هل ستصل المفاوضات الى اتفاقات جزئية قبل 30 اكتوبر؟

بقلم ممدوح نوفل في 30/07/1992

بتمعن الاجواء السياسية السائدة في صيف هذا العام يمكن المجازفة والقول بأنه سيكون صيفا ملتهبا، وأن المنطقة العربية تقف على مفترق مصيري. أما الانتقال الى مرحلة جديدة تنال شعوبها فيها قسطا من الراحة والاستقرار. أو انزلاق بعضها بصورة حادة الى نار صراعات داخلية مدمرة. ويستطيع كل مراقب لاوضاع الدول العربية أن يرى طبيعة الاستحقاقات، وصعوبة الخيارات التي تنتظرها فرادى أو جماعات.
ولعل أكبر وأعقد هذه الاستحقاقات تلك الناجمة عن التطورات المتوقعة في مسار مفاوضات السلام خلال الاشهر الثلاث القادمة. فهي كبيرة لدرجة أنها قد تطال جميع البلدان العربية المشاركة في مفاوضات مؤتمر السلام وغير المشاركة فيها أيضا.
فالثابت أن عملية السلام دخلت مرحلة نوعية جديدة مع صعود حزب العمل بزعامة رابين الى عربة قطار السلام. حيث بات بمقدور قائد القطار (الامريكي) الانطلاق في السرعة وفقا لرؤياه وحساباته للمسافة التي ينبغي قطعها في كل مرحلة من مراحل المسيرة التفاوضية الطويلة. وتعززت هذه الامكانية بنزول الراكب المشاغب الرئيسي (شامير). فالكل يعرف أن الادارة الامريكية ساهمت بصورة مباشرة وغير مباشرة في اسقاط شامير لانزاله من عربات القطار بعدما (زادت مشاكسته) للسائق، وبلغت حد تعريض القطار للتدهور او التوقف قبل بلوغه محطته الرئيسية الاولى.
وفي ضوء هذا التغيير سارعت الادارة الامريكية الى التحرك بسرعة ليس فقط للترحيب (برابين) بالراكب الجديد بل والاهم لدفع التطورات المحتملة في الاتجاهات التي تخدم رؤياها وأهدافها. ومنع أي طرف كان من دفع الامور في اتجاهات معاكسة. وفي هذا السياق قام الوزير بيكر بزيارة للمنطقة شملت الدول والأطراف الرئيسية المؤثرة في تحديد وجهة وسرعة مفاوضات السلام. ويستطيع كل من تابع مواقف وتصريحات الوزير بيكر مع الوفد الفلسطيني ومع بقية الاطراف أن يستخلص رغبة الادارة الامريكية في تحقيق انجاز ملموس ما، والوصول الى اتفاقات معينة خلال الشهور الثلاثة القادمة. وتحديدا قبل 30 اكتوبر القادم. ولضمان تحقيق هذا الهدف بادر الوزير بيكر الى الاعلان (بدون علم الطليان) عن انعقاد الجولة السادسة من المفاوضات الثنائية في واشنطن. وتحدث صراحة مع أكثر من طرف بضرورة تجهيز الاوضاع الذاتية للوصول الى اتفاقات عملية ملموسة قبل 30 اكتوبر القادم. واتضح من أقواله في أكثر من مكان أن ما يسعى له بيكر وما يطمح في تحقيقه لا يتوقف عند حدود التوصل الى اتفاق ما فلسطيني-اسرائيلي حول المرحلة الانتقالية التزاما بما جاء في رسالة الدعوة لمؤتمر السلام وكتاب التطمينات المقدم للجانب الفلسطيني. بل ويطمح للوصول الى اتفاقات جزئية (ما) على الجبهات العربية الاخرى وخاصة الجبهة السورية والجبهة اللبنانية.
أمام هذا الموقف الامريكي يبرز السؤال الرئيسي التالي: هل بالامكان تحقيق مثل هذه الاتفاقات المعقدة، خلال هذه الفترة القصيرة التي تفصلنا عن 30 اكتوبر القادم ؟؟.
قبل الاجابة على هذا السؤال الجوهري لعل من الضروري تبيان العوامل التي تدفع بالادارة الامريكية للتصميم على تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي. في هذا الاطار يلاحظ دأب معظم المحللين السياسيين على جعل تعزيز وتقوية الأوراق الانتخابية للرئيس بوش سببا وحيدا لهذا التصميم. ان حصر الموضوع بهذه المسألة يلغي كما أعتقد عوامل ودوافع أخرى هامة وذات الشيء أيضا بشأن الموقف القائل أن سقوط بوش والحزب الجمهوري في الانتخابات الامريكية القادمة سيؤدي الى فشل أو شل عملية السلام. فمثل هذا الحديث يسقط من الاعتبار ان الادارة الامريكية تعمل وفقا لاستراتيجية قائمة على تخطيط بعيد المدى، وليس كما تعمل معظم الدول والاحزاب العربية والعديد من البلدان النامية حيث تبني سياساتها كردود فعل على افعال الاخرين، وترسمها (يوم بيوم) ولعام واحد في أحسن الأحوال، ومثل هذا الكلام لا يخلو من الكثير من الامنيات عند من يعارض العملية التفاوضية وينسى او يتناسى ان اتفاقات كامب ديفيد وضعت ابان حكم الحزب الديمقراطي وفي عهد الرئيس كارتر.
لا شك ان نجاح الوزير بيكر في دفع الاطراف نحو الوصول الى اتفاقات قبل 30 اكتوبر يقوي الموقف الانتخابي للرئيس بوش، ولكن لا يجوز التقليل من حرص الادارة الامريكية على بناء “مداميك” جديدة في صرح استراتيجيتها الشرق أوسطية. وأظن ان من الخطأ أيضا اسقاط حرص الادارة الامريكية على الحفاظ على هيبتها وعلى دورها القيادي المقرر في الوضع الدولي الجديد كعامل آخر يدفعها للتصميم على هذا الهدف. فالكل يعرف أن رسالة الدعوة وكتاب التطمينات المقدم للفلسطينيين وللأطراف الأخرى ينص على “أن هدف المفاوضات هو الوصول الى اتفاق حول ترتيبات المرحلة الانتقالية خلال عام من تاريخ بدء المفاوضات”. التي بدأت في 30 اكتبر 91 في مدريد.
فالادارة الامريكية تعرف قبل سواها ان فشلها في الوصول الى اتفاق قبل 30 اكتوبر، يفقدها مصداقيتها ويضعضع مكانتها امام ما يقارب الاربعين دولة تشارك في المفاوضات ، ويعرض العملية ذاتها الى نكسة كبرى تؤثر في مسارها اللاحق.
اما بشأن السؤال المطروح حول امكانية نجاح الادارة الامريكية في دفع الاطراف المعنية مباشرة بالصراع نحو الوصول الى اتفاقات قبل 30 اكتوبر القادم، فيمكن القول أن فرص النجاح متوفرة بنسبة أكبر من فرص الفشل. وفي هذا الاطار يمكن ادراج العديد من العناصر الموصلة لهذا الاستنتاج وأهمها:
1) صحيح أن مسألة الوصول الى اتفاقات ليست مرهونة بالموقف الامريكي فقط وان هناك أطرافا اخرى تؤثر في هذه الوجهة. ولكن الصحيح ايضا ان القوى المعنية بالصراع مباشرة وبالاتفاقات المطلوبة، ليست في وضع يمكنها من التصادم المباشر مع الادارة الامريكية. فالوضع الاسرائيلي الجديد نشأ على أنقاض سلفه الذي تصادم مع الوجهة الامريكية، والذي اصطدم بالانتفاضة وبالسياسة الواقعية الفلسطينية والعربية التي اتبعت في مفاوضات السلام. اما الجانب العربي فبعضه دخل عملية السلام ليتجنب التصادم مع الادارة الامريكية، وبعضه الاخر دخلها على امل ان ينتزع بعضا من حقوقه المغتصبة من خلال تقاطع مصالحه الوطنية مع الاستراتيجية الجديدة للادارة الامريكية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. والى جانب ذلك فلعل من المفيد رؤية وضع هذه الاطراف راهنا داخل العملية السياسية. فالواضح ان الادارة الامريكية قد نجحت حتى الان في خلق ظروف واوضاع يستطيع كل طرف ان يحقق بعضا من اهدافه ويأخذ بعضا من مطالبه سواء بالمقايضة بين الاطراف ذاتها او من جيوب الاخرين، من اوروبيين ويابانيين.
2) وبالتمعن في الوضع الدولي الراهن يمكن القول ان هناك اجماعا دوليا على دعم مسيرة السلام في الشرق الاوسط وحرصا متزايدا على وصول الاطراف الى اتفاقات ملموسة تؤدي الى خلق الظروف الملائمة لشرق اوسط يسوده الامن والاستقرار. ويلاحظ أيضا ان ما يقارب ال 30 دولة اجنبية تشارك في عملية المفاوضات وكلها دون استثناء يعمل بدأب على انجاح التوجهات الامريكية للمفاوضات.
3) ولا أظن ان هناك ادنى شك بقدرة الادارة الامريكية على الضغط على الاطراف المعنية بالوصول الى اتفاقات. فلديها الكثير من الاوراق السياسية والاقتصادية والامنية المؤثرة على اوضاع هذه الاطراف وهي قادرة على استخدامها عند الحاجة وقادرة على توظيف ضغط القوى الدولية الأخرى في اللحظات المناسبة.
4) كما وان هناك التزامات متنوعة وردت في رسالة الدعوة وافقت عليها كل الاطراف، وهي اذا كانت متباينة في تفسير هذه الالتزامات مع بعضها البعض، فانها متفقة بصورة أو بأخرى مع الادراة الامريكية على تفسير معظمها. ولا شك ان بامكان الادارة الامريكية الاعتماد على سوابق جرت في المنطقة، وبامكانها نفض الغبار عن اتفاقات كامب ديفيد وتقرير المبعوث الامريكي الخاص صول لينوفيتش حول نتائج المفاوضات المصرية الاسرائيلية بشان الحكم الذاتي الفلسطيني المؤقت، والزام الاطراف وخاصة اسرائيل بما ورد في تلك الاتفاقات باعتبارها اتفاقات دولية كانت ادارة الرئيس كارتر شاهدا عليها.
بعد هذا العرض لاهداف ومبررات وامكانيات الادارة الامريكية في دفع الاطراف المعنية نحو الوصول الى اتفاقات ملموسة قبل 30 اكتوبر القادم فان المصلحة العربية عامة ومصلحة الفلسطينيين خاصة تفرض التعامل مع الموضوع وفقا للقول المأثور “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”. والترجمة العملية لهذا القول في مجال المفاوضات يتطلب تحديد الاولويات الفلسطينية والعربية التي يجب التركيز عليها في الجولة السادسة من المفاوات وفي اللقاءات مع الادراة الامريكية ومع الاطراف الدولية الاخرى المشاركة في عملية السلام. ويعني ايضا تحضير وتجهيز الاوضاع الذاتية لاستقبال مثل هذه التطورات وتوظيفها في خدمة الاهداف الاستراتيجية الفلسطينية والعربية، ومنع تحولها الى منطلق لصراعات داخلية عبثية مدمرة.