عين على الانتفاضة وعين على مؤتمر السلام

بقلم ممدوح نوفل في 25/05/1992

المشاركة في مؤتمر السلام قدمت الاسناد للانتفاضة
تحاول بعض الاوساط تحميل المشاركة في مؤتمر السلام المسؤولية عن تراجع جماهيرية نضالات الانتفاضة وعن وجود الظواهر السلبية الأخرى، وتنطلق من مقولة ان مؤتمر السلام أحدث انقساما سياسيا واشغل الجماهير عن مقاومة الاحتلال، وخلق في صفوفها اوهاما حول امكانية الوصول الى حلول سريعة للقضية.
وبغض النظر عن الخلفيات والدوافع السياسية لهذه المقولات فهي ولا شك جديرة بالاهتمام. ولا بد من مناقشتها بصورة هادئة وموضوعية، خاصة ونحن بصدد تشخيص اسباب وطرق معالجة الظواهر المرضية التي تعيشها الانتفاضة. وايضا لتبيان طبيعة العلاقة بين الانتفاضة ومؤتمر السلام.
وفي هذا السياق لا أظن أن فلسطينيان يختلفان حول دور الانتفاضة في تكريس المشاركة الفلسطينية في مؤتمر السلام، وفي الزام الباحثين عن حلول لقضايا المنطقة وصنع الاستقرار فيها على التعاطي مع القضية الفلسطينية من بوابتها الفلسطينية وليست اية بوابة اخرى. صحيح ان انتهاء الحرب الباردة ونتائج حرب الخليج شجعت الادارة الامريكية على التقدم لحل قضايا المنطقة لاحكام سيطرتها عليها وتأمين مصالحها فيها لفترة طويلة لاحقة. ولكن الصحيح ايضا ان العالم دخل مرحلته الجديدة ووجد امامه قضية وانتفاضة وليس قضية فقط. وان حرب الخليج انتهت ولم تنته الانتفاضة. ولا مبالغة في القول لولا وجود الانتفاضة لما قبل شامير بوجود مسار فلسطيني اسرائيل في اطار مؤتمر السلام ولما قبل الجلوس وجها لوجه مع وفد فلسطيني. واعتقد ان لا خلاف ايضا حول ان الانتفاضة وعدالة القضية تمثلان مصدر قوة الموقف الفلسطيني. وان الانتفاضة هي قوة الدفع والمحرك الرئيسي لتطوير فعل العامل الذاتي الفلسطيني في كل جبهات الصراع مع العدو ومن ضمنها جبهة المفاوضات.
اما بشأن تأثيرات المشاركة الفلسطينية في مؤتمر السلام على الانتفاضة، فالواضح ان جولات المفاوضات التي تمت حتى الان في الثنائي والمتعدد، وفرت قسطا كبيرا من الحماية السياسية للانتفاضة، وشلت بعضا من قدرات العدو، ورسمت سقفا لبعض الانواع الخطيرة من اعماله الارهابية. وقدمت اسنادا مهما لبعض محاور نضال الانتفاضة. فالاستيطان وقضايا حقوق الانسان باتت قضايا دولية والابعاد الجماعي الواسع مثلا بات شبه مستحيل في ظل المفاوضات، والمحدود منه اصبح قضية كبرى ويجد شامير نفسه مضطرا للتفكير مطولا قبل الاقدام عليه.
صحيح ان المفاوضات لم ترغم القيادة الاسرائيلية حتى الان على وقف صنوف اعمالها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني. ولكن من الجدير بالاهتمام رؤية العرض الناجح والتعريف الخلاق للعالم بقضاياها واهدافها من قبل الوفد الفلسطيني المفاوض. واذا كانت الانتفاضة جعلت من القضية الفلطسينية مسألة دولية تحتاج حلال سريعا، فالمفاوضات جعلت من الانتفاضة قضية دولية تحتاج هي الاخرى الى حل سريع. وأبرزت ان الحل الوحيد الممكن هو تمكين الشعب الفلطسيني من حقه في تقرير المصير وزوال الاحتلال. أما القول بان المشاركة في مؤتمر السلام خلقت الاوهام واشغلت الجماهير، وصنعت انقساما سياسيا في الصف الفلسطيني قد يبدو منطقيا اذا أخذ بصورة مجردة. ولكن منطقيته تتبدد تماما عندما تحمل المشاركة المسؤولية عن الظواهر المرضية. فتراجع جماهيرية الانتفاضة، وظواهر الاعدامات والخطف والقتل والتلثم..الخ لا علاقة لها بانشغال الشعب في العلمية السياسية ولا علاقة لها بالاوهام حول النتائج السريعة للمفاوضات كما لا يجوز تبسيط الامور الى هذا الحد، والتعامل مع الشعب من هذا المنظور التبسيطي لوعيه وادراكه لطبيعة الصراع مع العدو على كل الجبهات ومن ضمنها جبهة مؤتمر السلام و المفاوضات.
ونسب الظواهر المرضية للانقسام السياسي تسديد باتجاه الهدف الخطأ. لا شك ان الانقسام السياسي ترك بصمات سليبة على وضع الانتفاضة وجماهيريتها، ولكن من الضروري التذكير ان الساحة الفلسطينية لم تشهد طيلة فترة الانتفاضة ولا قبلها توافقا سياسيا مطلقا وبيانات اللجنة العليا لشؤون الانتفاضة وبيانات قاوم قبل مؤتمر السلام خير دليل على ذلك. وعلى امتداد النضال الفلسطيني لم يشهد العمل توافقا مطلقا ولا اظن انه سيشهد ذلك. فالتباين والاختلاف امر طبيعي وتعبيرعن حالة صحية وليس العكس. فالخلاف مع حركة حماس قائم منذ الايام الاولى للانتفاضة، ولم يكن الموقف من المشاركة في مؤتمر السلام اول خلاف جوهري يختلف حوله داخل صفوف م.ت.ف خلال فترة الانتفاضة، فقد سبقها خلاف حول الموقف من 242 وحول الموقف من اعلان الاستقلال ومبادرة السلام الفلسطينية. موضوعيا يمكن القول ان الانقسام السياسي اضاف لمشكلات الانتفاضة مشكلات جديدة وكبر بعضها، من نوع توسيع حرب الشعارات الجدارية، والتعبئة السياسية غير الوحدوية. فقد وقع الخلاف السياسي حول المشاركة في عملية السلام وظواهر الهيمنة الفصائلية والتنافس الفئوي موجودة فأججها، وقدم لها مادة اضافية للتناحر التنظيمي والسياسي على ملعب الانتفاضة وامام جمهورها. ولو لم تكن هذه الظواهر المرضية قد استفحلت قبل وقوع الخلاف حول مؤتمر السلام لكانت نتائجه محدود جدا. ويمكن القول ان نتائج الانقسام السياسي لم يكن قدرا ان تكون مؤثرة لو ان الفصائل التزمت باصول العلاقات الديمقراطية وحافظت على العمل بشعار الانتفاضة (لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة). ولو انها استطاعت التوفيق بين حقها في الاختلاف وفي التعبير عن مواقفها وبين واجبها اتجاه الانتفاضة واتجاه الوحدة الوطنية واتجاه الحفاظ على المكانة السياسية والتمثيلية للمنظمة وتعزيزها في صفوف الشعب. ولعل الموقف الوطني والمسؤول الذي طرحه الرفاق في قيادة الشعبية في المجلس المركزي، يشكل بداية تساعد جميع القوى على تصحيح علاقاتهم في اطار الانتفاضة، والانطلاق بروحية جديدة تحد من الهيمنة الفصائلية، وتجنب الانتفاضة كل آثار ونتائج الانقسام السياسي. حيث اكدوا مسؤولية الجميع عن وجود الظواهر المرضية واكدوا واجب جميع الفصائل معالجتها بتعزيز الوحدة الوطنية في اطار الانتفاضة ودمقرطة العلاقة مع الجماهير. ان القاء مسؤولية خلق الظواهر المرضية، وانحسار جماهيرية الفعاليات النضالية للانتفاضة على كاهل المشاركة في مؤتمر السلام لا يخدم البحث الجاد والمسؤول من اجل التوصل الى معالجة موحدة. بل يضيع المسؤولية ويقطع الطريق أمام الحلول الجريئة المطلوبة.
وفي هذا السياق لعل من المفيد اعطاء قرارات المجلس المركزي روحها العملية. لقد حدد المجلس موقع كل من الانتفاضة ومؤتمر السلام في حركة نضال الشعب الفلطسيني في هذه المرحلة. وأكد انهما ساحتان من ساحات نضال شعبنا ولم يعتبر أيا منهما بديلة للاخرى، وان بالامكان توظيف حصيلة العمل في كل منهما في خدمة الاخرى. ولم يلزم أحدا على دخول الاثنتين معا. ان ترجمة هذا المفهوم يفرض بالضرورة على المعارضين وغير المشاركين في مؤتمر السلام ان يركزوا كل جهودهم وطاقاتهم في الانتفاضة جنبا الى جنب مع المشاركين في عملية السلام، وأن يبقوا مواكبين في ذات الوقت لكل ما يجري على محور عملية السلام. وان يمثلوا الرقيب الوطني المسؤول على سير المفاوضات وعلى مدى التزام المشاركين فيها بقرارات المؤسسات التشريعية الفلسطينية، ويقرعوا جرس الخطر عندما يشعروا ان مسار المفاوضات بدأ يتعاكس مع مسار ومصالح الانتفاضة ومع المصلحة الوطنية العليا وقرارات المؤسسات التشريعية بشأنها. وان يحرصوا في الوقت ذاته على الوضع الاعتباري للوفد وعلى عدم دفع مسار الانتفاضة في اتجاه متعاكس مع متطلبات النضال على جبهة المفاوضات.
ويفرض بالمقابل على المشاركين في عملية السلام أن يوفقوا في الجهد الداخلي والعملي المبذول بين مهام النضال على جبهة الانتفاضة ومهام النضال على محور المفاوضات. وان ينظموا توزيع امكاناتهم وطاقاتهم الفكرية والتنظيمية والنضالية بين الجبهتين، مع اعطاء الاولوية لتأمين متطلبات الانتفاضة ومتطلبات تخليصها من الظواهر المرضية التي باتت تعيق تطورها وتحد من قدرتها على ارغام اسرائيل بدفع ثمنا غاليا مقابل استمرار احتلالها للاراضي الفلسطينية. وتحد من قدرتها ايضا على تقديم دعما اقوى واسنادا افعل للمفاوض الفلسطيني داخل وخارج المفاوضات. ان تنظيم الجهد الفلسطيني في هذه المرحلة الدقيقة من النضال يفرض على الجميع يقظة كاملة وعملا منسقا وموحدا على كل جبهات ومحاور الصراع مع العدو. بحيث تبقى عين على الانتفاضة وعين على مؤتمر السلام.

تونس