عودة ابو مازن عن الاستقالة ومنحه فرصة ضرورة وطنية (2 من 2)

بقلم ممدوح نوفل في 21/07/2003

وانهم يعملون بكل السبل على ابتزاز ابو مازن ووزرائه، ويتعمدون احراجهم واضعافهم في كل المستويات. وبينت اللقاءات السياسية والامنية الكثيرة التي عقدت بين الفلسطينيين والاسرائيليين ان شارون واركانه يرفضون الالتزام بوقف الاغتيالات والاعتقالات والمداهمات، وتفاعلهم الايجابي مع الهدنة ملغوم باكثر من حزام ناسف يأمل مهندسو السياسة الاسرائيلية استخدامها في تقطيع الوقت حتى انشغال اهل البيت الابيض بالانتخابات، وفي تدمير العلاقة الجديدة التي نشأت بين ابو مازن والرئيس بوش ومعاونيه. وتفجير صراعات فلسطينية داخلية ودفع بعض القوى لتفجير الهدنة ونسف مقومات تنفيذ “خريطة الطريق”.

في هذا السياق اصر شارون واركانه على ان يتم انسحاب الجيش الاسرائيلي من مدينة بيت لحم ومن شمال قطاع غزة وبيت حانون وبيت لاهيا ومن طريق صلاح الدين الواصل شمال القطاع بجنوبه وفق رؤية اسرائيلية محضة، ورفضوا اخذ المصالح الفلسطينية ووضع ابو مازن وحكومته بالاعتبار. وفي المفاوضات مع دحلان رفض موفاز واركان الجيش الاسرائيلي الالتزام بجدول زمني للانسحاب الكامل من الضفة والقطاع الى حدود 28 ايلول (سبتمبر) ورفضوا الالتزام بعدم العودة لاحتلال المناطق التي يتم الانسحاب منها. وابتدعوا اساساً جديداً خطيراً للتعامل مع المستوطنات وطرق وصولها يقوم على اعتبار المستوطنة هي القاعدة الثابتة والوجود الفلسطيني هو الاستثناء الشاذ. وتم معالجة اشكالية المرور في مثلث مستوطنة نتساريم ومفرق مستوطنة كفار داروم بشق طرق التفافية للفلسطينيين. وظلت الحواجز في الضفة الغربية على حالها وصعد بعضها اجراءات العنصرية ضد المواطنين. اقتحمت القوات الاسرائيلية مدن قلقيلية وقباطية وجنين وبلدات كثيرة واعتقلت عشرات الكوادر واعضاء التنظيمات واغتالت بعضهم.

ولقي قبول حكومة ابو مازن على مضض هذا الترتيب الاسرائيلي استنكاراً فلسطينيين في حزب السلطة والمعارضة. وتساءل ابو عمار اين الدور الاميركي ودور اللجنة الرباعية الدولية؟ ولماذا لا يتولى السيد جون وولف وفريق او قوات تمثل اللجنة الرباعية تأمين الطريق؟ وكيف سيتم تطبيق هذا المبدأ الجديد الغريب في الضفة الغربية؟ وفي احد اللقاءات سأل ابو عمار ساخراً هل يمكنك باعتبارك ابن مدينة قلقيلية رسم طرق التفافية حول عشرات المستوطنات الواقعة على طريق رام الله ـ قلقيلية او على طريق نابلس ـ قلقيلية؟

ولم يكتف شارون واركانه بما فرضوه في مجال الانسحابات والامن، وواصلوا امام سمع الراعي الاميركي والرباعية الدولية وبصرهما سياسة اضعاف ابو مازن واحراجه. وحركت اسرائيل قضية الاسرى وأججت مشاعر ذويهم وحاولت ابتزاز المفاوض الفلسطيني ودق اسفين بين حكومة ابو مازن وفصائل المقاومة وضمنها حركة “فتح”. ورفضت اطلاق سراح سجناء ينتمون لحركتي “حماس” و”الجهاد الاسلامي” والجبهة الشعبية. ووضعت من جانب واحد، معايير غير مقبولة تعطل اطلاق سراح اسرى اتهموا بتنفيذ عمليات أدت الى قتل اسرائيليين حتى لو كان الاسرى ينتمون الى حركة “فتح”. علماً انه تم منتصف الثمانينات، في عهد حكومة شامير الليكودية، اطلاق سراح اكثر من الف اسير فلسطيني من المتهمين بمثل هذه التهمة، وذلك في اطار صفقة تبادل بين اسرائيبل والجبهة الشعبية القيادة العامة بزعامة احمد جبريل. وتكررت العملية ذاتها بعد اتفاق اوسلو في عهد رابين. وامعاناً في تضليل الراعي الاميركي والرأي العام العالمي وتأجيج التطرف في الشارع الاسرائيلي عارض غالبية وزراء شارون بعض المعايير التي اقترحها. وفشل شارون لاول مرة في تاريخ حكمه في تمرير اقتراح يقدمه داخل الحكومة وتم انقاذ الموقف بتراجع احد وزراء حزب شينوي عن موقفه! ولا يزال موضوع الاسرى الحساس يؤجج مشاعر الشارع الفلسطيني، ولا مبالغة في القول انه يمكن ان يتحول بسرعة الى عقبة حقيقية في طريق خريطة الطريق وسبباً مباشراً في تفجير الهدنة.

ولا يعقل ان تكافأ حماس والقوى الاخرى على مواقفها الايجابية بمثل هذا الموقف الاسرائيلي غير الانساني، ولا تجد حكومة ابو مازن منطقاً في الطلب من “حماس” و”الجهاد الاسلامي” والجبهة الشعبية و”كتائب الاقصى” تمديد الهدنة من ثلاثة شهور الى ستة أشهر او عام مثلاً من دون ان يطلق سراح رفاقهم واخوانهم. ولعل يفيد ان يدرك اهل البيت الابيض ان طلباً من هذا القبيل لن يلقى قبولاً من احد وبخاصة ابناء “فتح” المدنيين والعسكريين، وليس سهلاً على ابو مازن اقناع ذوي الاسرى وعشائرهم وقبائلهم بالصبر وانتظار المرحلة الثانية من خريطة الطريق كما يطالب شارون واركان المؤسسة الامنية الاسرائيلية. واصراره على استخدام الاسرى كرهائن حرب وتقليص عدد الذين سيطلق سراحهم الى ادنى حد ممكن يشير الى ان شارون واركانه لا يشاركون رئيس الاركان موشي يعالون تقديراته حين اعلن تحقيق النصر على الانتفاضة، ويبدو انهم مقتنعون بأن عمر الهدنة قصير واطلاق سراح الكوادر القيادية امثال ملوح عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة عضو قيادة الجبهة الشعبية والبرغوثي امين سر قيادة حركة “فتح” في الضفة والمؤثر في تقرير موقف كوادر وقواعد “فتح” وعضو المجلس التشريعي حسام خضر، والشيخ حسن يوسف عضو قيادة “حماس” وواصل عضو قيادة جبهة التحرر الفلسطينية وباقي كوادر القوى الوطنية والاسلامية يربكهم في المعارك اللاحقة التي يخططون لها.

وبجانب التلاعب بقصة الاسرى والانسحابات لم يتردد شارون في رفض طلب اميركي صريح بوقف بناء الجدار الفاصل الذي وصفه خبراء في التمييز العنصري انه اجراء اشد قسوة وعنصرية من الذي طبق في جنوب افريقيا. ومضى شارون قدماً في تقطيع اوصال الضفة الغربية وعزل مدينة قلقيلية وقرى كثيرة عن امتدادها الطبيعي ودمر حياة آلاف الفلسطينيين الذين صودرت اراضيهم ودمرت مزروعاتهم. صحيح ان اركان الادارة الاميركية كرروا موقفهم المعارض للجدار وطلبوا نقله بالحد الادنى الى حدود 1967 لكن الصحيح ايضاً ان العمل في الجدار يتواصل ليل نهار، وان كل متر طول او ارتفاع يبنى فيه يتم على حساب صدقية الموقف الاميركي ويقلص ثقة الفلسطينيين بـ”خريطة الطريقة”.

وفوق ذلك اصر شارون على استغباء الاميركيين والاوروبيين واستفزاز العرب والفلسطينيين وعرض مسرحية سخيفة حول التزامه باخلاء بؤر استيطانية بنيت في عهده، واشرك الجيش في الاخراج والتمثيل، وظهرت وحداته، مشاة ومحمولة، وهي تخلي اعداداً من المستوطنين الذين أبدوا امام الكاميرات بسالة في مقاومة الجيش دفاعاً عن كارافاناتهم” ولسوء حظ شارون رفض المستوطنون العمل بمقولته “ابنوا وتوسعوا من دون ضجيج اعلامي” وكشفوا اللعبة وأعادوا بناء البؤر التي ازالها الجيش وزادوا عددها واحدة.

بعد هذا العرض لمواقف القوى، اعتقد ان استمرار الادارة الاميركية في موقف المتفرج على مواقف شارون العنجهية وممارساته المدمرة لجهود ابو مازن يعجل في تدمير الهدنة وتدمير مقومات نجاح الحركة الاميركية الجديدة. والعالمون بدواخل البيت الفلسطيني يؤكدون ان بقاء عرفات رهن الاقامة الجبرية يعني بقاء علاقة ابو مازن مضطربة مع قيادة وكوادر “فتح”. والمقربون من ابو مازن يعتبرون اضطراره لتقديم الاستقالة بمثابة رسالة عاجلة تحمل انذاراً لمن يهمه امر اعادة احياء عملية السلام على المسار الفلسطيني يؤكد ان “خريطة الطريق” في خطر ومعرضة للالتحاق بخطط تينيت وميتشل وزيني التي استهلكها الطرفان ونسيها الناس في الضفة والقطاع وربما في اسرائيل ايضاً.

ولعل يفيد ان يفهم مبكراً اهل البيت الابيض في واشنطن ان عودة ابو مازن عن الاستقالة ومصالحته مع عرفات تحلان الإشكال موقتاً ولا تُغيّران في النتيجة، خصوصاً اذا بقيت قصة عرفات والاسرى من دون حل مقبول، ولم يحصل ابو مازن على ما يقوي مواقعه في “فتح” ويكسبه ثقة الشارع الفلسطيني، وان تراجع ابو مازن اليوم عن الاستقالة لا يوفر ضمانة اكيدة بان لا يفاجئ الجميع ويعلن للناس انه جرّب وفشل. وليس من طباع الرجل اللجوء الى المناورة لابتزاز اخوانه في قيادة “فتح” والقيادة الفلسطينية. وليس مستعداً في كل الظروف لتحمل مسؤولية تفجير صراعات فلسطينية دموية وتفجير ازمة حقيقية داخل “فتح” الذي اسسها.

لا شك في ان المصلحة العليا للفلسطينيين تفرض عودة ابو مازن عن الاستقالة اليوم قبل الغد، والمصلحة ذاتها تفرض على ابو عمار واخوانه في اللجنة المركزية والمجلس الثوري منح ابو مازن

فرصة استكمال حركته وفق رؤيته التي يرى فيها طريق الخلاص. واقل من مئة يوم غير كاف لاطلاق احكام نهائية على رؤيته وتجربته في الحكم. واذا كانت الرؤية الاخرى (الانتفاضة والمقاومة) جرّبت الف يوم فمن حق ابو مازن ان يطلب ثلث الفترة (سنة) قبل اطلاق حكم نهائي على منهجه. وفي جميع الحالات خير للقوى الوطنية والاسلامية تجنب الانجرار وراء استفزازات شارون وتحاشي العودة الى ملعب العمل العسكري الذي يحاول استدراجهم اليه مرة اخرى. وان يتم توحيد الطاقات وتركيز الجهود باتجاه تقليص الخسائر الفلسطينية البشرية والاقتصادية وتوسيع مهمة المبعوث جون وولف وزيادة عدد المراقبين المرافقين له، وإشراك دول اللجنة الرباعية والامم المتحدة في حماية الشعب الفلسطيني وارضه من عدوانية شارون والمتطرفين الاسرائيليين المؤتلفين معه.