آفاق الجولة الخامسة من المفاوضات

بقلم ممدوح نوفل في 25/03/1992

بعد تعذر الوصول الى اتفاق حول المكان والزمان، تقدمت الادارة الامريكية باقتراح لحل الاشكال، وبات شبه مؤكد ان تعقد الجولة الخامسة من المفاوضات الثنائية مرة اخرى في واشنطن في الاسبوع الاخير من الشهر الجاري.
ومن الان وحتى ذلك التاريخ، لا ندري ما هي المفاجأة التي يخبئيها شامير على ابواب هذه الجولة للوفد الفلسطيني والوفود العربية الاخرى. كل ما نتوقعه وتعودنا عليه هو ان القيادة الاسرائيلية لم تترك اي من الجولات السابقة تمر دون محاولة استفزاز وتعكير مزاج الوفد الفلسطيني والقيادة الموجهة لعمله. فالكل يتذكر افتعال تأخر الوفد الاسرائيلي عن موعد الجولة الاولى في واشنطن ومحاولة ابعاد مجموعة من المناضلين على ابواب الجولة الثانية، وتعمد تصعيد حدة التوتر في الجنوب اللبناني واغتيال الشيخ عباس الموسوي زعيم حزب الله اللبناني، واعادة واعتقال عضوين من القاطرة الداعمة التي رافقت الوفد الفلسطيني في الجولة الثالثة.
ولهذا فاننا نعتقد أن لا الوفد الفلسطيني ولا الوفود العربية الاخرى تفاجأ بأية استفزازات سمجة قد تقوم بها القيادة الاسرائيلية خلال الاسابيع الثلاث القادمة. فالكل يعرف أن هذه الاستفزازات ليست سوى جزء من حرب نفسية مدروسة، ومحاولات مكشوفة هدفها التأثير على الوضع المعنوي للمفاوض الفلسطيني والعربي، ودفعهم فرادى او جماعات الى مواقف انفعالية.

لا شك أن شامير يفكر جديا على ابواب الجولة الخامسة من المفاوضات في كيفية تخريب عملية السلام ليس فقط للرد المباشر على الموقف الامريكي من مسالة ربط ضمانات القروض بوقف الاستيطان، بل وللخلاص اذا امكن من مؤتمر السلام باعتباره اساس البلية، والذي سبب له هذه المشكلة بابعاده الثلاث وعلى ابواب الانتخابات. فهي من جهة تمثل ازمة جدية في العلاقة الامريكية الاسرائيلية (الحليف الاستراتيجي)، والخضوع للشروط الامريكية بوقف الاستيطان يعني من جهة ثانية التخلي عن ركن اساسي من اركان عقيدة الليكود، ويعرف شامير ان التخلي عن هذا الركن (الاستيطان) يضعضع وحدة تكتله المتضعضع اصلا، والاخطر من ذلك أنه يمهد لانهاء الموجود من المستوطنات ورحيل المستوطنين المقيمين فيها الان، والى الانسحاب من الضفة والقطاع حسب تعبيرهم. اما الوجه الثالث فيتمثل في عدم الحصول على المال المطلوب والضروري لاستيعاب المهاجريم ولتدعيم الاقتصاد الاسرائيلي. ولعلنا لا نسيء التقدير اذا قلنا ان شامير الحريص علان على تطبيق المثل القائل “الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح” حريص في الوقت ذاته، وبشكل ادق على ان لا يتحمل المسؤولية بشكل مكشوف عن افشال مؤترم السلام في شقيه الثنائي والمتعدد الاطراف، تجنبا للمضاعفات السلبية الداخلية والخارجية ويعتقد ان لديه الكثير من الاوراق التي يمكنه استخدامها، خارج وداخل غرف المفاوضات لتعطيل تقدم عملية السلام من خلال محاولة فركشة الجولة الخامسة من المفاوضات الثنائية ومحاولة فركشة اجتماعات لجان المؤتمر المتعدد الاطراف. ولعل عجزه عن الدخول في مواجهة مباشرة مع الادارة الامريكية يدفعه لأن يبني رهانه الاساسي على ورقة الضغط على المفاوض الفلسطيني والعربي لايصاله الى حالة من اليأس والقرف من المفاوضات، ودفعه بالتالي نحو اخذ المبادرة بمقاطعة الجولة الخامسة مثلا او مقاطعة اعمال لجان المتعدد الاطراف التي تقرر عقدها في شهر أيار القادم، ويتمنى شامير ان تصل ردة الفعل الفلسطيني الى مستوى الانسحاب النهائي من المفاوضات.

واذا كانت مجريات الصراع قبل وخلال كل جولة من الجولات السابقة قد اكدت ان وعي الوفوع العربية لهذا النمط من المناورات والتكتيكات الاسرائيلية مكنها ليس فقط من احباطها بل واستغلالها في اضعاف الموقف التفاوضي الاسرائيلي، فاننا نعتقد ان انكشاف نوايا شامير التخريبية للجولة القادمة سوف تمكن الوفود العربية بالاستناد الى خبرتها المتراكمة من استثمار المأزق الحرج الذي يجتازه المفاوض الاسرائيلي الان، بسبب اقتراب موعد الانتخابات الاسرائيلية او بسبب الاشتباك الاسرائيلي-الامريكي المحدود الجاري حول ضمانات القروض وحول تسريب اسرائيل وبيعها للتكنولوجيا المتطورة.

نحو هجوم في الموقف التفاوضي:
وفي هذا السياق فاننا نعتقد أن المصحلة الفلسطينية والعربية تتطلب من الاجتماع الرباعي العربي (سوريا، لبنان، الاردن، م.ت.ف) المنوي عقده في لبنان على مستوى وزراء الخارجية في مطلع نيسان، ان يقرر تعزيز التنسيق بين الوفود الاربعة في اطار تنسيق عربي اشمل واوسع على قاعدة المشاركة في اعمال لجان المؤتمر المتعدد الاطراف، والذهاب الى الجولة الخامسة من المفاوضات الثنائية بمواقف قادرة على كسب الرأي العام العالمي وتوسيع جبهة الاصدقاء والمتفهمين لعدالة القضية الفلسطينية وعدالة القضايا العربية الاخرى، وهي مناسبة لتأكيد واظهار الحرص الفلسطيني والعربي على تواصل المفاوضات ونجاح عملية السلام. فبمثل هذه المواقف الايجابية يمكن للوفود العربية مراكمة رصيد دولي يعزز مواقفها في الجولات القادمة من المفاوضات آخذين بعين الاعتبار المتغيرات الدولية، والميل المتنامي نحو صنع سلام عادل ودائم وشامل في منطقة الشرق الاوسط، ونحو تعزيز احترام قرارات الشرعية الدولية.

ونظن ان تواصل المواقف الايجابية والواقعية الفلسطينية والعربية هي التي تجعل من قضية السلام ورقة اساسية في الانتخابات الاسرائيلية القادمة وهي التي بامكانها تعزيز مواقع الاتجاهات الواقعية الاسرائيلية، وتلك الاقل عدوانية اتجاه عملية السلام. ونعتقد ان من الخطأ ان يتصور الجانب الفلسطيني او العربي ان تعليقه أو تطرفه في المفاوضات او تدخله المباشر في الانتخابات الاسرائيلية يضعف مواقع القوى الاسرائيلية المتطرفة. فالتدخل العربي المباشر قد يستفز الناخب الاسرائيلي ويدفعه الى اتخاذ مواقف معاكسة لرغبات وامنيات اعداؤه العرب. كما ومن المفيد التذكير بان انطلاق عملية السلام كان بمثابة رافعة قوية لحركة قوى السلام الاسرائيلية، وان تضعضع الاوضاع الداخلية لتكتل الليكود بدأ مع بداية المفاوضات وتعمق أكثر فأكثر عندما اضطر المفاوض الاسرائيلي الى التعاطي مع متطلبات المفاوضات وفقا لما ورد في أسس الدعوة لها.
واذا كان من المهم عدم الوقوع في اوهام حول ما يمكن تحقيقه في المفاوضات من الان وحتى الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية، فلعل الاكثر اهمية هو عدم بناء اية احلام او اوهام حول نتائج الانتخابات الاسرائيلية بغض النظر عمن سيفوز فيها.
ونعتقد أن مأزق القيادة الاسرائيلية واقتراب موعد الانتخابات الاسرائيلية هي فرصة توجب البحث عن أفضل المواقف التكتيكية الفلسطينية والعربية لاستثمارها في خدمة المواقف التفاوضية في الجولة القادمة او الجولات اللاحقة لها، ولعل الحرص على المشاركة في الجولة الخامسة وفي اعمال لجان المتعدد الاطراف، ودخول الوفود العربية الى هذه اللقاءات بنفس تفاوضي ايجابي وهجومي هو الاسلوب الافضل والاقدر على تعزيز النضال من اجل انتزاع الحقوق الوطنية الفلسطينية والعربية العادلة والمشروعة.
وفي هذا السياق وتمهيدا للجولة الخامسة من المفاوضات الثنائية فاننا نعتقد ان الوفد الفلسطيني مطالب بتهيئة اوضاعه الذاتية للدخول في مناقشة القضايا الجوهرية، وعدم تمكين المفاوض الاسرائيلي الهروب من ذلك أو اغراق المفاوضات مرة اخرى في قضايا اجرائية خاصة بعد ان قدم الوفدان الفلسطيني والاسرائيلي كل الاوراق الاساسية المتعلقة بالمرحلة الانتقالية وبناء سلطة الحكم الذاتي الانتقالي. ان دخول الوفد الفلسطيني في مناقشة جادة لقضايا المرحلة الانتقالية هو الذي يؤسس ارضية تفاوضية ثابتة تلزم المفاوض الاسرائيلي على مواصلة التفاوض بشأنها في الجولات اللاحقة بغض النظر عن نتائج الانتخابات الاسرائيلية ومن يفوز فيها، وبمثل هذا الموقف يمكن قطع الطريق على كل من سيحاول استغلال الانتقادات الامريكية غير المحقة والمنحازة التي وجهت في تصريحات رسمية وعلنية للموقف الفلسطيني في نهاية الجولة الثالثة من مفاوضات واشنطن.
ولعل من البديهي القول أن الدخول في مناقشة ترتيبات نقل السلطة خلال المرحلة الانتقالية وفقا لما ورد في صيغة الدعوة لمؤتمر السلام، لا تعني اغفال او اهمال موضوع وقف الاستيطان، بل تعني مواصلة بحثه وطرحه ولكن من مداخل اخرى كثيرة متوفرة في القضايا المتعلقة بسلطات الحكم الذاتي الانتقالي.
ولعل من الضروري التفكير عند رسم تكتيك التفاوض الفلسطيني للجولة الخامسة في كيفية ابقاء الخلاف الامريكي الاسرائيلي حول مسألة ضمانات القروض والاستيطان طافيا على سطح بحر المفاوضات، والتعامل مع هذا الخلاف باعتباره خلاف حقيقي يمكن استثماره في المرحلة الاولى من المعركة الفلسطينية الطويلة ضد الاستيطان.
وفي اطار التحضير للجولة الخامسة من المفاوضات نعتقد أن من المفيد الشروع فورا في شن حملة سياسية واعلامية وديبلوماسية حول حق ابناء الشعب الفلسطيني في اجراء انتخابات حرة ونزيهة لاختيار ممثليهم في اعلى سلطة تشريعية وتنفيذية للحكم الذاتي الانتقالي. لا شك أن مبادرة الوفد الفلسطيني وتقديمه في الجولة الثالثة مشروعا متكاملا حول الانتخابات لم يكن مناورة تكتيكية آنية بل تعبير عن الطموح المشروع للشعب الفلسطيني في بناء سلطته الذاتية الانتقالية بصورة ديمقراطية، ونظن أن طرح هذا المطلب الفلسطيني المحق قبل وخلال المفاوضات قادر على حشد تأييد دولي حوله، وقد يساهم في حشر المفاوض الاسرائيلي واظهار زيف ادعاءات القيادة الاسرائيلية وتبجحها بالديمقراطية. وقد يؤدي في حال ابرازه وتسليط الاضواء عليه الى زج اسرائيل في صراعات مع العديد من القوى الدولية المؤمنة حقا بالديمقراطية.
وبالتدقيق في القضايا الكبرى المطروحة على أكتاف قيادة وأعضاء الوفد الفلسطيني في هذه الجولة من المفاوضات، يتبين لنا حجم التقصير الذي يمكن أن يرتكب في حاله تركه وحده يخوض الصراع من اجل انتصارها، بالاستناد فقط الى قواه الذاتية وخبراته وطاقاته التفاوضية. لا شك ان ميادين خوض معركة وقف الاستيطان، وتكريس الحق الفلسطيني في الانتخابات، وفرض المفهوم الفلسطيني لحكم الذات الانتقالي كثيرة ومتنوعة ومن الخطأ حصرها بما يمكن تحقيقه فوق طاولة المفاوضات، وكسبها يتطلب كما نتصور تعبئة وحشد كل الطاقات والخبرات الفكرية والسياسية والنضالية خلف الوفد المفاوض. وفي هذا السياق فانن انعتقد ان تعزيز وتصليب الوحدة الوطنية الفلسطينية وحدة كل قوى الشعب وارسائها على اسس ديمقراطية صحيحة، تنظم العلاقة بين القيادة والمعارضة مسألة في غاية الاهمية في هذا الوقت بالذات من اجل تهيئة افضل الظروف الوطنية امام الوفد الفلسطيني، وتمكينه من الدخول الى قاعة المفاوضات مدعوما بموقف وطني موحد. هذا الى جانب ضروراتها لتهيئة الاوضاع الفلسطينية لمواجهة موجة القمع والارهاب الشرسة التي يتوقع ان يتعرض لها شعبنا في الشهور الثلاث القادمة، شهور حمى المزاودات الانتخابية الاسرائيلية. وعلنا لا نخطيء التقدير اذا قلنا ان الديمقراطية التي شرعت الخلاف السياسي حول مؤتمر السلام لم تعفي احدا من المسؤولية الوطنية اتجاه تعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني في مواجهة المواقف الاسرائيلي. ونظن أن النضال من أحل احداث تعديل جدي في ميزان القوى مع الاعداء مهمة كبرى تستحق أن تتوحد حولها كل القوى الوطنية الفلسطينية. ومما لا شك فيه ان حماية الانتفاضة، وتفعيل حركتها النضالية في مواجهة الاحتلال هي الطريق الموصل لهذا الهدف، وهي في الوقت ذاته القوة الكبيرة التي يمكنها تقديم اقوى واهم اسناد للوفد الفلسطيني والوفود العربية الاخرى في جولة المفاوضات الخامسة وما سوف يليها من جولات صراع لاحقة.

تونس