اجماع فلسطيني حول تشخيص الظواهر السلبية

بقلم ممدوح نوفل في 23/05/1992

عندما وقع التباين حول المشاركة في عملية السلام، لم يكن هناك اي خلاف بين المعارضين والمؤيدين لها حول الموقف من الانتفاضة وحول دورها وموقعها في مواجهة الاحتلال.
والمراجع لقرارات المجلسين المركزي والوطني في اكتوبر 91 يجد فيهما قرارين واضحين، مترابطين. الأول ينص على ضرورة حماية الانتفاضة وضمان تواصلها وتطوير فعاليتها النضالية. والثاني ينص على التعاطي الايجابي مع عملية السلام والمشاركة في مؤتمر السلام مع التمسك بالاهداف.
وفي دورته التي عقدها قبل اسابيع قليلة، كرر المجلس المركزي مضمون وجوهر ذات القرارين. وأكدت كل القوى بختلف اتجاهاتها السياسية ان الانتفاضة هي السلاح الافعل في مواجهة الاحتلال، وانها احد المرتكزات الاساسية لاحداث التعديل في ميزان القوى والذي يعمل له كلا الاتجاهين. واجمع ممثليهما في لجنة الصياغة على ان الظواهر السلبية التي كانت تعانيها الانتفاضة لم تتوقف، واجمعوا على واتساع نطاقها وانها باتت عاملا معيقا لتطورها، وخطرا جديا يهدد قدرتها على الاستمرار في المسار الذي حددته لذاتها عند انطلاقها. وتهدد ايضا قدرتها على الاحتفاظ بذات القوى الشعبية العريضة التي انخرطت فيها خلال مسير ال 54 شهرا التي قطعتها.
وانطلاقا من هذه الرؤيا الموحدة أجمعوا على ضرورة صدور قرار خاص بالانتفاضة يعالج مشكلاتها والمشكلات المعيشية التي يعانيها شعب الانتفاضة. وعند التصويت نال القرار الخاص بالانتفاضة اجماع اصوات الحاضرين.
ان سرد هذه اللوحة لمواقف المؤسسات التشريعية ومواقف القوى ضروري كما اعتقد لتثبيت الارضية السياسية للاجابة على الاسئلة الجوهرية المطروحة منها: اذا كان هذا هو تشخيص القوى لخطر الظواهر السلبية، وهذه هيي مواقفها فمن المسؤول عن وجود هذه الامراض وعن تواصلها؟. ومن المسؤول عن تراجع جماهيرية الانتفاضة؟ وتراجع فعاليتها الكفاحية في مواجهة الاحتلال؟ هل الاحتلال هو المسؤول؟ أم الشعب؟ أم المشاركة في عملية السلام؟. ثم هل هناك حل وعلاج؟ وما هو الحل؟ ومن اين يبدأ العلاج.
الاجابة المسؤولة على هذه الاسئلة الصريحة يحتاج الى قراءة دقيقة لاوضاع الانتفاضة، وتشخيص موضوعي للظواهر السلبية العالقة بجسمها. وان يتم ذلك بعيدا عن التبسيط والتصغير وعدم اخفاء الاوساخ تحت سرير النوم. ودون مبالغة أو جلد للذات بصورة مفتعلة. وهذا ما سأحاول القيام به في هذه المقالة وفي ثلاث حلقات.
تجمع القوى الفلسطينية على ان الانتفاضة تعاني من ظاهرة انحسار وتراجع نسبة المشاركة الشعبية في الانتفاضة. وهذه الظاهرة يرد تأكيدها في كل ما يكتب من داخل الارض المحتلة حول الانتفاضة وفي الاخبار التي يتناقلها المراسلون ووكالات الانباء بمختلف ميولهم واهوائهم السياسية. صحيح ان هناك ظواهر سلبية اخرى تعيش داخل وعلى ضفاف جسم الانتفاضة، ولكن الواضح ان هذه الظاهرة هي اخطرها على الاطلاق، وهي نتيجة وسبب في الوقت ذاته للعديد من الظواهر المرضية الاخرى. واظن انها تمثل الحلقة المركزية التي يجب الانطلاق منها في معالجة اوضاع الانتفاضة.
فالحديث عن تصعيد الانتفاضة قبل تخليصها من السلبيات التي تعانيها، يبقى حديثا شعاريا لا يسمن ولا يغني عن جوع، وهو كمن يطالب مريضا منهك القوى بالفوز في سباق للجري السريع مثلا. فالمهمة المباشرة هي وقف التراجع ووقف التآكل في بنية الانتفاضة تمهيدا للانطلاق نحو التصعيد والتفعيل. فانحسار المشاركة الجماهيرية يفرز بصورة اتوماتيكية انحسارا في حجم وفي نوع الفعاليات النضالية ويؤدي تلقائيا الى تآكل في البنيان التنظيمي وتحويل الانتفاضة من حركة جماهيرية واسعة يصعب على الاحتلال مواجهتها واجهاضها الى حركة نخبة، طليعة، مقدامة لكنها قليلة العدد يسهل تطويقها ومحاصرتها واصطيادها. وفي سياق البحث عن علاج هذه الظاهرة يواجهنا السؤال التالي: لماذا هذا الانحسار والتراجع في جماهيرية الانتفاضة؟؟ هل تعبت الجماهير وانهكت خلال ال 54 شهرا؟ أم انها قامت بواجبها، بايصال ممثليها الى مؤتمر السلام؟ والحل على الابواب؟ ام ان العلة في أسباب أخرى.
العلة في الهيمنة الفصائلية والصراعات الفئوية:
لا شك ان العوامل الموضوعية من نوع الفترة الزمنية الطويلة، وتصاعد الاعمال الوحشية للاحتلال، والاوضاع الاقتصادية والمعيشية البالغة الصعوبة لها أثرها في نشوء وتطور ظاهرة تراجع حجم المشاركة الشعبية في الانتفاضة. ولا أحد ينكر أن 54 شهرا من النضال المتنوع، الدامي والمتواصل، يرهق الجسد ويوتر الاعصاب، ويضعف وتيرة وقوة الفعل المقاوم للاحتلال. ومن غير الموضوعي تجاهل آثار اعتقال وجرح واستشهاد وتشويه عشرات الالاف من المناضلين على المشاركة الشعبية، فخروج هذه الاعداد الهائلة من الشارع يضعف العزيمة ويفقد الانتفاضة قوة فعالة، خاصة وأن هذه الاعداد كوادر ذات خبرات وتجارب غنية. صحيح ان انتقالها الى سجون الاحتلال لا يعني خروجها من الانتفاضة، بل نقل فعلها من الشارع الى المواقع الاخرى، ولكن نوعية وحجم هذا الفعل الهام يسهل على العدو محاصرته وحصر نتائجه الى أضيق الحدود.
كما لا يمكن انكار أثر حالة شبه المجاعة التي تعيشها قطاعات واسعة من شعب الانتفاضة منذ شهور طويلة. والتي تفاقمت أكثر فأكثر منذ حرب الخليج وحتى الان، وبعدما تلاشى الدعم العربي للمنظمة والانتفاضة فهذا الوضع يدفع بقطاعات واسعة من الشعب نحو الغرق الذهني والزمني في البحث عن سبل تأمين لقمة العيش.
ولكن اذا من الخطأ تجاهل تأثيرات العوامل الموضوعية في تراجع حجم المشاركة الجماهيرية في الانتفاضة، فأعتقد أن ظواهر الاعدمات، والاعتقالات الكيفية، والتلثم في وجه الجماهير، وطغيان العسكرة على نشاطات الانتفاضة، وحرب الشعارات الجدارية، وصراع الفصائل بعضها مع بعض، وهيمنتها بالتوافق او بعد احتراب على أطر ومؤسسات الانتفاضة، وغياب فعل القيادة الوطنية عن الحضور في الشارع الا عند المناسبات وخاصة مناسبة اصدار البيان او المرسوم الدوري، والذي بات في كثير من الاحيان لا يعالج المشكلات الحقيقية للشعب، واذا تناولها فأداة التنفيذ اما غائبة او عاجزة عن التنفيذ..الخ يضاف لها عددا من المسلكيات الخاطئة. فهذه كلها مجتمعة ومنفردة كافية لتنفير قطاعات واسعة من الشعب وابعادها عن الانخراط في هياكل وأطر الانتفاضة.
وبتفحص هذه الظواهر المرضية يتبين أن لاعلاقة للعوامل والظروف الموضوعية بها من قريب أو بعيد، وانها نتاج تطور نوعي وقع في علاقة فصائل المقاومة بالانتفاضة في العام الثاني من عمرها. حيث هيمنة الفصائل على أطر الانتفاضة ومؤسساتها. ومنذ ذلك الوقت بدأت الفصائل في العمل على استيعاب الانتفاضة في اطار أثوابها الضيقة بدلا من دخولها في جسم الانتفاضة الواسع والفضفاض. وراحت تكيف الانتفاضة لقوانين علاقاتها الداخلية، وعلاقات بعضها مع البعض الاخر. ان هيمنة الفصائل الاربعة على اطر ومؤسسات الانتفاضة، كان بمثابة الدعوة للجماهير للانتظام في صفوف هذه الفصائل، والانضباط لسلطتها، التي لم تأت في سياق عملية ديمقراطية. وترافقت الهيمنة بتنافس التنظيمات وتسابقها على ابراز الذات الحزبية فتحولت الجدران الى لوحات دعاوية لهذا التنظيم او ذاك، وأحيانا مضادة للآخرين، وأخضع بيان قاوم قسرا لمساومات بين مواقف الفصائل من هذه القضية او تلك، بدلا من التقاط المزاج الجماهيري ودرجة الاستعداد النضالي، ومدى خدمة هذا الموقف لصالح الشعب. مما أدى الى قتل المبادرات الشعبية الخلاقة ونشوء هوة واسعة بين القيادة الوطنية الموحدة وبين الجمهور العريض. وبدلا من تدارك هذا الخلل راحت الفصائل تعمل باتجاه استخدام سلطاتها لتنفيذ مواقفها الخاصة او القاسم المشترك بينها. وبشكل تدريجي تحولت من قيادة شعبية الى سلطة لا تختلف في الجوهر عن السلطات الحاكمة الا بقلة النظام وغياب القانون الموحد العام، وتخلف أداة التنفيذ وأساليب التطبيق. مما أدى الى ازدهار التلثم في وجه الجماهير، والتحقيقات والاعدامات الكيفية للمشبوهين “والعملاء”. وفي سياق خلق أداة السلطة القوية، والتنافس الفصائلي نمت ظاهرة الاستعراضات المسلحة وغير المسلحة، بمناسبة وبدون مناسبة، وبهذا تم تدريجيا عسكرة نشاطات الانتفاضة ومعها بدأت الجماهير بالتراجع وراحت تخلي تدريجيا ميدان الصدام الاول مع الاحتلال (الشارع) لصالح المسلحين والملثمين والمطاردين والفرق الضاربة، واحتفظت لنفسها بدور المتفرج من شرفات المنازل وأسطحها على بطولات ابنائها، وتتابع عن كثب نتائج كل صدام.
بعد تسليط الاضواء على السلبيات في واقع الانتفاضة، لا بد من القول يخطيء من يعتقد أن الانتفاضة في طريقها الى الزوال، فهذا ليس خطرا داهما، لأن الانتفاضة تحمل في طياتها مقومات تواصلها وهي لن تتوقف الا بعد تحقيق كل او بعضا من اهدافها السياسية الاساسية. الخطر هو أن تصبح الفصائل (وليس م.ت.ف كاطار) في واد والشعب في واد آخر. وأن تحمل الفصائل الظروف الموضوعية ومؤتمر السلام مسؤولية أخطاء لم ترتكبها، بدلا من مواجهة الذات ومن الالتزام “بلا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة”.