النظام السياسي الفلسطيني بين الداخل والخارج ح1 نشوء النظام الفلسطيني

بقلم ممدوح نوفل في 01/05/1999

القسم الاول تعريف النظام السياسي الفلسطيني
في مقدمة بحث أوضاع النظام السياسي الفلسطيني الراهن واشكالياته الفكرية والسياسية والتنظيمية، وآفاقه المستقبلية، تبرز الحاجة لتعريفة وتحديد مكوناته الاساسية: فهل هو منظمة التحرير أم السلطة وطنية، أو المنظمة والمعارضة ؟ وهل هو نظام جبهوي ديمقراطي أم نظام الحزب الواحد؟ وهل إنتهت مرحلة م ت ف المكون الرئيسي للنظام ؟ وهل يمكن للسلطة الوطنية أن تكون بديلا عن م ت ف؟ وما علاقة الداخل بالخارج وما دور كل منهما نحو الآخر. وماذا عن العلاقة مع داخل الداخل..أي بمليون فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية ؟ التعريف الصحيح هو الذي يتعامل مع الحركة الوطنية الفلسطينية بكل اتجاهاتها الفكرية والسياسية باعتبارها النظام السياسي الفلسطيني. وبتحديد تفصيلي أدق هو قوى : منظمة التحرير، والسلطة الوطنية، والمعارضة في الداخل والخارج المشاركة وغير المشاركة في السلطة والمنظمة. وهذا التعريف يشمل كل قوى الشعب باستثناء فلسطيني إسرائيل الذين لا يزالون خارج النظام السياسي الفلسطيني كله. صحيح ان م ت ف كانت ولا تزال الممثل الشرعي والوحيد لكل الشعب الفلسطيني على كل الصعد والمستويات الرسمية العربية والدولية، الا أن الواقع الفلسطيني القائم على الارض لا يمكّن أي طرف من الأطراف المكونة للنظام السياسي الفلسطيني، بما في ذلك م ت ف، الإدعاء أنه وحده الممثل لكل الشعب والمعبرعن إرادته. فتآكل مؤسساتها السياسية، وإهتراء أطرها الجماهيرية والعسكرية، وتراجع دورها القيادي “عمليا” لصالح السلطة، وبقاء بعض الاطراف الوازنة في المجتمع “حركة حماس مثلا” خارجها يشكل على الصعيد الوطني “وليس التمثيل السياسي” ثغرة في تمثيل المنظمة لكل الشعب، وثغرة في قدرتها على التعبير الشامل عن الجميع. فحركة حماس قوة فعلية لها ثقلها في الشارع الفلسطيني، وهي في الوقت الراهن القطب القيادي للمعارضة، وقادرة على التأثير في الحركة السياسية العامة.
وبجانب هذه الثغرة يعتبر بقاء علاقة فلسطينيي اسرائيل بالنظام السياسي الفلسطيني على ما هي عليه حتى الآن ثغرة أساسية ثانية. فحجمهم الآن يعادل 13% تقريبا من إجمالي الفلسطينيين في العالم. ويساوي 25% تقريبا من المقيمين على أرض فلسطين التاريخية. ومهما كان دورهم محدودا “راهنا” في إطار النظام السياسي الفلسطيني، فوضعهم يؤثر بصيغة وأخرى، في النظام السياسي الإسرائيلي، وعملية التسوية، ومستقبل السلام الفلسطيني الاسرائيلي. والمفاوضات حول قضايا اللاجئين وأملاك “الغائب” تمسهم. ولهم كامل الحق المشاركة في ابداء الرأي بشأن تقرير المصير الفلسطيني، فهم لا يزالون يعتبرون أنفسهم جزء لا يتجزء منهم وقوى الشعب تعتبرهم كذلك. ناهيك عن أهمية إستثمار القيادة الفلسطينية لكل طاقات الشعب وضمنها طاقاتهم في الصراع بغض النظر عن أماكن تجمعه وتواجده.
نشوء النظام السياسي الفلسطيني
وفهم واقع النظام السياسي الفلسطيني الحالي وآفاقه المستقبلية بصورة أشمل وأعمق، يتطلب مراجعة تاريخه لسيرته الذاتية، والتعرف على أبرز مراحل تشكلة. ورغم ان مراحل تطوره كانت دوما متشابكة ومتداخلة فبالامكان رسم حدود كل واحدة منها، وليس عسيرا التعرف على خصوصيتها الوطنية. وتظهر المراجعة العامة حداثته النسبية، وتبدل قواه أكثر من مرة، وبقاء منطلقاتها الفكرية والسياسية متأرجحة بين الوطني والقومي فترة طويلة. مرحلته الاولى بدأت مع بداية القرن وإستمرت حتى النكبة 1947 ـ 1948. يمكن تسميتها بمرحلة ظهور ونهوض الوطنية الفلسطينية، ورسم ملامح صورة الكيان الفلسطيني، وبداية تبلور وتشكل نظام سياسي فلسطيني موحد على الأرض. فالوطنية الفلسطينية، بأشكالها التي ظهرت مطلع القرن في العهد العثماني، بقيت عاجزة لاعتبارات موضوعية وذاتية، عن تصور قيام كيان فلسطيني مستقل في فلسطين. وبعد الحرب العالمية الاولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، وقعت النهضة الوطنية الفلسطينية الاولى، وبرزت فكرة إستقلال فلسطين في إطار إستقلال سوريا الكبرى. في تلك الفترة فرضت التجزئة الاستعمارية للبلاد العربية ووعد “بلفور” عام 1917، على الوطنية الفلسطينية طرح تصورها لمستقبل فلسطين ككيان منفصل عن سوريا الكبرى. وجاء صك الانتداب الذي أصدرته عصبة الامم المتحدة عام 1922، فأجج الوطنية الفلسطينية وعزز فكرة النضال من أجل إقامة كيان فلسطيني مستقل عن سائر الدول العربية. وبرزت مطالبة الفلسطينيين باقامة حكومة فلسطينية مسؤولة أمام برلمان. خاصة وأن الصك الدولي كلف بريطانيا القيام بمهمة “وضع فلسطين في أحوال سياسية وادارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي فيها”. الا أن دولة الانتداب “بريطانيا” رفضت المطالب الفلسطينية وقاومت أفكارهم التحررية. وظلت مصممة على توفير شروط اقامة الوطن القومي اليهودي. وفي10 اب 1922 وضعت بريطانيا “دستور فلسطين” رفضه الفلسطينيون.
لاحقا مع تزايد الهجرة اليهودية الى فلسطين إتسع إنتشار تيار الوطنية الفلسطينية، وتعددت أطر النظام السياسي الفلسطيني، وظهرت قوى وحركات سياسية ومسلحة جديدة. وبرز جليا شعار “إنهاء الانتداب وإستقلال فلسطين”. وغدا هدفا وطنيا تمسك به الفلسطينيون، وخاضوا من أجل تحقيقه، في الثلاثينات والاربعينات، معارك متنوعة. وقبل وقوع الحرب العالمية الثانية، لم تدرك “الوطنية الفلسطينية” خطورة الدعم الدولي الذي تلقته توجهات الحركة الصهيونية العالمية. وعندما وقعت لم تعي التغيرات التي أحدثتها في أوضاع المنطقة وفي العلاقات الدولية، وتحول المهاجرين اليهود الى قومية محددة الملامح، وقوة إقتصادية وسياسية كبيرة. ومع إحتدام المعارك بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود الجدد والقدامى، تكثفت التحركات الدولية لايجاد حل مناسب للصراع. وبرزت فكرة تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية. وخطى الفكر السياسي الفلسطيني خطوات كبيرة على طريق طرح تصور متكامل لمستقبل فلسطين. وبرز في النظام السياسي تياران: الاول قومي، رفض التفاهم مع زعماء اليهود، وتمسك بدولة فلسطينية مستقلة على كل الأراضي الفلسطينية. والآخر، كان الأضعف، دعى الى التعايش مع اليهود في إطار دولة يهودية ـ عربية ديمقراطية موحدة. إلا أن المواقف الدولية، وتعقيدات الصراع، وموازين القوى المختلة لصالح اليهود، حالت دون نجاح هذا الحل الديمقراطي، خاصة وأنه كان مرفوضا بالمطلق من الحركة الصهيونية. وكانت النتيجة صدور قرار التقسيم عن الامم المتحدة عام 1947. وبصدوره إنتقل الفلسطينيون الى واقع جديد، ودخل الفكر والنظام السياسي الفلسطينيين مرحلة نوعية جديدة كليا. وقررت القيادة الوطنية الفلسطينية ممثلة “بالهيئة العربية العليا”، رفض الاعتراف بقرار التقسيم. فمعظم الأرض كانت لهم (90%ـ95%) وكانت تحت سيطرتهم، وكانو هم الاكثرية واليهود أقلية. وبعد الاعلان عن قيام دولة اسرائيل قررت جامعة الدول العربية في “1/12/1948 بناء على طلب الفلسطنيين ” تشكيل حكومة عموم فلسطين برئاسة الحاج أمين الحسيني. الا انها لم تنل الاعتراف الدولي المطلوب، ولم تنجح في تكريس ذاتها كجزء من النظام السياسي الفلسطيني ولم تعمر طويلا، وضاع إسمها مع تلاشي وتبخر معظم قواه واندماج بعضها في أطر الحركة القومية العربية. واذا كانت مواقف القوى الدولية الكبرى حالت في تلك المرحلة دون حصولها على الاعتراف الدولي المطلوب فالواضح ان رفض قرار وتسميتها حكومة “عموم” فلسطين وفرت لتلك الدول الغطاء لموقفها الجائر.
تشكل داخل وخارج في النظام السياسي
بوقوع “النكبة” وتجسيد نتائجها السياسية والديمغرافية على الارض، دخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة اختلفت نوعيا عن تلك التي مر بها في النصف الاول من القرن. بدأت بالهزيمة المرة التي لحقت بالجيوش العربية وبالحركة والوطنية الفلسطينية، واستمرت حتى النهضة الوطنية الثانية، وتشكيل م ت ف، وانطلاق الثورة المسلحة عام 1964 ـ 1965. ويمكن تسميتها بمرحلة الاتكالية الفلسطينية على العرب وانتظار الحلول الدولية، وتبعثر مكونات النظام السياسي، وتشكل أرضية حقيقية لقيام جناحين له، الاول في الداخل والثاني في الخارج حيث تواجد اللاجئون. وخلال تلك المرحلة قسمت الارض بين عدد من دول المنطقة “إسرائيل، الاردن، سوريا، لبنان”، وبقيت اراضي قطاع غزة فلسطينية ووضعت تحت الوصاية المصرية. وتبعثر الشعب بين داخل وخارج. أي في الشتات، وفوق أرضه التي صار إسمها إسرائيل، وفوق ما تبقى منها خارج نطاق السيطرة والسيادة الاسرائيلية “الضفة الغربية وقطاع غزة ومنطقة الحمة”. وتلاشت قوى الحركة الوطنية الفلسطينية، وإنتهت مكونات النظام السياسي الفلسطيني. وانخرط طلائع الحركة الوطنية القديمة في حركات وأحزاب قومية عربية واسرائيلية وأممية منها: حزب البعث، حركة الاخوان المسلمين، حركة القوميين العرب، الحزب الشيوعي، حزب التحرير الاسلامي، الاحزاب الاردنية، الاحزاب الاسرائيلية اليمينية واليسارية الحاكمة والمعارضة. وتم تبديد الهوية الوطنية بين “الاردنة” و”الاسرلة” وهوية مواطن اللجوء والشتات. واحتفظت أقلية فلسطينية في غزة بهويتها. وظهر منتصف الخمسينات على أرض غزة عدة تنظيمات سياسية ومسلحة لكنها لم ترق لمستوى تشكيل حركة وطنية مستقلة ونظام سياسي فلسطيني واضح المعالم.
عودة الروح للوطنية وهيمنة قوية للخارج
ورغم نجاح الحركة الصهيونية في النصف الثاني من الخمسينات في توطيد دعائم دولة اسرائيل وبروزها كقوة عسكرية كبيرة، إلا أن اللاجئين الفلسطينيين لم يسلموا بوجود دولة اسرائيل، ولم يفقدوا الأمل بالعودة الى بيوتهم والاستقلال وقيام دولتهم. وبعد طول انتظار أدرك طلائع اللاجئين أن إنتظار التحرير على يد الغير لا يحرر الأرض ولا يعيد الحقوق المغتصبة. وظهرت في صفوفهم ميول جدية للنهوض من حالة السبات، والقيام بدورعسكري فلسطيني مستقل ضد إسرائيل. وقامت في قطاع غزة عدة تنظيمات فلسطينية تبنى بعضها الكفاح المسلح، ولقيت رعاية شبه رسمية من النظام المصري بزعامة عبد الناصر وجهاز الاستخبارات العسكرية المصري. وتخوفت “دول الطوق” المحيطة باسرائيل من نواياها العدوانية وأطماعها في الأراضي والمياه العربية. خاصة بعد أعلانها، أواخر عام 1963، عزمها إتمام المرحلة الاولى من مشروع تحويل وجر مياه نهر الأردن الى منطقة النقب. وعلى خلفية تلك التطورات عقد الزعماء العرب في كانون اول 1964 أول قمة جامعة لهم في القاهرة. اتخذوا فيها، بدفع من عبد الناصر عدة قرارات منها: “تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية” كأطار لتعبئة وتنظيم وحشد طاقات كل الشعب الفلسطيني في الداخل “اسرائيل” والخارج في معركة التحرير”. وفي ذات العام عقد المجلس الوطني الاول أولى دوراته في القدس وتم ترسيم قيام م ت ف. وصادق على الميثاق “القومي” لمنظمة التحرير وعلى نظامها الاساسي. وقرر فتح معسكرات في الدول العربية لتدريب القادرين على حمل السلاح، والشروع في تشكيل كتائب عسكرية نظامية وكتائب فدائية. ولاحقا في الاول من كانون ثاني 1965 أعلنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” عن وجودها كحركة فلسطينية مستقلة تعتمد الكفاح المسلح كأسلوب للتحرير. وقالت “من فوهة البندقية تنبع السياسة”.
وبتشكيل منظمة التحرير، وإنطلاق “فتح” كحركة مسلحة، وإلتحاق قوى فلسطينية أخرى بذات الإتجاه، دخل النظام السياسي مرحلته الثالثة إستمرت حتى إنطلاقة الإنتفاضة عام 1987. ويمكن تسميتها بمرحلة عودة الروح للوطنية الفلسطينية. وتمرد طلائع ونشطاء الشعب الفلسطيني في الخارج على البيت القومي، ونهوض النظام السياسي الفلسطيني بمكونات جديد، وإنبعاثه كحركة مسلحة من الخارج. وبعد هزيمة العرب الثانية عام 1967، توحدت الأرض الفلسطينية، وتجمع نصف الشعب في الضفة والقطاع مع الفلسطينيين في إسرائيل تحت نظام سياسي واحد هو الإحتلال الإسرائيلي. وفي الخارج صعدت مشاعر الإنتماء الوطني بشيء من التعصب والتطرف الوطني. وتبلورت الأهداف الوطنية، وتحددت بتحرير الأرض “كلها” من الإحتلال وإقامة الدولة المستقلة، وعودة اللاجئين والنازحين.
وبعد صراع داخلي قصير توحدت قوى النظام الفلسطيني في إطار م ت ف كنظام جديد يمثل كل الشعب. باستثناء جناحها الملتحق بالتيار الديني، الذي ظل منخرطا في اطار الحركات الدينية العربية وبخاصة حركة الاخوان المسلمين. وحاول بعض أطرافها معالجة مشكلة اليهود في فلسطين وتبنى فكرة دولة فلسطينية ديمقراطية موحدة يتعايش فيها العرب واليهود على قدم المساواة أمام القانون. وعلى امتداد عقدي السبعينات والثمانينات نشأ شكل من أشكال الوحدة والصراع بين الدور القومي والوطني المستقل. توج بتجذر الوطنية الفلسطينية عند كل أطراف النظام السياسي في الخارج. واذا كان لا مجال، في هذه المادة، لمحاكمة مواقف النظام السياسي الفلسطيني “الثورة” في مرحلة لبنان 1972 ـ 1982 فالثابت أنه (1) نجح في إحياء القضية الوطنية وجعلها قضية دولية لها أولوية في المعالجة. وكرس الترابط الوثيق بين الامن والاستقرار في المنطقة وبين حل المسالة الفلسطينية. (2) بعث حياة جديدة في الوطنية الفلسطينية وأيقظ روحها في صفوف كل الفلسطينيين بلغت عند البعض حد “الشيفونية” احيانا، وخلق حركة فلسطينية قوية مستقلة، ووحد الشعب حول أهداف وطنية واضحة، وأشرك معظم تجمعاته في الخارج في النضال من اجل التحرير والدولة والعودة. (3) أنهى الاحتواء العربي للحركة الوطنية الفلسطينية وخلصها من الوصاية السياسية. وكرس م ت ف ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وانتزع اعتراف عربي ودولي شبه شامل بذلك. (4) بانتزاع م ت ف شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني، وتعاظم نفوذها في صفوف اللاجئين تعزز ثقل الدور الكفاحي لجناح النظام السياسي الفلسطيني في الخارج، وتولى قيادة دفة السفينة. وضعف دور جناح الداخل وصار ملحقا بالخارج. ولم يجري تمثيله عمليا في أطر” النظام السياسي الرسمي” اي المؤسسات التشريعية والتنفيذية للمنظمة والفصائل. فمن جهة عطل الاحتلال أخذ الداخل دوره في هذه الاطر، ومن جهة اخرى أهملت قيادات النظام السياسي في الخارج الوضع في الداخل. ويمكن القول أن نصف ما أنفقته م ت ف والفصائل الفلسطينية في لبنان كان يكفي لتأسيس قاعدة اقتصادية وكفاحية قوية في الضفة والقطاع. (5) غرق النظام السياسي الفلسطيني في لبنان في بحور من الصراعات مع النظامين اللبناني والسوري ومع عدد من القوى اللبنانية. أشغلته عن مهامه في “الداخل”. بعضها كان مشروعا فرضته متطلبات الدفاع عن التمثيل وعن استقلالية القرار الوطني، وبعضها الآخر أقحم نفسه فيه عندما تحول الى دولة داخل الدولة في لبنان وساهم بصيغة واخرى في تفكيك نظامه الرسمي. (6) تورط النظام السياسي الفلسطيني في مهام عسكرية دفاعية رئيسية عن الاراضي اللبنانية في مواجهة الهجمات الاسرائيلية المتواصلة. ألزمته تحويل تشكيلاته القتالية من تشكيلات عصابية تقاتل اسرائيل فوق الاراضي الفلسطينية الى تشكيلات جيوش نظامية ثقيلة الحركة مثقلة بالمعدات بما في ذلك المصفحات والدبابات والمدفعية الثقيلة، أضعفت قدرته على تطوير أشكال النضال الفدائي داخل الوطن المحتل. (7) وعلى إمتداد تلك المرحلة “ربع قرن” أرسى النظام السياسي الفلسطيني نمطا من العلاقات الداخلية يمكن وصفها “بديمقراطية التراضي” بين أطرافه الاساسية، وبالديكتاتورية العسكرية في الحياة الداخلية. فرغم وجود الاطر التشريعية والتنفيذية، الا ان طغيان العسكرة على البنى الداخلية، وتغليب المصالح الفصائلية الخاصة على المصلحة الجماعية حالت دون الالتزام بمبدأ حق التباين والاختلاف في وجهات النظر وحق التعبيرعنها، وساد مبدأ “وحدة صراع انشقاق”. وكثيرا ما شهد النظام السياسي الفلسطيني انقسامات داخلية حادة وتشكلت تكتلات “جبهات رفض” وإنتهج الجميع سياسسات تناحرية غير ديمقراطية. ولعل تفاجؤ جميع أطراف النظام السياسي الفلسطيني بإنتفاضة أهل الضفة والقطاع أواخر عام 1987 يبين عمق الهوة التي كانت تفصل بين النظام السياسي في الخارج وبين الناس هناك.
الانتفاضة نقلت ثقل النظام السياسي من الخارج للداخل
بإنطلاقة الانتفاضة في قطاع غزة والضفة الغربية، دخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة من مراحل نشوءه وتطوره، إستمرت حتى انعقاد مؤتمر السلام في مدريد عام 1991 وتوقيع اتفاق اوسلو عام 1993. يمكن تسميتها مرحلة انتقال مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج الى “الداخل” الضفة والقطاع. وشروع القوى الدولية بقيادة الولايات المتحدة الامريكة في بحث جدي عن حل للصراع الفلسطيني العربي الاسرائيلي. فالانتفاضة بزخمها وجماهيريتها المذهلة جعلت القضية الفلسطينية قضية ذات أولوية دولية في المعالجة. وكرست فلسطينية الحل، وانهت التفكير الاسرائيلي والدولي بالبحث عن لحلول في الاطار العربي. وأعلن الاردن أواخر تموز 1988 فك ارتباطه رسميا بالضفة الغربية، بعدما ظل قرابة 40 عام متمسك بضمها. وتكرست الهوية والاهداف الوطنية الفلسطينية بقوة عربيا ودوليا. وصعد دور الداخل في اطار النظام السياسي الفلسطيني من جديد، وتشكل داخل الاراضي المحتلة “الضفة والقطاع” مركزا قياديا “القيادة الوطنية الموحدة” أثبت في المرحلة الاولى كفاءة قيادية عالية في قيادة الجماهير، وأظهر قدرة فائقة على تحريكها في الاتجاهات السياسية والكفاحية الوطنية السليمة. وربط بين الاهدف والمطالب المباشرة لأبناء الانتفاضة بالأهداف الوطنية للشعب كله، لكنه لم يخرج عن السقف الذي حددته له قيادة الخارج. وقدم أبناء فلسطين في داخل الداخل “اسرائيل” ما إستطاعوا من دعم وإسناد للانتفاضة وأهدافها. وكادت بعض الفصائل ان تورطهم في صراع خاسر عندما طالبت “الجبهة الشعبية” بتحريك فلسطيني ال48 ونقل الانتفاضة الى قلب اسرائيل..
وباعلان “قاوم” عن نفسها الذراع الضارب لمنظمة التحرير وتيقن القوى الدولية والعربية من ذلك، تعززت مكانة م ت ف على الصعيدين العربي والدولي. وبرز شعور فلسطيني قوي في الداخل والخارج بالاعتزاز بالوطنية الفلسطينية. أجبر قيادة حركة حركة الاخوان المسلمين في الضفة والقطاع على التخلص نسبيا من هويتها الاممية الاسلامية، والتحرر جزئيا من ارتباطها التنظيمي بحركة الاخوان المسلمين في مصر والاردن. وشكلت حركة المقاومة الاسلامية في الضفة والقطاع، إنضمت “بالعام” للنظام السياسي الفلسطيني. ونجحت في اثبات وجودها الفاعل في اطار الانتفاضة. وصعد نفوذها في الشارع الفلسطيني، وراحت تشارك بقوة في نشاطات الحركة الوطنية داخل الارض المحتلة. ورفضت الانضمام الى م ت ف وطرحت نفسها بديلا لها، وشكلت أطرها الخاصة بموازاة الاطر الموحدة للانتفاضة.
في تلك الفترة تعرضت فصائل العمل الوطني في الخارج لهزة عنيفة، طالت مرتكزاتها الفكرية والسياسية وأساليب عملها التنظيمية والعسكرية. وبدلا من التفاعل الايجابي مع المتغيرات التي أحدثتها الانتفاضة في أوضاع الحركة الوطنية سارعت لإحتوائها وإجهاظها. وعوضا عن معالجة النواقص والثغرات التي كشفتها الانتفاضة، وبخاصة العسكرة ونقص الديمقراطية، نقلت أمراضها الى جسم القيادة الوطنية الموحدة وجسم الانتفاضة كله. وفرضت قوانينها وأسس علاقاتها الجامدة وأساليب عملها على الانتفاضة، وعسكرتها. لقد حاولت الفصائل إدخال جسم الانتفاضة الكبير في أثوابها الضيقة فتشققت أثوابها، وبقي الجسم المنتفض خارجها. ونشأ صراع داخلي مبطن بين الداخل والخارج. وخشيت قيادة الخارج من تبلور قيادة وطنية فعالة موازية لها تشاركها في صياغة القرار الوطني، فبذلت جهودا كبيرة مبطنة لتحجيم دور الداخل وإبقائه أداة تنفيذية وليس أكثر.
في حينه توفرت فرصة كبيرة لجناح الداخل ليأخذ موقعا فاعلا في النظام السياسي الفلسطيني، وليلعب دورا مؤثرا في صياغة القرار الوطني وفي رسم المصير الوطني. الا أن “قاوم”، والشخصيات الوطنية في الداخل، وفروع التنظيمات والأحزاب الوطنية هناك لم تحاول إستثمار دورها في الانتفاضة كما يجب، ولم تستغل التحول النوعي الذي أحدثته الانتفاضة في بنية النظام السياسي الفلسطيني. ولم تبذل الجهد اللازم لإعادة الاعتبار لدورها الوطني. وترددت في التقدم لإحتلال مواقع تنظيمية جديدة في النظام السياسي العام، ولم تحاول فرض صيغ تنظيمية وطنية تكرس مشاركة الداخل مشاركة حقيقية في صناعة القرار الوطني. ولاحقا كرست بيانات القيادة الوطنية الموحدة، وسلوك قيادات الفصائل في الداخل، الدور القيادي للخارج للانتفاضة وللمسيرة الوطنية ككل. ورضيت بتسليم أمرها للخارج، بما في ذلك تدخله في صياغة بيانات “قاوم” وانضبت تماما للتعليمات الاساسية والتفصيلية التي كانت تصلها من الخارج “اللجنة العليا للانتفاضة”. ونفذت ما طلب منها دون نقاش، بما في ذلك أشكال تحركاتها اليومية.
مع تواصل الإنتفاضة وثبوت تولي م ت ف قيادتها وتوجيهها، أدركت القوى الدولية المعنية باستقرار أوضاع المنطقة بأن تواصل حركة الانتفاضة يؤجج الصراع في المنطقة ويعرض مصالحها للخطر، خاصة وأنها بدأت في خلق تفاعلات اولية في الشارع العربي ووضعت النظام الرسمي العربي في وضع حرج. في حينه بدأت مرحلة جديدة من التحركات الدولية والاقليمية لحل النزاع بالطرق السلمية. وجددت الادارة الامريكية محاولاتها باتجاه ايجاد تسوية للصراع. وبعد انهيار سور برلين وتفكك حلف “وارسو”، وصمت المدافع على جبهات حرب الخليج وهزيمة النظام العراقي، تقدم الرئيس الامريكي “جورج بوش” بمبادرته المعروفة لصنع السلام في المنطقة. ولاحقا إقتنع معظم القيادة الاسرائيلية بأن إسستمرار التهرب من معالجة صراعها مع العرب والفلسطينيين يؤجج التطرف في كل انحاء المنطقة، ويلحق بها على المدى المباشر والبعيد خسائر استراتيجية تمس علاقاتها الدولية، وأخرى تطال بنيتها الداخلية وهويتها المستقبلية. واقتنعت بضرورة المشاركة في البحث عن حلول سياسية للصراع. ووافقت على الذهاب الى مؤتمر مدريد للسلام “31/10/1991″ الذي دعت له الادارة الامريكية، ونجحت في فرض الشروط التي أرادتها.
ويسجل للانتفاضة بأنها في الوقت الذي انعشت الحركة الاسلامية في الضفة والقطاع، سرعت وقوع تحولات نوعية في الفكر السياسي الفلسطيني. وعززت المواقف والتوجهات الواقعية الكامنة في الشارع الفلسطيني، وأضعفت الاتجاهات الوطنية “العلمانية” المتطرفة. وضغطت باتجاه تطوير البرنامج المرحلي للمنظمة والإقرار بشعار “دولتين للشعبين ” على ارض فلسطين التاريخية، والإعتراف بقرار مجلس الامن 242. ويسجل لعدد من أطراف النظام السياسي بانهم أجادوا إستثمار الانتفاضة، ووظفوا تفاعلاتها الداخلية والخارجية لصالح تعزيز مكانة م ت ف. وأجادوا إستثمار التطورات الدولية التي وقعت في تلك الفترة، ووافقوا على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام، وفي البحث عن حل عادل للقضية الفلسطينية بالطرق السلمية. وكان واضحا للجميع بأن المشاركة الفلسطينية في المؤتمر الدولي تمت بفضل الانتفاضة وبفضل السياسة الواقعية التي انتهجتها قوى أساسية في النظام السياسي الفلسطيني. وأن قيادة الخارج كانت وستبقى مسئولة، لإشعار آخر، عن كل النتائج الايجابية والسلبية التي تفرزها عملية السلام على القضية الوطنية. ويسجل للفلسطينيين في اسرائيل أنهم ساندوا مواقف الاتجاه الواقعي، وأيدوا قرارات المجلسين الوطني والمركزي، التي خولت قيادة م ت ف المشاركة في مؤتمر السلام ووفقا للاسس التي تضمنها رسالة الدعوة التي وجهها الراعيين للمؤتمر الامريكي “والسوفيتي”، واعتبروا المشاركة في عملية السلام مكسبا فلسطينيا يقوي مواقفهم ويعزز موقعهم في الخارطة الحزبية والسياسية الاسرائيلية.