواقعي الفلسطيني وتواصل الحوارات الفلسطينية-الاسرائيلية على مختلف المستويات ومن مختلف القطاعات الشعبية، اسهمت وتسهم اكثر فأكثر في تعميق الفكر الواقعي في اسرائيل. وفي افساح المجال لمناقشة كل القضايا الشائكة والمعقدة العالقة بين الطرفين. واظن ان بامكان قوى السلام الاسرائيلية ان تزيد من حركتها في صفوف الشارع الاسرائيلي متسلحة بما قدمه الفلسطينيون من اجل السلام وبما حققته عملية السلام من مكاسب لاسرائيل حتى الان، وما يمكن ان تحققه في ظل تعايش الشعبين في دولتين غير معاديتين لبعضهما البعض. واظهار ان السلام يجلب الامن والاستقرار، وهو خير للشعبين او اعتباره بالحد الادنى شر لا بد منه.
ج) نتائجها عند الجانب الفلسطيني
من الطبيعي ان لا يكون هناك تقييم فلسطيني موحد لنتائج عملية السلام. فالساحة الفلسطينية منقسمة على نفسها أصلا حول قضية المشاركة ذاتها. ورغم ذلك فهناك عددا من النتائج والاثار يفترض ان لا تكون موضع خلاف، خاصة بعدما أكدتها وقائع الحياة على الارض وفي العلاقات وبعدما تحولت من قضايا كانت موضع افتراض او احتمالات وتوقعات الى حقائق ذات وزن ولها ثقلها في كل التحركات السياسية الجارية. وقبل الدخول في مناقشة وعرض النتائج والانعكاسات العملية التفاوضية على الجانب الفلسطيني لا بد من التأكيد والتشديد سلفا على نقطتين:
1) لا شك ان هناك الكثير من الملاحظات والنواقص والثغرات في الاسس التي قامت عليها عملية السلام منها على سبيل المثال تقسيم الحل الى مرحلتين انتقالية ونهائية، ومنها عدم التزام اسرائيل بوقف الاستيطان وقفا كاملا خلال المفاوضات..الخ. لكن ما يجب تذكره ان موازين القوى التي كانت سائدة لحظة انطلاق المفاوضات، وكذلك الظروف العربية والدولية التي كانت تحيط بالقضية الفلسطينية وبمنظمة التحرير آنذاك. وكذلك الخيارات والبدائل المطروحة في حينها، وتذكر ان اعلان م.ت.ف عن موافقتها على المشاركة في عملية السلام جاء بعد بضعة اسابيع من اعلان سوريا وكل الدول العربية الاخرى عن قبولها بذلك. واكدت مجريات العملية السياسية ان النواقص الكثيرة والثغرات الواسعة قد أعاقت الجانب الفلسطيني على تحقيق مزيد من المكاسب والانجازات. وأكدت في الوقت ذاته أن هذه النواقص وتلك الثغرات لم تحل دون تحقيق بعض المكاسب والانجازات لشعبنا وقضيتنا وم.ت.ف وان الصبر والحكمة في المفاوضات كفيلان بردم الثغرات وسد النواقص التي احتوتها رسائل الدعوة والتطمينات.
2) أكدت الوقائع ان قضايا الصراع العربي الاسرائيلي وجوهرها المسألة الفلسطينية هي اعقد القضايا الدولية على الاطلاق، وهي متشعبة ومتعددة الاوجه والمواضيع، عمرها يزيد على 44 عاما، تخللها عدة حروب، تراكم خلالها احقاد وعداوات عميقة، واختلط الحق المشروع والمقر دوليا بالباطل المفروض واقعيا. ولهذا فان المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية كانت في عامها الاول بمثابة حرب شرسة وقاسية من اجل انتصار الحق الفلسطيني ودحض الباطل الاسرائيلي. ولم تقل في صعوبتها وآلامها عن الحروب العسكرية التي خاضها الشعب الفلسطيني خلال ربع القرن الاخير دفاعا عن الوجود وعن التمثيل وعدم السماح بضياع وتبديد الحقوق. انها “أم المعارك الفلسطينية” اذا جاز التعبير. ومن هذا المنطلق يمكن النظر الى العام الاول من مؤتمر مدريد بأنه كان جولة ساخنة من جولات هذه الحرب الطويلة والقاسية استعرض فيها كل طرف اسلحته وقواه الذاتية أمام خصمه وامام العالم أجمع. وفيها تمت ايضا عمليات استطلاع بالنيران (كما يقال عسكريا)، وخلال هذا الاستطلاع وقعت احتكاكات مباشرة واشتباكات محدودة كانت حصيلتها فلسطينيا على النحو التالي:
أولا) ثبت الشعب الفلسطيني حضوره، وملأ مقاعده بوفد من ابنائه جلسوا وجها لوجه مقابل عدوهم في محفل دولي اريد له ان يعالج قضية شعبهم وسواها من قضايا المنطقة. وهذه أول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي والعربي يستطيع فيها الفلسطيني ان يفرض وجوده، وأن يمثل نفسه بنفسه. ولهذا يمكن القول ان المشاركة الفلسطينية نسفت والى الابد المقولة الصهيونية القائمة على انكار وجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني. ونسفت الى الابد الوصاية والبدائل العربية التى كان يجري فرضها عادة على التمثيل الفلسطيني في مثل هذه التحركات الدولية الحاسمة. واذا كانت الارادة الدولية مجمعة على جعل مؤتمر السلام محطة فاصلة لحل قضايا المنطقة واعادة ترتيب اوضاعها من جديد، فبالامكان القول ان الشعب الفلسطيني حجز مكانه في الترتيبات الجديدة وقطع الطريق على كل محاولة لشطبه واستثنائه. ولم يضيع الفرصة التاريخية، كما كان يحصل سابقا، بل التقطها في الوقت المناسب، وبطريقة ملائمة مكنته من اثبات وجوده وتكريس حضوره. ويخطيء كل من يقرأ استقبال الشعب الفلسطيني لوفده عندما عاد من مفاوضات مدريد كاستقبال الابطال ناشيء عن أوهام بانجازات سريعة، او تعبير عن تعب من الانتفاضة. ان القراءة الصحيحة هي التي تقول ان الشعب الفلسطيني يعرف أن طريق المفاوضات طويل وشائك، ولكنه ابتهج بالانجاز التاريخي الذي حققه بفرض وجوده وفرض تمثيله الخاص بعدما غيبا فترة تزيد على ال 70 عاما. وانه عبر عن بهجته بحركة انتفاضية يعرف أنها (في ظروفه الخاصة) هي الافعل في ارباك العدو وفي مقاومة أعماله العدوانية.
ثانيا) نجح الوفد الفلسطيني في عرض قضية شعبه، وبين عدالتها. واستخدم في عرضه لغة العصر التي يفهمها عالم اليوم، واظهر الوجه الحضاري للشعب الفلسطيني، وقدرته على التعامل مع الواقع الدولي الجديد ومتطلباته. لم يستجد حلولا، لكنه بين أن استمرار غياب الحل العادل يضر بمصالح شعوب المنطقة وكل الشعوب المحبة للسلام. وبهذا نجح في ايصال رسالة شعبه الى الرأي العام العالمي وكل القوى المؤيدة للسلام، ووضع الجميع امام مسؤولياتهم بعدما جعل قضيته ذات الاولوية في المعالجة الدولية. وقدم لها حلولا واقعية تستند بالاساس الى الشرعية الدولية.
والمشاركة الفلسطينية مكنت الشعب الفلسطيني من توسيع وترسيخ جبهة اصدقائه، ومن كسب العديد من القوى المحايدة، وحيد بعض القوى التي كانت معادية او شبه معادية له، وجرد عدوه من بعض اسلحته ومواقعه وحشره في زاوية ضيقة بعدما افقده بعض اوراقه وخاصة ورقة تذرعه الدائم برفض العرب للمفاوضات المباشرة.
ثالثا) من خلال المشاركة في مؤتمر مدريد، وبحسن اداء الوفد لمهامه، تم تكريس وحدة الشعب، ووحدة القيادة ووحدة التمثيل واستقلاليته. صحيح ان المشاركة الفلسطينية تمثلت رسميا بوفد شخصيات وطنية من الداخل وفي اطار وفد مشترك اردني-فلسطيني، ولكن الصحيح ايضا ان الاعمى سياسيا وحده الذي لم ير ولم يستوعب وحدة الشعب ووحدة القيادة ووحدة التمثيل واستقلاليته في العملية كما تجسدت. فكل الاطراف المشاركة في المؤتمر وكل المتابعين للتحضيرات التي سبقته والمناقشات التي تخللته يعرفون ان م.ت.ف هي المفاوض الحقيقي ويعرفون ان الوفد الفلطسيني قد تشكل بقرار من قيادة م.ت.ف، وانها راعت في تشكيله كل خصوصيات الوضع الفلسطيني وان القدس والخارج لم تكن غائبة عن المشاركة العملية في اعمال المؤتمر. فالكل يعرف ان لجنة التوجيه جزء أساسي من مكونات الوفد، ولها مهام مباشرة في تخطيط وتوجيه الدور الفلسطيني في المفاوضات وانها تشكلت بموافقة قيادة م.ت.ف وبالاسماء، وهي تضم في عضويتها ممثلين عن القدس وعن الشتات. وانها هي ومعها مجموعة العمل التي شكلتها اللجنة التنفيذية من الخارج تقوم بدور همزة الوصل بين الوفد الفلسطيني والوفود العربيةو الاجنبية المشاركة في المؤتمر، والوصل مع القيادة الفلسطينية.
ولعل التدقيق في مدلولات لقاء مسؤولين امريكيين مع اعضاء من اللجنة الاستراتيجية ومع لجنة التوجيه، وكذلك متابعة ما قام ويقوم به الاخ نبيل شعث وفيصل الحسيني والاخت حنان عشراوي، وبقية اعضاء لجنة التوجيه واللجنة القيادية المتواجدة مع الوفد يبين طبيعة الدور التفاوضي القيادي العملي المسند من قيادة م.ت.ف لهذه اللجنة. وليس صعبا على كل من يريد رؤية الحقيقة ان يلمس الحضور الفلسطيني المستقل، والذي حرص الاخوة في الجانب الاردني على اظهاره باستمرار وفي كل المناسبات. والجميع يعرف ان المفاوضات الثنائية لفلطسينية-الاسرائيلية جزء من الاسس التي قام عليها المؤتمر. واصرار الوفد بصورة متواصلة على تكريس م.ت.ف كمرجعية وحيدة له، واصراره على اشهار ذلك في كل اللقاءات والمناسبات قطع الطريق على كل تفكير أو أوهام بخلق بدائل لمنظمة التحرير او بدائل لقيادتها الشرعية.
رابعا) لا شك ان المشاركة الفلسطينية في المؤتمر، والمواقف الواقعية والمسؤولة التي اتخذها الوفد والتي تمت الاشادة بها دوليا وعربيا، قد أعادت لمنظمة التحرير الفلسطينية مصداقيتها على المستوى الدولي، بعدما تشوهت صورتها ابان وبعد حرب الخليج. فالعالم اجمع يعرف ان المشاركة الفلطسينية تمت بقرار من قيادة م.ت.ف والكل يعرف ان المواقف التي اتخذها الوفد الفلسطيني خلال كل اعمال المؤتمر تمت بتوجيه مباشر من قيادة م.ت.ف وبعد مصادقتها على الاساسي منها وبقرارات رسمية بعضها معلن. وأن العديد من القرارات والنتائج التي تم تحقيقها ما كان لها ان ترى النور وان تبعث للحياة بدون قرارات رسمية ومعلنة من م.ت.ف. وان الوصول لاحقا لبعضها يتطلب مفاوضات مباشرة مع قيادة م.ت.ف. مثل الامن المتبادل وبعض المسائل المتعلقة ببناء الثقة، وانتهاء بقضية اللاجئين وسائر القضايا الجوهرية الاخرى. ولا يمكن لعاقل ان يتصور مثلا مطالبة اسرائيل للوفد الفلطسيني في المفاوضات بأن يتخذ قرار بتجميد او وقف العمليات العسكرية الفلسطينية الموجهة من الخارج او التي تتم في الداخل ضد الجيش والمنشآت الاقتصادية والعسكرية الاسرائيلية. فالكل يعرف ان جواب الوفد الفلسطيني سيكون مختصرا ومفيدا خلاصته ابحثوا هذا الامر وما شابهه مع المقاتلين والعسكريين الفلسطينيين وقيادتهم معروفة لكم وللجميع بأنها م.ت.ف. ولهذا يمكن القول اذا كانت المشاركة في مؤتمر مدريد قد اوجدت للشعب الفلسطيني مكانا رسميا في الخارطة الجديدة للشرق الاوسط، وأعطت قضيته زخما جديدا، فهي في الوقت نفسه حمت م.ت.ف من الشطب والتدمير وخلصتها من طوق العزلة والحصار الذي كان مفروضا عليها ومضروبا حولها. وأعطتها مصداقية دولية عالية، واظهرت قيادتها بأنها قادرة على تحمل مسؤولياتها الدولية عن صنع السلام. وبهذا عززت مكانتها باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
خامسا) فتحت المشاركة الفلسطينية في عملية السلام ميادين وقضايا جديدة للصراع مع العدو، وخلقت ظروفا افضل لمتابعة وتطوير اشكال النضال الاخرى التي يخوضها الشعب الفلسطيني منذ سنين طويلة.
وتمكنت الانتفاضة خلال جولات المفاوضات من تعريف العالم بأهدافها وبنضالاتها اليومية، وتحولت قضايا القتل والقمع والاعتقال والابعاد..الخ التي يمارسها جيش الاحتلال في مواجهة الانتفاضة من مسائل محلية الى قضايا سياسية دولية، تفرض نفسها على المفاوضات. وباتت تجد من يحملها الى العالم ومن يدافع عنها ويتضامن معها اكثر من السابق. ووفرت المشاركة الفلسطينية في المفاوضات حماية سياسية اوسع للانتفاضة، ووضعت قيودا اضافية على حركة البطش والارهاب الاسرائيلي، فبات الترانسفير الجماعي مثلا شبه مستحيل، والابعاد الفردي قضية دولية كبرى. وفتحت آفاقا دولية لتوفير مزيدا من الدعم الاقتصادي لشعب الانتفاضة. ودعم قضايا حقوق الانسان الفلسطيني.
سادسا) تكريس وجوه وشخصيات وطنية داخل الارض المحتلة باعتبارها امتدادا لقيادة م.ت.ف، وترافق ذلك مع توفر شيء من الحماية السياسية الدولية لهذه الشخصيات.
ان تكريس مثل هذا المكسب وتوسيعه يساعد ولا شك في الشروع الجدي في بناء بعض الاطر والمؤسسات الرسمية داخل الاراضي المحتلة. وفي هذا السياق فربما اصبحت اللحظة مناسبة الان لتسمية اعضاء المجلس الوطني واملاء شواغر ال 180 مقعدا المقررة للداخل ضمن عضوية المجلس. وأظن ان تسمية الاخوة أعضاء الوفد وفي لجنة التوجيه واللجنة القيادية والاخوة المستشارين الاعضاء في المجلس الوطني والمجلس المركزي أمرا يستحق التفكير فيه، والتدقيق في ردود فعل الاخرين عليه. وكذلك في فوائده وآثاره الايجابية على الصعيد الوطني.
سابعا) ركز المفاوض الفلسطيني على امتداد جلسات وجولات المفاوضات على قضية وقف وتجميد الاستيطان ويمكن القول انه نجح في تحويلها الى قضية دولية كبرى، حظيت باهتمام كل المشاركين في مؤتمر السلام. ووقفت قوى دولية الى جانب المطلب الفلسطيني العادل بشأن وقف وتجميد الاستيطان باعتباره عملا يعرقل السلام. واظن ان خروج الليكود من السلطة مكسبا آخر. ولا شك ان معركة القروض والاستيطان كانت سببا رئيسيا في ذلك. صحيح ان الجانب الفلسطيني بكل طاقاته وبراعته لم يستطع الزام اسرائيل بوقف او تجميد الاستيطان بشكل كامل، لكن اضطرار رابين الى الاعلان عن وقف بناء مستوطنات جديدة، وعن تجميد بناء سبعة آلاف وحدة سكنية كانت في طريقها للانشاء يعتبر مكسبا ما كان له ان يتحقق لو تمت مقاطعة عملية السلام. صحيح ان رابين سيواصل بناء أحد عشر ألف وحدة سكانية، ولكن الصحيح أيضا أن المفاوضات لا زالت متواصلة ومعركة الاستيطان لم تتوقف.
وأعتقد ان قيام سلطة فلسطينية انتقالية يسهل الى حد كبير خوض هذه المعركة وتحقيق انجاات مهمة فيها.
ثامنا) قبل افتتاح مؤتمر مدريد كانت الاوضاع العربية في أوج تفككها وكانت العلاقات في أوج توترها. ورغم استمرار هذا التفكك والضعف والتنافر العربي فالواضح ان عملية السلام، ودخول العرب فيها كانت عاملا مساعدا على عودة بعض الروح للتضامن العربي مع القضية الفلسطينية. لقد تبنى العرب المشاركين في عملية السلام موقفا من المتعدد والثنائي يقول بترابط التقدم بين المسارين وترابط الحل على الجبهات العربية كافة. وهذا ومعه ما صدر من مواقف وبيانات عن اجتماعات وزراء الخارجية الخماسي او السباعي تؤازر الموقف الفلسطيني يمكن اعتبارها مكاسب تحققت على ارضية المشاركة الفلسطينية في عملية السلام. واظن ان طريق المقاطعة كان سيقود حتما الى تعرضا لجانب الفلسطيني شعبنا ومنظمة الى ضغوط كبيرة نتائجها مدمرة ووخيمة.
تاسعا) ساهمت المشاركة الفلسطينية والسياسية الواقعية التي انتهجتها م.ت.ف في تمكين قوى السلام في اسرائيل من تعزيز مواقعها، وقدمت لها اسلحة فعالة للتعبير عن آرائها ومواقفها بكل صراحة ووضوح. ان وجود أربعة عشر عضوا في الكنيست من حزب اسرائيلي ينادون بدولتين لشعبين وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ويعترفون بالمنظمة كممثل شرعي لهذا الشعب يعتبر ولا شك مكسبا للقضية الفلسطينية، وتزداد قيمته اكثر فأكثر عند احتساب عدد المؤمنين بذات المواقف من حمائم حزب العمل. وعند التدقيق في الصراعات المحتدمة الان بين الاحزاب الاسرائيلية حول عملية السلام ومتطلباتها، وحول الموضوع لفلسطيني ارضا وشعبا ومستقبل العلاقات، تحققت على ارضية المشاركة الفلسطينية في عملية السلام.
عاشرا) الواضح ان المشاركة في عملية السلام احدثت انقساما داخليا، وتسببت في ازدياد التصدع في نسيج الوحدة الوطنية، رصيد الشعب على مدى عشرات السنين من النضال. وفي سياق فهم هذا الاثر والانعكاس السلبي لعملية السلام على الاوضاع الفلسطينية الداخلية اعتقد ان من الضروري التأكيد على ان وقوع خلاف وانقسام سياسي حول المشاركة في عملية السلام أمر طبيعي تماما، وتعبير عن حالة صحية يعيشها الفكر السياسي الفلسطيني. فالعملية السياسية ليست حدثا عاديا في تاريخ القضية الفلطسينية. بل هي عملية تاريخية، سوف تمس بنتائجها المصير الوطني برمته. وقضية من هذا المستوى تستحق ان يختلف الشعب الفلسطيني وان تختلف وتتباين قواه السياسية حولها ومن ألفها الى يائها.
الا ان تحميل العملية السياسية كل المسؤولية عن كل الخلافات الحاصلة في الساحة الفلطسينية وعن كل التصدعات الكثيرة الموجودة في بنيان الوحدة الوطنية امرا فيه الكثير من التجني المفتعل، وفيه القليل من الموضوعية في اطلاق الاحكام. فالمعروف ان الساحة الفلسطينية لم تشهد منذ منتصف السبعينات توافقا سياسيا. وحتى لا يعمم الموضوع، يمكن القول انها لم تشهد طيلة فترة الانتفاضة، قبل وبعد المبادرة الامريكية ومؤتمر السلام اي توافق سياسي مطلق. ولا أظن ان الساحة الفلسطينية ستشهد يوما ما مثل هذا التوافق. فالخلاف مع حماس ليس جديد، وهو قائم منذ الايام الاولى للانتفاضة، ولم تكن المشاركة في عملية السلام ومؤتمر مدريد اول خلاف جوهري يختلف حوله داخل صفوف م.ت.ف خلال فترة الانتفاضة. فقد سبقه خلاف حول الموقف من القرار 242 وحول الموقف من اعلان الاستقلال ومن مبادرة السلام الفلسطينية. وكذلك الخلاف حول النقاط العشر المصرية وحول النقاط الخمس التي طرحها الوزير بيكر. موضوعيا يجب الاعتراف ان الخلاف الحاصل حاليا هو الاشد، وان نتائجه قد تكون اكثر خطورة خاصة اذا واصلت القوى المعارضة السير في الطريق الذي بدأت تسير فيه وتحديدا منذ وقوع الاشتباكات المسلحة بين حركة حماس وحركة فتح في قطاع غزة. ومنذ خرج الخلاف السياسي عن منحاه الديمقراطي ودخل في دهاليز الاتهامات، وسراديب الارهاب الفكري والجسدي احيانا. وايضا مع بدء دخول قوى عربية واسلامية(26) على خطوط الخلافات الفلسطينية الداخلية وشروعها في تغذية هذه الخلافات وفي دفع العلاقات الوطنية نحو اتجاهات ومسارات لا ديمقراطية. لقد اكدت تجارب الحركة الوطنية الفلسطينية على مدى ربع القرن الاخير ان كل الخلافات الفلسطينية واشدها تعقيدا يسهل حلها ومعالجتها طالما بقيت فلسطينية الاساس وفلسطينية الدوافع والمنطلقات. واكدت في الوقت نفسه ان ابسط القضايا الخلافية واصغرها يمكن ان تتحول الى متاريس اسمنتية يصعب اختراقها اذا كانت لها صلات وابعاد عربية.
وفي سياق الحديث عن دور عملية السلام في تأجيج الصراعات الفلسطينية الداخلية، لعل من الضروري الاشارة الى أن قرار المشاركة في مؤتمر السلام تم اتخاذه في الاطر التشريعية الفلسطينية، وفقا للأصول الرسمية وبطريقة ديمقراطية. فالكل يعرف ان المجلس الوطني وضع اساسا وضوابطا للمشاركة في عملية السلام، وكلف اللجنة التنفيذية بمتابعة الجهود والاتصالات مع القوى والاطراف المعنية من أجل تأمين هذه الاسس وتلك الضوابط، وبذات الوقت كلف المجلس الوطني صلاحية البت النهائي للمجلس المركزي(27) في ضوء نتائج الاتصالات التي تجريها ل.ت. وفي ضوء المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. ولاحقا وبتاريخ 18/10/29 عقد المجلس المركزي اجتماعه بالنصاب القانوني الكامل، وبحضور الشيخ عبد الحميد السائح رئيس المجلس الوطني والاخ ابو عمار رئيس اللجنة التنفيذية، ودرس نتائج الجهود التي بذلتها ل.ت واتخذ في ضوء تقديره للمصلحة الوطنية العليا قرارا صريحا لا لبس فيه بالمشاركة في العملية السياسية(28). حيث صوت مع القرار 54 عضوا، وصوت ضده 16 عضوا.
وبنتيجة هذا التصويت تمت المشاركة في مؤتمر مدريد، وبرز في الساحة الفلطسينية اتجاهان اقلية تعارض واغلبية تقود العملية مسترشدة بالقرار. ان الاعراف والتقاليد الديمقراطية الفلسطينية، تعطي للاقلية كما جرت العادة حقها في المشاركة في القيادة اليومية، مع احتفاظها في الوقت نفسه بحقها في التعبير عن رأيها وعن وجهة نظرها في كل القضايا السياسية والتنظيمية اليومية. وتفرض عليها في الوقت نفسه عدم القيام بكل ما من شأنه عرقلة او تعطيل قدرة الاغلبية على تنفيذ قرارات المؤسسة التشريعية.
وفي سياق المحاججة بين الاقلية والاغلبية طرحت مؤخرا فكرة اجراء استفتاء للشعب الفلسطيني(29) حول اي اتفاق يتم التوصل له بين الوفد الفلسطيني والوفد الاسرائيلي. ان طرح مثل هذه الافكار يساعد على ابقاء الصراع بين الاتجاهين ضمن دائرة الديمقراطية. ولا أظن ان فلسطينيا واحدا يرفض اشراك شعبه مباشرة في تقرير نتيجة مصيرية مثل الاتفاق مع اسرائيل (أي اتفاق). وحتى تأخذ هذه الفكرة مداها وتتحول من قضية وشعار يستخدم لتأجيج الصراع فلا بد من مناقشتها ضمن الاطر الشرعية للمنظمة، لأن مطلب الاستفتاء له موجباته، ومنه تشتق العديد من الاسئلة الاسياسية الكبرى. منها: هل نقبل باجراء استفتاء يشرف عليه جيش الاحتلال؟ وهل يمكن استفتاء كل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج؟ واذا تعذر اجراء الاستفتاء في الخارج هل نقبل نتيجة استفتاء الداخل..الخ من الاسئلة التي تحتاج الى قرارات مسؤولة تتخذها المؤسسات التشريعية الفلطسينية. وتحتاج الى توحيد الجهود لانتزاع القرارات الدولية الممكنة والقادرة على تهيئة افضل الظروف لشعبنا ليدلي برأيه بكل حرية وديمقراطية، وبعيدا عن كل اشكال القهر والابتزاز.
لا شك ان الخلاف والتباين حول عملية السلام سيزداد كلما تقدمت المفاوضات. ولا مبالغة ف يالقول ان الديمقراطية الفلسطينية والفكر السياسي الفلسطيني مقدمان في الاشهر القليلة القادمة على اختبار مصيري. شروط النجاح فيه متوفرة. في بناء معادلة تقوم على وضع المصلحة الوطنية فوق أية اعتبارات أخرى. وتمكن المعارضة الفلسطينية من التعبير عن رأيها بكل السبل والوسائل الديمقراطية. والحفاظ على المكاسب والانجازات التي تحققت حتى الان والعمل على تنميتها بغض النظر عن رأي المعارضة فيها. ومواصلة التعاطي الايجابي مع عملية السلام وفقا لقرارات الشرعية الفلسطينية.
بعد هذا الاستعراض الاجمالي لنتائج وانعكاسات عملية السلام على ثلاثة اطراف رئيسية فيها (الادارة الامريكية والفلسطينيين واسرائيل) يتبين انها جميعا حققت حتى الان مكاسب وحصدت نتائج ايجابية من مشاركتها في العملية، رافقتها بعض التفاعلات الداخلية التي تحمل في طياتها عددا من المؤشرات السلبية لم تصل في حدتها الى مستوى التأثير على مسار عملية السلام ككل او على استمرار مشاركة اي من الاطراف فيها. ويمكن القول ايضا ان كل هذه الانجازات والمكاسب معرضة للتبخر السريع والاندثار وان قوة ثباتها واستقرارها وتطورها وتوليد مزيد من القناعات بقيمتها واهميتها عند هذا الطرف او ذاك ضمانته الوحيدة هو عدم العودة الى الوراء. وتحقيق مزيد من التقدم الجدي في المفاوضات. والوصول الى اتفاقات عادلة متوازنة وخالية من قاهر ومقهور.
فهل ستتمكن عملية السلام بخصائصها وميزاتها التي لا زالت تملكها، وبنتائجها التي توزعت على المشاركين فيها، وبما كرسته في جولاتها الستة السابقة، من دخول عامها الثاني بذات الزخم الذي بدأت فيه من مدريد؟؟. أم أنها شاخت في عامها الاول؟ ولا آفاق مستقبلية لها..؟. لا شك ان الجولة السابعة ستحمل بعض الاجابات الاولية على كل هذه الاسئلة المطروحة. وحتى ذلك الحين سنحاول في القسم الاخير (الرابع) من هذه الدراسة استشفاف بعض الافاق المستقبلية لمؤتمر السلام.

القسم الرابع

الآفاق المستقبلية
في الاقسام الثلاث السابقة استعرضنا ميزات وخصائص العملية، ومسيرة المفاوضات في ست جولات، ونتائجها وانعكاساتها على الاطراف الرئيسية فيها. واستكمالا لعملية المراجعة والتقييم لا بد من محاولة استشفاف الآفاق المستقبلية القريبة لهذه العملية. ومن ضمنها مدلولات توقيت الجولة السابعة قبل الانتخابات الامريكية.
وأعتقد أن التباين الحاصل الان في صفوف الباحثين والمفكرين والسياسيين الفلسطينيين والعرب والاسرائيليين والمهتمين بشؤون المنطقة حول آفاق ومستقبل المفاوضات امر طبيعي وموضوعي. فالمعروف ان حمولة قطار السلام الشرق اوسطي ثقيلة ومتنوعة الصنوف والاشكال بما في ذلك قضايا قابلة للاشتعال وبعضها قابل للانفجار. والمعروف ان طريقه طويل جدا ومعقد وانه يسير وسط حقول من الالغام. وهذه القراءة لمستقبل عملية السلام تستند الى الوقائع والظروف والمعطيات القائمة حاليا، وهي حتما عرضة لنسبة من الخطأ والصواب وتندرج في باب التقديرات، وتتأثر بكل تطور دراماتيكي قد يقع هنا او هناك. ورغم التقدير باستبعاد مثل هذه التطورات، الا ان الشرق يبقى مسرحا وميدانا للمفاجئات. وعدم القدرة على الوصول الى تحديد دقيق وكامل لكل النتائج وللمستقبل النهائي للمفاوضات لا يعني اتخاذ موقف سلبي مسبق من المشاركة فيها، او تبني مقاطعتها او الدفع باتجاه تعليقها بانتظار الحصول على guaranty. فالمفاوضات ميدان مساومات. والمفاوضات ساحة صراع وميدان قتال والدخول فيها من عدمه يتم بناء على حسابات عملية دقيقة ومجردة من العواطف للظروف المحيطة لحظة اتخاذ القرار. اما نتائج المفاوضات فتقررها ولا شك موازين القوى وبراعة المفاوض في استخدام حججه واوراق قوته، وايضا قدرته على عزل خصمه، وتحييد ما يمكن تحييده من اعدائه وخصومه، وتوسيع جبهة حلفائه.
واستنادا للتحليل والتقييم الوارد في الاقسام الاولى من هذه الدراسة يمكن تثبيت ما يلي:
أولا – المفاوضات قابلة للتواصل:
قبل مغادرتهم واشنطن يوم 24 /9 /92 اتفق رؤساء الوفود الاسرائيلية والفلسطينية والسورية واللبنانية والاردنية مع الراعي الامريكي على العودة يوم 21 اكتوبر الحالي لعقد الجولة السابعة من المفاوضات، وحددوا مدتها الزمنية بشهر تقريبا. وبغض النظر عن الذي اقترح وحدد هذا التاريخ فالواضح ان الموعد يسبق الانتخابات الامريكية باسبوعين تقريبا، والجولة ستتواصل اسبوعين بعدها. فهل لهذا التوقيت علاقة بالانتخابات الامريكية؟ أم ان له مدلالوت اخرى تتصل برغبة الاطراف في تواصل المفاوضات؟ لا شك ان التوقيت ليس بريء من تهمة الاستخدام في الانتخابات، لكنه في الوقت نفسه، يأتي منسجما مع المعطيات الدولية والاقليمية المحيطة بعملية السلام والتي تدفع باتجاه تواصل المفاوات وعدم توقفها في كل الظروف وكل الاحوال.
واذا كان القرار بعقد الجولة السابعة يضمن تواصل المفاوضات حتى اواخر تموز 92 ، فالمعطيات الدولية والاقليمية تشير الى ان افق تواصلها مدة عامها الثاني مفتوحا على مصراعيه.
فنتائج الجولة السادسة لم تكن سلبية في مجال تواصل المفاوضات، بل انها اظهرت رغبة كل الاطراف في الاستمرار في التفاوض وتأكيدا حدد موعد جولتها الجديدة في وقت سيكون الراعي الاساسي في أوج انشغاله في قضاياه الداخلية. وكل الوفود غادرت واشنطن وهي تحمل في حقائبها ملفات فيها مشاريع واوراق عمل تحتاج الى دراسات معمقة. وبغض النظر عن امكانية التوصل الى نتائج محددة في الجولة السابعة بين هذا الطرف او ذاك او بين كل الاطراف، فالواضح والمؤكد ان ملفات الجولة القادمة سوف تكون بحاجة لوقت طويل والى جولات اخرى ثامنة وتاسعة وعاشرة قبل اختتام مناقشاتها ومناقشة ملحقاتها وتوابعها.
وبتمعن مواقف ومصالح الاطراف الدولية والاقليمية والراعي الاساسي من مسألة تواصل المفاوضات يتبين:
1) من قراءة الوضع الدولي بعد عام من بدء المفاوضات يمكن القول ان الاجماع الدولي حول دعم مسيرة السلام في الشرق الاوسط لا زال قائما كما كان عند انطلاق المسيرة. ولا يلاحظ لا فتور في الموقف ولا بروز منافسين او مشاغبين دوليين، ولا متضررين دوليين من تواصل عملية السلام في الشرق الاوسط، او من نتائجها التي تحققت حتى الان او تلك التي يمكن تحقيقها في العام القادم. فالملاحظ عكس ذلك، اذ يلمس حرص كل القوى الدولية على تواصل العملية، وعلى تقدمها. ويلحظ دفعها المتواصل للاطراف المتفاوضة نحو التقدم في المفاوضات ونحو التوصل الى اتفاقات. فالدول المشاركة في المتعدد الاطراف والبالغ عددها اربعين دولة تقريبا ابدت على امتداد العام الماضي، وفي الاجتماعات الاخيرة لبعض اللجان حرصا متزايدا على تواصل المفاوضات وعلى تقدمها.
2) اذا كانت دوافع ومحفزات الادارة لاطلاق مبادرتها نحو صنع السلام في الشرق الاوسط ورعايتها لها هي تأمين مصالحها الاستراتيجية لسنوات طويلة قادمة من خلال خلق استقرار دائم او شبه دائم فيها، فهذه المصالح ما زالت قائمة والمهمة لم تنجز بعد وبحاجة الى مزيد من المتابعة للاستكمال. ولعل الاستخلاص الرئيسي الذي توصلت له الادارة الامريكية بعد عام من المفاوضات هو ان الطريق سالكة امام مبادرتها، وان الظروف ناضجة لتحقيق مزيدا من التقدم والنجاح. ولم يظهر حتى الان سببا واحدا يدفع الادارة الامريكية للتراجع عن مبادرتها وعن رعايتها للعملية بل ان كل ما ظهر خلال عام يشجعها ويحفزها على مواصلة دورها. وفي هذا السياق لعل من الضروري البت بمسألة تأثر مسار العملية بنتائج الانتخابات الامريكية. صحيح ان وصول المفاوضات الى اتفاقات ما قبل الانتخابات الامريكية يعزز الموقف الانتخابي للرئيس بوش، لكن الخبراء في الشؤون الامريكية يجمعون تقريبا على ان اهتمامات الناخب الامريكي تتركز الان حول قضايا أخرى غير السياسة الخارجية، وان نسبة ضئيلة لا تتعدى 3 % يعيرون السياسة الخارجية اهتماما عند التصويت. ولهذا أظن ان من الخطأ ربط توقيت الجولة السابعة للمفاوضات بتوقيت الانتخابات الامريكية فقط.
أما بشأن التقدير القائل بأن سقوط بوش في الانتخابات ونجاح منافسة الديمقراطي فيها، سيؤثر على تواصل المفاوضات وعلى مدى الاهتمام الامريكي بها، فأظن ان مثل هذا التقدير يسقط من الاعتبار ان الادارة الامريكية تعمل وفقا لاستراتيجية تقوم على تخطيط بعيد المدى بما يضمن لها مصالحها الاستراتيجية ولا أظن أن خروج الجمهوريين من البيت الابيض ودخول الديمقراطيين اليه سيؤدي الى تغير جوهري في الاستراتيجية الامريكية في المفاوضات. ان أقصى ما يمكن ان يتركه مثل هذا التغيير ان حصل هو تخفيف زخم الدفع الامريكي للعملية لفترة زمنية قصيرة لا تتجاوز بضعة أشهر قليلة (فترة التسليم والاستلام). فلا البرنامج الانتخابي للحزب الديمقراطي ولا مواقفه السابقة تدلل على عدم اهتمام هذا الحزب بقضايا الصراع في المنطقة. وبغض النظر عما ينقل لقيادة المنظمة من هذا الزعيم او ذاك من الزعماء الديمقراطيين حول درجة اهتمام الديمقراطيين بحل قضايا الصراع في المنطقة، فالمعروف ان اتفاقات كامب ديفيد تمت في عهد الرئيس الديمقراطي السابق كارتر.
3) صحيح ان تواصل المفاوضات وتقدمها ليس مرهونا بالموقف الامريكي او مواقف الاطراف الدولية الاخرى المشاركة فيها فقط، وان مواقف اطراف الصراع المباشر حاسمة في ذلك، ولكن الصحيح ايضا ان كل هذه القوى الاقليمية ليست في وضع يمكنها من التصادم المباشر لا مع الادارة الامريكية ولا مع القوى الدولية الاخرى. ولم يبد أي منها حتى الان موقفا يفهم منه رغبة في قطع او تعليق او تجميد المفاوضات. ومن المعروف ان الوضع الاسرائيلي الجديد قام ونشأ على أنقاض سلفه، الذي تصادم مع الادارة واصطدم مع الانتفاضة ومع الواقعية السياسية الفلسطينية، وبغض النظر عن صدق نوايا القيادة الاسرائيلية الجديدة (العمل)، فمواقفها المعلنة وسلوكها العملية في الجولة السادسة، (الاولى) التي شاركت فيها، توحي ولو ظاهريا بأنها راغبة في تواصل المفاوضات وفي التوصل الى نتائج ملموسة. وبغض النظر عن النوايا، فالواضح ان مصير حزب العمل، ومستقبل الائتلاف الحكومي في اسرائيل، ورابين نفسه، بات مربوطا ومرهونا الى حد كبير بمسار المفاوضات الفلسطينية والعربية-الاسرائيلية. ففشل المفاوضات وانهيارها يعني عند الناخب الاسرائيلي فشل البرامج التي على أساسها انتخب رابين وكتلة حزب العمل، وذات الشيء ينطبق على ميرتس. اما الاطراف العربية فالمعروف ان بعضها دخل المفاوضات تجنبا للصدام مع الراعي الامريكي واستراتيجيته الشرق أوسطية، وتجنب التصادم مع الرأي العام العالمي المنادي بالسلام في الشرق الاوسط، ومع الاطراف الدولية الاخرى الداعمة والمشاركة في المسيرة. وان بعضها الاخر دخلها على امل انتزاع بعضا من حقوقه المغتصبة عبر ايجاد نقاط تقاطع بين مصالحه الوطنية بأهدافها المباشرة مع استراتيجية الادارة الامريكية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. والواضح ان الادارة الامريكية قد نجحت حتى الان في تطويق الاطراف المعنية بالصراع المباشر، واحاطتهم بظروف، ووضعتهم في اوضاع يصعب على اي منهم التمرد عليها او الانسحاب منها، وأجدت أيضا الكثير من المشجعات والمحفزات لكل الاطراف كي يستمروا في المفاوضات، بما في ذلك امل تحقيق بعض المكاسب، وتحقيق بعض المطالب والاهداف، سواء من خلال المقايضات، او من جيوب الاخرين المساعدين من أوروبيين ويابانيين وكنديين وامريكيين.
ثانيا – المفاوضات طويلة جدا ومعقدة:
لعل من المفيد تحت هذا العنوان استذكار بعض المواقف الفلسطينية والعربية والدولية التي سادت عشية افتتاح مؤتمر مدريد. حيث ظهر في حينها تقديران متناقضان. الاول بسط الامور، وصغر الصعوبات وتصور ان هناك مشروعا امريكيا متكاملا تفصيليا معد سلفا وسيفرض على كل الاطراف. وتوقع نتائج وحلول سريعة، وتنبأ بوصول الاطراف الى اتفاقات هامة خلال فترة عام من المفاوضات. أما الرأي الاخر فقد مضى بعيدا في تشاؤمه لدرجة انه لم يستطع رؤية المتغيرات الدولية والظروف النوعية التي احاطت بالمحاولة الامريكية الجديدة. واستخدم مقياس قديم لحساب اوزان نوعية جديدة. وتوقع فشل المفاوضات بعد جولة او جولتين منها وبعد الانتهاء من “احتفالات ومهرجانات” مدريد، ولم يستطع تصور استمرارها مدة عام كامل.
والان وبعد 6 جولات من لمفاوضات، وفي ضوء ما قدم من مشاريع واوراق، وما ظهر فيها من مفاهيم وافكار متباينة ومتعاكسة حول الاهداف التي حددها راعي المؤتمر في رسالة الدعوة وحول سبل تنفيذها لا يمكن الفرار من الاقرار بأن المفاوضات ستكون طويلة جدا، وشائكة ومعقدة. وسوف تمتد سنوات وسوف تتخللها توترات وتشنجات متبادلة، حادة جدا. وعلى كل حال يستطيع من يدقق في رسالة الدعوة وكتب التطمينات ان يتلمس بوضوح ان مهندس العملية (الوزير بيكر) لم يخدع أي من الاطراف المشاركة في العملية بغض النظر عن موقفها فيها وعن صفة دخولها لها. فقد نصت رسالة الدعوة على أن المفاوضات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي سوف تستغرق خمس سنوات. هذا اذا لم يلجأ اي من الاطراف الى تضييع بعضا من الوقت الطويل او القصير كما فعل شامير.
صحيح ان قضايا الخلاف على المحور الفلسطيني-الاسرائيلي هي الاعقد والاصعب، لكن من غير الصحيح اطلاقا تبسيط وتصغير قضايا الخلاف على محاور المفاوضات الاخرى. فمعالجة قضايا الخلاف على محاور المفاوضات الاخرى. ان معالجة قضايا الارض والانسحابات والامن والمياه والتسليح وتشعباتها وبتطبيقاتها الميدانية، سيحتاج الى جولات طويلة من المفاوضات قد تستغرق في مجملها بضع سنوات. هذا اذا استثنينا قضايا تطبيع العلاقات ومستلزماتها. طبعا مع التمييز بين مسألة التوصل الى اتفاقات (ما) جزئية او شاملة وبين استكمال تطبيق وتنفيذ ما يتفق عليه على ارض الواقع. فقد تتمكن الاطراف المتفاوضة كلها او بعضها من التوصل الى اتفاقات (ما) في غضون شهر او بضعة شهور مثلا ولكن ذلك لا يعني توقف وانتهاء المفاوضات، فالتطبيق والتنفيذ الكلي قد يستغرق بضعة سنوات يتخللها مزيدا من المفاوضات. ولعل تجربة المفاوضات المصرية الاسرائيلية وتطبيق اتفاقات كامب ديفيد نموذجا لذلك. وفي ضوء ذلكه كله لا اظن اننا نستبق الامور ونجازف اذا استخلصنا ان دول وشعوب منطقة الشرق الاوسط سوف تعيش عامها القادم 93 تحت وطأة المفاوضات وتحت وطأة تفاعلاتها وانعكاساتها التي تحملها معها في كل محطة من محطاتها القادمة.
ثالثا – تسويات وليس سلام شامل:
يجري الحديث في بعض الاوسط السياسية الفلسطينية والعربية حول النتيجة النهائية التي يمكن ان تتمخض عن عملية السلام مع افتراض انها سارت بصورة طبيعية ووفق التوقيتات الزمنية المحددة لها. وكثيرا ما يطرح سؤال هل العملية الجارية توصل الى تسويات مؤقتة او دائمة ام انها ستصنع السلام العادل والشامل والدائم بين الاسرائيليين والفلسطينيين والعرب الاخرين. وفي سياق البحث عن الجواب الاكثر موضوعية والارب الى الدقة والصواب يمكن القول ان الوصول الى تسوية شاملة لصراع معقد عمره نصف قرن من لزمن دار حول الوجود والحدود معا امرا شائكا وبالغ الصعوبة والتعقيد، خاصة وان هذا الصراع تخلله حروب ودمار وتهجير، تولد عنه احقاد واشكال متنوعة من الكراهية لا حصر ولا عد لها. وبنيت عليه ثقافات تشربها اكثر من جيل من هذا الطرف او ذاك. فاذا كانت التسوية الشاملة صعبة ومعقدة لهذا الحد، فلا شك ان السلام الحقيقي اصعب واعقد بعشرات المرات. وبلوغه يفرض بالضرورة العبور في العديد من الممرات والتوقف بالضرورة في الكثير من المحطات. وبدراسة موضوعية لاسس الدعوة وللقواعد التي قامت عليها المفاوضات وخاصة في المسار الفلسطيني الاسرائيلي يمكن القول انها توصل الى تسويات شاملة في احسن الاحوال. أما السلام العادل فله قواعده ومرتكزاته التفاوضية مختلفة تماما.
التسوية يمكن فرضها فرضا، كما يمكن الوصول لها بالتراضي عبر تنازلات متبادلة ومساومات متنوعة. كما يمكن التفاوض حولها من اوضاع غير متكافئة، وعلى قواعد واسس مجحفة لاحد الطرفين، كالتي وردت في رسالة الدعوة، وتجري على اساسها المفاوضات في واشنطن. اما السلام الحقيقي الشامل والدائم فلا يمكن ان يقوم الا بعد تصفية كاملة للماضي ومآسيه، وان تتم التصفية من مواقفع متكافئة بين الطرفين. لا يشعر اي منهما بانه مكره على تقديم هذا التنازل او ذاك. او انه مضطر لقبول حل ما لا يلبي حقوقه في حدودها الدنيا عملا بالحكمة القائلة “شيء قليل افضل من لا شيء”.
تعرف القيادة الاسرائيلية، ويعرف الراعي الامريكي ان لفلسطينيين قبلوا الدخول في عملية البحث عن السلام في الشرق الاوسط على اسس غير مرضية لهم، وفي ظروف غير متكافئة مع عدوهم. ولهذا فهم مقتنعون أنهم متوجهون ال تسوية ما. وهي من الان وبعد خمس سنوات لن تكون ملبية لحقوقهم الوطنية حسب قناعتهم. وهم منذ الان لا يخدون احدا، كما لا يخدعون انفسهم. يؤمنون بالسلام العادل ولاشامل والدائم ولكنهم لا يعتقدون ان المفاوضات الجارية باسسها وبالاساليب المتبعة فيها هي التي ستوصل لسلامهم المنشود. يؤمنون انها قد توصل الى تسوية شاملة تفتح نافذة او باب على السلام المنشود. والذي يتطلب جهودا جبارة من الطرفين وصراع قاسي مع الذات ومع الاخرين.
اما بشأن التسوية او التسويات المحتملة كنتيجة للمفاوضات الجارية، فقراءة الاوراق والافكار التي تبادلها الوفود في الجولة السادسة تشير الى ان الوصول الى تسويات جزئية او مرحلية في مسار المفاوضات السورية الاسرائيلية، واللبنانية الاسرائيلية امرا ممكن التحقيق خلال فترة زمنية قصيرة. وربما نشهد مقدماته الاولية والعملية في الجولة القادمة من المفاوضات. فالاوراق السورية والاسرائيلية تؤهل الطرفان للتوصل الى اعلان مباديء الذي تقدم به الوفد السوري في بداية الجولة السادسة يصلح كاساس للبحث والنقاش كما قال ايتمار رابينوفيتش. وبشيء من التدخل المباشر من الراعيين يمكن تحويله من اساس للمفاوضات الى اتفاق مباديء تحكم مسار المفاوضات الاسرائيلية السورية في الشهور وفي الجولات اللاحقة. أما مفاوضات المسار الفلسطيني الاسرائيلي والاردني الاسرائيلي التي بقيت متعثرة على الاول، وشبه متعثرة على الثاني، فيمكن لها ان تشهد في الجولة السابعة بعض (الحلحلة). لا بل تسريع حركتها وتلحيقها بالمستوى الذي بلغته المفاوضات السورية الاسرائيلية، شريطة ان يتخلى المفاوض الاسرائيلي عن مناوراته وتكتيكه الذي سلكه في الجولة الاخيرة من لمفاوضات. وان يعيد النظر في مشروعه للحكم الانتقالي الفلسطيني المؤقت الذي قدمه في الجولة الاخيرة من المفاوضات والذي تفصله مسافة كبيرة عن نتائج المباحثات المصرية الاسرائيلية التي جرت عام 80 – 81 حول الحكم الانتقالي الفلسطيني كما لخصها صول لينوفيتش في تقرير خاص رفعه للرئيس ريغان(30).
واذا كان من غير المنطقي مطالبة رابين بكشف اوراقه دفعة واحدة ووضعها على طاولة المفاوضات فمن غير المعقول وغير المنطقي ان يبدأ رابين بأقل من الذي ورد في قرارات مؤتمر حزب العمل وبأقل مما صرح به شخصيا، واقل مما تم التوصل له قبل أكثر من عشر سنين. ولعل من لمفيد التأكيد على ان محاولة خلق تناقضات وتعارضات فلسطينية-عربية او استثمار اي تقدم على اي من المحاور العربية للضغط على المفاوض الفلسطيني وابتزازه، لا تخدم الهدف الذي من أجله انطلقت المفاوضات، لا بل قد يكون مردوده عكسيا ويولد العديد من ردود الفعل ويخلق بعض الانعكاسات السلبية على مواقف القوى الواقعية وعلى علاقاتها مع جمهورها المؤيد والدائم للسلام وبالمقابل اعتقد أن كل محاولة لاستثمار التقدم الجزئي او الواسع على هذا المحور العربي او ذاك باتجاه احداث تغيير جوهري في اساس العملية سيؤدي الى ضياع مزيد من الوقت الذي يمكن توظيفه في التقدم على المسار الفلسطيني الاسرائيلي وفي التوصل الى اعلان مباديء واتفاقات اولية او كاملة. واعتقد ان الجانب الفلسطيني مطالب بالتعامل مع 30 اكتوبر كموعد للوصول الى اتفاق حول ترتبيات نقل السلطة باعتباره قضية جوهرية لا تقل عن سواها من القضايا الاساسية المطروحة على النقاش. ومن حقه مطالبة الراعي الامريكي ومطالبة الجانب الاسرئيلي الالتزام بهذا التاريخ المثبت في رسالة الدعوة وكتاب التطمينات.
بعد هذا العرض لخصائص وميزات عملية السلام، ولمسيرتها خلال عام، ونتائجها ومستقبلها ارى ان من الضروري التأكيد على ان المصالح العليا للشعوب العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة تفرض التعامل مع مؤتمر السلام باعتباره ساحة من ساحات الصراع، والتعامل مع المفاوضات باعتبارها شكلا من اشكال النضال ليست بديلة اطلاقا للاشكال الاخرى والتي يجب الاستمرار فيها وتطويرها وتصعيدها قدر الامكان خلال وعلى امتداد فترة المفاوضات. فكل ساحات النضال تكمل بعضها البعض، وكل اشكال النضال تساند وتتم وتعزز بعضها البعض. وكلها تعزز وتقوي الموقف التفاوضي الفلسطيني والعربي، وتقوي وتسند الموقف والموقع التفاوضي للوفود العربية في مواجهة المفاوض الاسرائيلي. ولعل تعامل الاطراف العربية مع المفاوضات على قاعدة المثل العربي الشهير “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا” يعطي لعملية السلام موقعها وحجمها الطبيعي في مسيرة النضال القومي والوطني الفلسطيني الطويلة من اجل استرداد الحقوق الوطنية والقومية المستلبة. ومن أجل تقدم مستقبلا افضل للشعوب العربية ومن اجل السلام العالمي. والترجمة العملية لهذا القول المأثور في مجال المفاوضات تعني تحديد الاولويات الفلسطينية والعربية التي ينبغي التركيز عليها في الجولة القادمة من المفاوضات وما سيليها ضمن اطار استراتيجية شاملة مبنية على حسابات دقيقة لموازين القوى في هذه المرحلة، وعلى قراءة متأنية وواقعية للمرحلة الجديدة التي دخلها النظام الدولي.
وتعني أيضا تحضير وتجهيز الاوضاع الذاتية الفلسطينية والعربية، على المستوى الرسمي والشعبي وتوظيفها في خدمة المصالح الاستراتيجية العليا للشعب الفلسطيني والشعوب العربية ومنع تحولها الى منطلق لصراعات داخلية عبثية مدمرة. ولعل التمسك بالديمقراطية كناظم وحيد لهذه العلاقات مهما تباينت الآراء هو الطريق الوحيد القادر على استيعاب الجميع في مسيرة العمل من اجل تقدم وازدهار الاوضاع العربية كافة. ان احترام الرأي والرأي الآخر هو الخطوة الاولى في المسيرة نحو بناء الديمقراطية الحقيقية والتي لا غنى الان ومستقبلا.

تونس 6 /10 /92
ممدوح نوفل
عضو المجلس المركزي الفلسطيني
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية /التجديد/

¹
المصادر

-رسالة الدعوة لمؤتمر مدريد
-رسالة التطمينات الامريكية للطرف الفلسطيني.
-رسالة التطمينات الامريكية لاسرائيل
-رسالة الدعوة الامريكية لجولة واشنطن الاولى.
-مشروع ال P.S.G.A الفلسطيني الاساسي
-مشروع ال I.S.G.A الاسرائيلي.
-مشاريع الأجندة الفلسطينية التي تقدم بها الوفد
-مشاريع الاجندات الاسرائيلية التي تقدم بها الوفد
-مذكرات الوفد الفلسطيني حول الاستيطان
-مذكرات الوفد الفلسطيني حول حقوق الانسان
-المشروع الفلسطيني “اطار اتفاق حول المرحلة الانتقالية”
-مشروع اسرائيلي “تصور حول المرحلة الانتقالية”
-تقرير المبعوث الامريكي “صول لينوفيتش” لمباحثات الحكم الذاتي المصرية-الاسرائيلية
-المذكرة الاسرائيلية المقدمة للوفد السوري.
-مذكرة الوفد السوري المقدمة للوفد الاسرائيلي
-وثائق الدورة العشرين للمجلس الوطني الفلسطيني
-قرارات المجلس المركزي الفلسطيني

ـــــــــــــــــــ
الهوامش :
ـــــــــــــــــــ
(1) نصت رسالة الدعوة على الاهداف النهائية التالية: This process”
offers the promise of ending decqdes of conforntation and conflict
and the hope of a lasting peace (1m/pc,8)”.
اما رسالة التطمينات الامريكي التي قدمت للجانب الفلسطيني فقد نصت على:
Compreshensive, just and lasging peace (LA,1)
(2) تضمنت رسالة الدعوة ورسالة التطمينات التوقيتات التالية:
Negotiations will be conducted in phases *
Direct bilateral negotiations will begin four days after the *
opening of the conference
Those parties who wish to attend multilateral negotiations *
will convence two weeks after the opening of the conference
* These talks will be conducted with the objective of reaching
agreement within one uear.
(3) قبل انعقاد مؤتمر مدريد قام الوزير بيكر بزيارات لدول المنطقة اسفرت تلك الزيارات عن صياغة رسالة دعوة موحدة Invitation لكل الاطراف وتقديم رسائل تطمينات Letters of assuranses امريكية قدمت للوفد الفلسطيني واخرى لاسرائيل وثالثة للاردن ورابعة لسوريا كما تم تحديد موعد بدء مؤتمر السلام ومكانه وميكانيزم العمل في الثنائي والمتعدد.
(4) حاولت الادارة الامريكية التفرد بحل مشكلة الشرق الاوسط وقدمت عدة مبادرات منها مشروع روجرز في كانون اول 69، كامب ديفيد 78 ، مبادرة ريغان في ايلول 82 ، نقاط بيكر الخمس 89 ، وآخرها مبادرة بوش 6 آذار 91.
(5) These parties who wish to attend multilateral negotiations will convene two weeks …. IM/PC3
(6) سيكون المؤتمر برعاية مشتركة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وستكون المجموعة الاوروبية مشاركة في المؤتمر (رتط9). هذه العملية سوف تسير بمسارين من خلال المفاوضات المباشرة بين اسرائيل والدول العربية واسرائيل والفلسطينيين(رتط).
(7) لا يجب أن تعود مدينة القدس منقسمة مرة أخرى ووضعها النهائي يجب ان يتم تحديده في المفاوضات (رتط).
– ولهذا لا نعترف بضم اسرائيل للقدس الشرقية او توسيع حدودها البلدية(رتط).
(8) وهكذا فان الفلسطينيين احرار في المناقشة من أجل اي نتيجة يعتقدون أنها الافضل بالنسبة لتحقيق متطلباتهم وستقبل الولايات المتحدة اي نتيجة يتفق عليها الاطراف وانسجاما مع السياسة الامريكية القائمة منذ زمن بعيد فاننا لا نستثني الكونفدرالية كنتيجة ممكنة للمفاوضات حول الوضع النهائي (رتط).
(9) راجع قرار المجلس الوطني الفلسطيني في 28 /9 /91 وقرار المجلس المركزي في 18/10 /91
(10) القيادة الفلسطينية هيئة غير رسمية تضم عادة في اجتماعاتها الأمناء العامون للفصائل+عددا من أعضاء المكاتب السياسية للفصائل، عددا من أعضاء المجلس المركزي، أعضاء اللجنة التنفيذية. وهي بمثابة “المطبخ السياسي الموسع”.
(11) لجنة متابعة المفاوضات شكلت بقرار من ل.ت تضم عددا من أعضاء ل.ت وعددا من ممثلي الفصائل المشاركة في المفاوضات. مهمتها متابعة كل المسائل المتعلقة بالمفاوضات وبعمل الوفد. وهي همزة الوصل بين اللجنة التنفيذية والوفد المفاوض، وصلاحياتها محصورة في حدود توجيه عمل الوفد وفقا لتوجهات الهيئات القيادية وخاصة توجهات ل.ت.
(12) تم تشكيل لجنة قيادة للمفاوضات الثنائية وأخرى للمتعدد الأطراف. مهمتها التواجد مع الوفود بصورة دائمة وتوجيه عملها في اطار التوجهات المحددة من قبل اللجنة العليا للمفاوضات وهي مرجعيتهما.
(13) راجع رسالة الدعوة الى مؤتمر مدريد.
(14) The Co-sponsors ore committed to making this process sucead
(15) أصدرت ل.ت بيانا بتاريخ 9/3 /29 رحبت فيه بمبادرة الرئيس بوش
(16) اتخذت القيادة الفلسطينية قرارا بالاجماع بالموافقة على لقاء وفد الداخل مع الوزير بيكر.
(17) راجع رسالة الدعوة لمؤتمر مدريد.
(18) راجع رسالة التطمينات الامريكية للجانب الفلسطيني.
(19) راجع مشروع ال PISGA الذي تقدم به الوفد الفلسطيني في يناير 92.
(20) لم تخل جولة من الجولات من مذكرات رسمية قدمها الوفد الفلسطيني للراعي الامريكي حول اما خرق اسرائيل لرسالة الدعوة في قضايا الاستيطان وحقوق الانسان، أو لتوضيح موقفه من قضية ما.
(21) على أبواب الجولة الاولى/واشنطن وجهت الادارة الامريكية رسائل الى كل الاطراف تتضمن اقتراحات محددة بشأن جدول الاعمال وأساليب البحث. وفي حينها احتجت اسرائيل على الرسائل واعتبرتها تدخلا في المفاضات وأخرت سفر وفدها الى واشنطن بضعة أيام.
(22) راجع جريدة الدستور الاردنية 4 /10 /92
(23)في الجولة السادسة تقدم الوفد الفلسطيني بمشروع اجندة جديدة ومشروع اتفاق اطار للمرحلة الانتقالية الا انها لم تناقش.
(24) خلال زيارته لواشنطن طرح رابين جدول زمني محدد حول الاتفاق على المرحلة الانتقالية والانتخابات.
(25) تحت شعار “أرض اسرائيل الواحدة” عقدت الاحزاب والقوى اليمينية المعارضة لأي انسحاب اسرائيل من الجولان او الضفة والقطاع اجتماعا وحدت فيه صفوفها وانتخبت شارون سكرتيرا.
(26) بتاريخ 17 /9 /92 أصدرت عشر منظمات فلسطينية بيانا مشتركا ضد عملية السلام، وشكلت لجنة متابعة دائمة. وذلك اثر اجتماع عقد في دمشق وبعد سلسلة لقاءات عقدت بين وفد ايراني والمنظمات المذكورة. وتفيد المعلومات أنهم اتفقوا على توحيد صفوفهم بتمويل ايراني واسناد سياسي سوري.
(27) يؤكد المجلس ان المساعي لعقد مؤتمر السلام تتطلب مواصلة العمل مع الاطراف الاخرى لتحقيق الاسس التالية:
1) استناد مؤتمر السلام الى القرارين 242 و 338 التي تكفل الانسحاب الاسرائيلي وتحقيق مبدأ الارض مقابل السلام.
2) اعتبار القدس جزءا لا يتجزأ من الاراضي الفلسطينية المحتلة.
3) وقف الاستيطان.
4) حق م.ت.ف في تسمية الوفد من الداخل والخارج بما في ذلك القدس.
5) تنسيق المواقف العربية بما يضمن الحل الشامل.
6) ضمان ترابط مراحل الحل .
“ان المجلس الوطني يكلف ل.ت بالاستمرار في الجهود الجارية لتوفير أفضل الشروط التي تكفل نجاح عملية السلام وفق قرارات المجلس المركزي. على أن ترفع النتائج الى المجلس المركزي لاتخاذ القرار النهائي في ضوء المصلحة الوطنية العليا لشعبنا”. قرارات المجلس – البيان السياسي الختامي.
(28) “التعامل الايجابي مع العملية السياسية من خلال مؤتمر السلام المزمع عقده. ويقرر المشاركة في المؤتمر بوفد فلسطيني-اردني مشترك على اساس مستقل ومتكافيء. والتمسك خلال مجمل العملية السياسية بالاهداف والاسس التي حددها المجلس الوطني الفلسطيني”.
(29) في بيانها المشترك طرحت المنظمات العشرة مطلبين الأول وقف المفاوضات والثاني اجراء استفتاء للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. القيادة الفلسطينية سمعت بالاقتراح من خلال وكالات الانباء. هذا ولم يتقدم أصحاب الاقتراح بأية افكار او آليات تتعلق بالتنفيذ والتحرك من أجله.
(30) في 14 يناير 81 قدم المبعوث الرئاسي الامريكي صول لينوفتيش تقريرا للبيت الابيض لخص فيه مجموع نقاط الاتفاق والخلاف بين الاسرائيليين والمصريين كمحصلة لمناقشات دامت ما يقارب الثلاث سنوات حول الحكم الذاتي الفلسطيني الانتقالي.2